أثناء تأملي وجهه، لاح لي ظل حزين رغم آثار السعادة البادية في تقاسيم وجهه. ذلك الوجه جمع بين النقيضين: سعادة وحزن. بعض الأشخاص تكتسي وجوههم معاطف تخفي وراءها جراحًا عميقة تجعلهم يموتون تدريجيًا. بل إن كل جرح جديد يفقدهم حلمًا من أحلامهم، كالفراشات التي تخلف أثرًا من نور مع كل رفرفة جناح، تترك وراءها بعضًا من ألوانها. مسحة الحزن تعطي شيئًا من الجمال، هذا ما توصل إليه تفكيري في تلك البرهة من الزمن، عند لقائنا وجهًا لوجه. مجرد نظرة خاطفة ولحظة عابرة، لكنها شاهدة على عيون واعية ترى بعمق وأكثر إحساسًا. مع ضوء القمر تمت المكاشفة والحديث المطول بيننا.
جلسنا وكل منا يسند ظهره إلى الآخر، وبدأت المصارحة القلبية بالسؤال عن أحوال الزمان وآثاره. فاستحضرتني عبارة تذكرتها: غزتني الهموم فزادني الشيب بريقًا، وكأن كل شعرة بيضاء مرآة لجرح دفين. طرق هو برأسه نحو الأرض ثم رمقني بنظرة لوم وأطلق العنان نحو السماء. "ولدت من رحم معاناتك وتربيت في كنف أفكارك، كبرت يومًا بعد يوم حتى غدوت كظلك. أوجعتني بأوجاعك وصرت أرثي لحالك.
أشحت بوجهي متألمًا من لومه وكأن الصراحة خنجر يذبح. أردف قائلًا: "يا صاحبي، هدئ من روعك وجفف دموعك". بعدها تركني وذهب مع أول شعاع للشمس. فأدركت حينها أن الهموم تأتي كالظلال تخفي جزءًا من ملامحنا، مع كل جرح ندبة وقصة، ومع كل كسرة خاطر دمعة، ومع كل فقدان عزيز موت بطيء. في انكسار الضوء ضياع حلم.
بصمات تترك أثرها على وجوهنا، لكنها لا تسرق جمالها. النسيان قد يكون ترفًا لا نمتلكه، لأن الذاكرة العاطفية مرآة تعكس حقيقة ما بداخلنا وتمثل قوة تعمل على تثبيت كل المواقف والذكريات المؤلمة في العقل، مما يصعب علينا نسيانها. إلى جانب عملية كبت المشاعر وعدم القدرة على التعبير عنها أو تجاهلها، هذا ما يجعل جراحنا المؤلمة ملازمة لنا كالوشم الذي لا يُمحى. تجاوزنا للألم ليس بالنسيان وإنما بالتسامح مع ذاتنا والغوص في أعماقنا والكشف عن مدخراتنا الداخلية واحتضان تلك الجروح والآلام والهموم، وتحويلها إلى قوة دافعة وجزء من طاقتنا الداخلية التي نعمل بواسطتها على تطوير نفوسنا. السقوط والتعثر لا يعني نهاية الطريق. فالذي يستمد النور من قوة الإيمان لا يفقد الأمل، حتى وإن توارت الشمس خلف سحابة الهموم. الضوء موجود، ولابد من السعي نحو الضوء لننسج من خيوطه الأمل الذي يشكل خريطة الوصول للهدف، وهو السلام الداخلي ونحفظ نفوسنا من التشوه. الهموم تجاربنا التي تقودنا إلى التوازن المعنوي وليست نهاية الرحلة.