المسؤولية الجنائية لرؤساء الدول كمسببيً حَرْب
الباحث /احمد الجبير
التاريخ البشري حافل بالشواهد على الحروب التي عصفت بالبشرية على مر العصور. وقد تنبه الأنسان مؤخراً بأن عليه الحد من هذه الظاهرة. وعليه فقد تبنت الدول الحديثة مباديء محاسبة مسببي الحروب والمخالفين لكل القيم والأعراف والقوانين الدولية، كما ومعاقبة القائمين على كل الإنتهاكات ضد البشرية وقوانينها السارية. وقد شهد العالم مؤخراً عدة محاكمات. ويبدو إن الرغبة موجودة في إنشاء المزيد.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يؤدي اللًجوء الى القوة المسلحة خارج الحالات التي تنص عليها لوئح الامم المتحدة، الى المحاكمة امام العدالة الدولية؟ وأي المحاكم الدولية التي يمكنها النظر في جرائم الحرب والاعتداءات على حقوق الانسان المرتكبة في حال حصولها؟
إن المحاكم الدولية التي إختصت بجرائم الحروب والتي تم تشكيلها منذ الحرب العالميه الثانيه حتى الوقت الحاضر هي التالية:
* المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرج عام 1945.
* المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة عام 1993،
* والمحكمة الدولية لرواندا عام 1994.
* المحكمة الجنائية الدولية 2003.
إضافة الى وجود محكمة العدل الدولية والتي أنشئت عام 1946.
لابد من التوضيح أولاً بأن "النظام القانوني الدولي لا يزال مبنيا على مبدأ السيادة، ولا تزال الدول ومسؤولوها يحتفظون بوسائل حماية فعًالة. فمحكمة الجزاء الدولية لا يمكنها التدخل مثلا الا اذا كانت الدولة التي وقعت فيها الجريمة والتي ينتمي اليها المتهم قد صًدقت على قانون هذه المحكمة".
فهل هذا يعني أن الحكام ودولهم بعيدين عن أي عقاب قانوني بسبب هذه الأنواع من الحماية؟ والجواب هو في الحقيقة : كلا، وذلك بسبب التطورات القانونية التي أتسعت مهامها ومجالاتها خصوصاً في المجال الجزائي ( كما يرى بعض الباحثين). فإنشاء محكمة الجزاء الدولية، وحرص العديد من الدول للتوقيع عليها، يعكس الرغبة العالمية لتطبيقها ومحاسبة الذين يستحقون الحساب على جرائمهم ضد الإنسانية بجميع أشكالها. ورغم عدم توقيع بعض البلدان على الإتفاقية، إلا إن ذلك لايمنع من تعاونها (الدول غير الموقعة على الإتفاقية) في حال تسليم مجرمين للعدالة وما الى ذلك. ومن التمعن بالخطوات التي سارت عليها عملية إنشاء محكمة الجزاء الدولية، نرى الأقرار والقبول الطوعي للبلدان الموقعة للإلتزام بالقواعد الدولية المشتركة، وبالتالي لتخطي الجدل الحاصل على موضوع التمسك بموضوع السيادة الوطنية، والذي يفرز ظاهرة التحفظ وعدم تسليم من يستحق العقاب، وبالتالي لتجاوز القوانين والإستهانة بما يسببه هؤلاء من جرائم.
ومن المظاهر العملية للمحاسبة القانونية لأشخاص في مراكز عليا في السلطة أو مسؤولين سياسين، هو ماتقدم به عام 1998، قاضيان إسبانيان. إذ قًدما مذكرة لتوقيف الرئيس الشيلي السابق الجنرال اوغوستو بينوشيه، وعضو مجلس الشيوخ الشيلي في حينها، رغم تمتعه بالحصانة الدبلوماسية. " وقد تم توقيفه من قبل الشرطه الإنكليزيه بناءاً على مذكرة التوقيف الدولية التي أصدرها القاضيان والتي تحتوي على إتهامات جرائم ضد البشرية، أعمال إرهابية، وعمليات التعذيب لمواطنين من ذوي الجنسية الأسبانية.
