البلدة القديمة من العيزرية غنية بالآثار والكنائس
القدس المحتلة- بمجرد الوصول إلى البلدة القديمة في بلدة العيزرية شرقي القدس يندثر الضجيج الناتج عن الأزمات المرورية وينطلق الزائر في رحلة تاريخية تعود جذورها إلى القرن الأول الميلادي، فهناك حدثت إحدى معجزات السيد المسيح عيسى عليه السلام المتمثلة بإحياء الموتى.
وتجذب هذه المعجزة نحو 450 ألف سائح سنويا إلى البلدة التي تعد إحدى أكثر الضواحي التصاقا بالقدس، إذ تبعد عنها 3 كيلومترات فقط، ولا تقتصر على كونها امتدادا جغرافيا للعاصمة المقدسة بل تحظى بامتداد تاريخي وديني يعود لأكثر من 6 آلاف عام، أي إلى العصر البرونزي (3300 ق.م-1200 ق.م).
ولعراقة البلدة القديمة وأهميتها من الناحيتين التاريخية والدينية، بدأت أولى حفريات التنقيب عن الآثار فيها عام 1949 وفقا لمديرة وحدة التخطيط والمشاريع في بلدية العيزرية أماني أبو زيّاد التي رافقت الجزيرة نت إلى البلدة العتيقة لسبر أغوار آثارها، خاصة الكنائس التي كشفت الحفريات عن أن أقدمها يعود للعهد الروماني الذي عاش خلاله السيد المسيح عيسى عليه السلام وتجلت إحدى معجزاته في المكان.


مسجد العُزير يتوسط كنيسة أليعاز للاتين وكنيسة الروم وبُني في عهد القائد صلاح الدين الأيوبي

مُجمع ديني

وفي التفاصيل تنقل أبو زيّاد رواية أن السيد المسيح كان صديقا لامرأتين صالحتين اسمهما مارثا وماريا في بلدة العيزرية، وكان خلال سفره من القدس إلى أريحا وبالعكس يمر لزيارتهما دائما.
وفي أحد الأيام كان مارا من هناك وغضبت الشقيقتان منه لأن شقيقهما أليعازر توفي ولم يكن السيد المسيح موجودا ليشاركهما الحزن، وحدثت في ذلك اليوم معجزته بإحياء الموتى فأحيا أليعازر بعد 4 أيام من وفاته، وحدثت هذه الواقعة ببلدة العيزرية وعاش أليعازر 30 عاما بعدها وذهب إلى قبرص ودفن في لارنكا، لكن قبره في العيزرية ظلّ مزارا هاما للسياح المسيحيين حتى يومنا هذا.
وبسبب هذه المعجزة اهتم كل من مرّ على القدس من أمراء وملوك وأباطرة ببناء كنائس في هذا المكان ومحيطه، وتضم البلدة القديمة في العيزرية الآن بقايا 4 كنائس وخامسة شُيّدت فوق 3 كنائس أثرية، وتحمل الكنيسة الجديدة اسم "كنيسة أليعاز للاتين"، وعلى مقربة منها تقع كنيسة الروم، ويتوسط الكنيستين جامع العُزير الذي بُني في عهد القائد صلاح الدين الأيوبي.
وتُطلّ قناطر (بناء مقوس) على هذه الكنائس الأثرية شُيدت في الفترة الصليبية لمراقبة وحماية الأديرة والكنائس في المكان، وتم ترميمها من قبل وزارة السياحة والآثار الفلسطينية.




في ساحة تعجُّ بالآثار التقينا برئيس دائرة الآثار والصيانة والترميم والأستاذ المشارك في المعهد العالي للآثار في جامعة القدس الدكتور إبراهيم أبو اعمر الذي كان يشرف على طلابه أثناء قيامهم بمعالجة أرضية فسيفسائية تم اكتشافها خلال الحفريات الأثرية التي اكتشفها راهبان في أربعينيات القرن الماضي.