ورغم إن محاكمة الدكتاتور بينوشيه لم تتم، إلا إن ذلك عكس الرغبة التي تم تثبيتها في لوائح المحكمة الجنائية الدولية. إذ أنه واستثناءاً لقواعد الحصانة الديبلوماسية يمكن ملاحقة رؤساء الدول والحكومات. و"خلافا لمحكمة العدل الدولية التابعة للامم المتحدة والتي انشئت عام 1946 والتي تنظر في الخلافات بين الدول فقط، فان محكمة الجزاء الدولية تحاكم الافراد على طريقة المحاكم المتخصصة مثل المحكمة من اجل يوغوسلافيا السابقة ورواندا. ويحدد نطاق صلاحياتها بجرائم الابادة والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب والاعتداء الواقعة في اي مكان ابتداء من سريان صلاحياتها في الاول من تموز/يوليو 2002".
"من ناحية الجوهر، تعد المحكمة الجنائية الدولية بوضوح مكملة للأمم المتحدة : يقرر النظام الأساسي نظاماً أساسياً للقضاء الجنائي يزيد من كفاءة نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه ميثاق الأمم المتحدة. ويشكل هذان النظامان العناصر الرئيسيه لنظام قانوني دولي مكرس للحفاظ على السلم. وتجدر الإشاره أيضاً الى أن الوظيفه الرئيسية للمحكمة الجنائية الدولية هي التعامل مع الجرائم التي تهم، وفقاً للديباجة، المجتمع الدولي ككل،. ومن ثم، فإنه يمكن القول أن المحكمة الجنائية الدولية ستكون بمثابة مثال آخر لموضوع قانوني دولي ينشأ بموجب معاهدة، ورغم ذلك فإنه يكون قائماً بشكل فعًال بالنسبة للجميع".
ورغم ذلك فهناك من الدول التي إمتنعت عن التوقيع على إتفاقية إنشاء محكمة الجزاء الدولية منها، الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وتركيا وإسرائيل والعراق.
وتختلف محكمة الجزاء الدولية عما سبقها من محاكم دولية كونها تشكلت وفق إتفاقية دولية، أما ماسبقها من محاكم فقد تشكلت وفق قرارات من الأمم المتحدة. وتعد محكمة الجزاء الدولية كونها هيئة دولية دائمة أنشئت بمقتضى معاهدة دولية (كما أشرنا)، لغرض التحقيق ومحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون الجرائم الخطيرة في المجتمع الدولي،. بينما إنحصرت مهام المحاكم الأخرى بمهام محددة، (تنتهي بإنتهاء مهمتها). أما فيما يتعلق بمحكمة العدل الدوليه فيمكنها " ان تنظر في مشروعية لجوء دولة من الدول الى استخدام القوة واحترامها لقوانين الحرب. وهي تستعد الآن مثلا للنظر في شكاوى تقدمت بها يوغوسلافيا ضد التدخل الدولي في كوسوفو عام 1999 وهو تدخل جرى ايضا من دون موافقة مجلس الامن الدولي. بيد ان محكمة العدل الدولية لا يمكنها التدخل الا بموافقة الدول التي تقر بصلاحياتها الدائمة ومن دون شروط، للنظر في كل النزاعات او الموافقة على صلاحياتها للنظر في قضية محددة".
من المعلوم إن بريطانيا هي الدولة الوحيدة من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي التي تقر بالصلاحية الدائمة لمحكمة العدل الدولية، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية وافقت على صلاحيات المحكمة المشار اليها، حين إنشاءها عام 1946، ولكنها تراجعت والغت موافقتها بعدما أدانتها تلك المحكمة في قضية الدعوى التي تقدمت بها نيكاراكوا.
والمعروف أن محكمة العدل الدولية لايمكنها التدخل الإ حينما يكون الطرفان يعترفان بصلاحيات المحكمة كما أشرنا، ورغم ذلك فإن المحكمة لاتملك وسائل لتطبيق قراراتها ( رغم أعتراف الأطراف المتنازعة بصلاحيات المحكمه)، كما حصل في قضية نيكاراكوا مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وفيما لو أن العراق (مثلا) تقدم بشكوى ضد رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بخصوص عدم شرعية الحرب على العراق وأقرت المحكمه بذلك، فليس للمحكمة من وسيلة لتطبيق قرار الحكم سوى اللجؤء الى مجلس الأمن، والذي بدوره، وعن طريق حق الفيتو( الرفض) يمكنه تعطيل تنفيذ القرار، والمحصلة النهائية هي الإستنتاج بعدم قدرة محكمة العدل الدولية على الحسم القضائي في موضوع مشروعية أو عدم مشروعية الدول في إستخدام القوة وإحترامها لقوانين الحرب رغم إمكانيتها ( النظريه) في ذلك.