حفريات علمية

وتنفذ جامعة القدس الحفريات في الموقع بالشراكة مع حراسة الأراضي المقدسة، وبدعم من الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي، وانطلق العمل بها عام 2014 ضمن مشروع حمل عنوان "حماية فلسطين: التدريب على الحفاظ على التراث التاريخي في خدمة المؤسسات الأكاديمية والمجتمع الفلسطيني".
لكن سبق أعمال التنقيب الحالية حفريات أخرى أجراها راهبان مهتمان بالآثار بين عامي 1949 و1953، هما الأب سيلفستر والأب سايلر، ووجدا العديد من المباني الأثرية التي أقيمت بأزمان مختلفة قرب قبر أليعازر.
وانطلقت فكرة المشروع -وفقا لأبو اعمر- من ضرورة إعادة تأهيل البلدة القديمة في العيزرية سياحيا واقتصاديا، وبالتالي أجرت حراسة الأراضي المقدسة ممثلة بالدكتورة كارلا بانيلي ومركز الفسيفساء في أريحا ممثلا برئيسه الراحل المهندس أسامة حمدان، دراسات حول الموقع وأهميته بالشراكة مع جامعة القدس، واعتمدت الدراسات في البداية على ما تم اكتشافه في الحفريات الأثرية الأولى.


قناطر أنشأها الصليبيون لمراقبة وحماية الأديرة والكنائس في العيزرية

5 حقب زمنية

"يضم الموقع آثارا تعود إلى 5 فترات هي الرومانية والبيزنطية والصليبية والمملوكية والعثمانية، ونرصد في حفرياتنا مكونات الكنائس ونعطي التسلسل الزمني الطبقي التاريخي للموقع، فلدينا القبر المتمثل في الفترة الرومانية، والكنيستان السفليتان من الفترة البيزنطية وكنيستان أخريان من الفترة الصليبية" أضاف أبو اعمر.
وتعود الكنيسة الأولى الموجودة في الموقع إلى القرن الرابع الميلادي وشيدت في عهد الإمبراطور قسطنطين، وهي الفترة التي تم الاعتراف فيها بالديانة المسيحية وبالتالي بدأ بناء الكنائس في فلسطين، ولا تزال بقايا الأرضيات الفسيفسائية في الساحة الرئيسية للدير.




أما الكنيسة الثانية فتعود للقرن الخامس الميلادي، وتعتبر الكنيسة الثالثة بالفترة الصليبية ترميما للكنيسة الثانية، أما الرابعة فشيدت إبّان العهد الصليبي على يد الملكة ميليسندا عام 1137م، بينما شُيدت الكنيسة الحديثة القائمة حاليا على يد المهندس الإيطالي برلوتسي.
وتضم الأرضيات الفسيفسائية المكتشفة في الحفريات زخارف هندسية تشبه إلى حد كبير تلك الموجودة في كنيسة المهد بمدينة بيت لحم جنوب القدس، ويضم الموقع أيضا قبورا تعود للفترة البيزنطية.


كنيسة أليعازر للاتين في البلدة القديمة بالعيزرية

دراسة شاملة

ويؤكد الدكتور أبو اعمر أن جامعة القدس بصدد إعداد دراسة شاملة تضم نتائج الحفريات التي انطلقت عام 2014 وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، وتحتاج إلى 8 أعوام أخرى حتى يتم الانتهاء منها.
وتهدف الجامعة إلى تدريب طلبة الآثار على تقنيات الحفريات الأثرية واستكشاف ما هو غير مكتشف من آثار ومراحل زمنية في الموقع، بالإضافة لترميم الموقع وتأهيله ليكون مهيأ للسائح الأجنبي وجاذبا للمجتمع المحلي.
ويطرح المعهد العالي للآثار في جامعة القدس برنامجي بكالوريوس، وفق الأكاديمي الفلسطيني، وهما برنامج صيانة وترميم الآثار، ويحصل الملتحق به على منحة بنسبة 50%، ويتلقى تعليمه على يد أساتذة من جامعة القدس وجامعة "باليرمو" الإيطالية، ويحصل على شهادة مشتركة من الجامعتين، وتمنحه شهادته الإيطالية لقب "مساعد مرمم" يمكنه العمل من خلالها في كافة دول الاتحاد الأوروبي.
ويمنح المعهد أيضا درجة البكالوريوس في برنامج الإرشاد السياحي والآثار، وهو من البرامج الهامة على مستوى الوطن لكونه يمنح تخصصين في آن واحد وفقا للأكاديمي في جامعة القدس.