وفيما لو نظرنا للجانب الآخر، أيً في موضوع إمكانية تحميل الرؤساء المسؤولية الجنائية كمسببي حرب، فالأمكانية الأكثر تطبيقاً هي صعوبة تحقيق ذلك في الواقع العملي، خصوصاً حين يكون الرئيس على قمة هرم السلطة لبلده، والدليل على ذلك هو عدم حصول إدانة عملية حصلت في التاريخ لرئيس دولة أثناء تأديته لواجبه كرأس للسلطة التنفيذية في بلده، أما الحالات التي حصلت منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن فلا تتعدى كونها محاكمات لرؤساء ومسؤولين تمت الأطاحة بهم وإزالتهم عن هرمية السلطة ( ويشار في هذا الصدد ما للتأثير السياسي في تشكيل "وقرارات" المحاكم المذكورة). ويرجع الفضل في ذلك بكل تأكيد لموضوع السيادة الوطنية الذي يتحصن خلفه الرؤساء وكبار المسؤلين). ورغم أن هذا العامل سيء من وجهة نظر كونه يمنع محاسبة الرؤساء والمسؤولين عن الحروب غير القانونية أو ذات الصبغة غيرالمشروعه للقيام بها، وما يرافقها من عدم إحترام للحقوق الإنسانية وماشابه، إلا أن موضوع السيادة الوطنية (ضروري الوجود)، لحالات عدم الإخلال بالعلاقات الدولية والتي قد تقود الى سوء الفهم والتوتر الدولي، وهو مايدفعنا للحديث عن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية فيما بين الدول. وبالتالي الى موضوع الحصانات الدبلوماسية التي هي عملية مكمله لعدم تعطيل التواصل بين الدول.
ولهذه الأسباب تعثرت المطالبات بمحاكمة الرئيس الليبي معمر القذافي في فرنسا على خلفية سقوط الطائرة الفرنسية، كما ومحاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي آريل شارون على خلفية مجازر صبرا وشاتيلا، وكذلك المطالبة بمحاكمة الرئيس بوش، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، والسيد توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق على خلفية الحرب على العراق ومخافتها للشرعيه الدوليه.
وعليه فليس هناك من إمكانية، في أن تتخلى الدول عن مبدأ السيادة الوطنية لصالح عدالة ما فوق وطنية. "وتأخذ انظمة محكمة الجزاء الدولية في الاعتبار هذا الواقع اذ تنص على ضرورة ان يعكس تشكيل المحكمة تنوع الانظمة القانونية من جهة وعدم تدخل المحكمة الا في حال قصور القضاء الوطني من جهة اخرى. ويخشى ان يؤدي هذا البند الاخير الى تمييز بحق البلدان الفقيرة حيث النظم القضائية نادرا ما تتمكن من تأمين سير العدالة بصورة مرضية. ذلك انه لا يفترض بالعدالة الدولية ان تتحول اداة اخرى في يد الدول الكبرى، ويمكننا ان نتخيل كيف سيقدم الاميركيون والبريطانيون على محاكمة المسؤولين العراقيين تماما كما تقوم المجموعة الدولية بمحاكمة مجرمي الحرب من الصرب من دون التعرض بالطبع لمن ارتكبوا هذه الجرائم في صفوف حلف الناتو".
ويمكن الإقرار بحدوث محاكمات لرؤساء دول في قمة السلطة إذا ما دفعت بذلك دول ذات تأثير كبير في المجتمع الدولي و"لأغراض سياسية طبعاً، "، وهو ما لم يشكل القاعدة العامة لمحاكمات ذات طبيعة إنسيابية من قبل المحاكم الجنائية الدولية. وبغيره فإنه من المستبعد أن تتم المسائلة القانونية للرؤساء على المدى المنظور على الأقل، ولكنه يبقى حلماً يراود البشرية في تحقيقه.
والمثال الذي يمكن أن نقدمه هنا هو: لوأن الدول الأعضاء في مجلس الأمن إتفقت على إنشاء محكمة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري (التي تم إنشائها وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة) وتثبيت صفة الجريمة ضد الإنسانية لأصبح لزاماً على المحكمة بأن تستدعي الرؤساء ذوي العلاقة بالموضوع لمحاكمتهم أو توقيفهم، في حين أن: « النص الحالي لمسودة المحكمة، وإثر التدخل الروسي الناجح لنزع صفة الجريمة ضد الإنسانية عن اغتيال الحريري، أُبعدت فكرة محاكمة الرؤساء. أما استدعاؤهم أو الاستماع اليهم فهذا أمر لا يزال غامضا».
منقول