كلية الحقوق في بغداد.. دورها في بناء الدولة العراقية الحديثة

كانت كلية الحقوق في بغداد، المعروفة اليوم بكلية القانون، ليست كما هي اليوم خلال العام 1935، حيث وصل العلامة السنهوري إلى العراق ليصبح عميدًا لها بتكليف من حكومة العراق آنذاك. تعود تاريخ الكلية، التي احتفلت بمرور مائة عام على تأسيسها في عام 2008، إلى فترة قبل قيام الدولة العراقية الحديثة.
تبدأ هذه الرحلة التاريخية في إسطنبول، عاصمة الإمبراطورية العثمانية، حيث كانت مدرسة الحقوق العثمانية الملجأ الوحيد للطلاب العراقيين الراغبين في دراسة القانون. ثم فُتِحَت فرصة إنشاء كلية الحقوق في بغداد في عام 1908، لتصبح بذلك أقدم الكليات التي أُسِست في العراق، وهي نواة التعليم الجامعي الحديث. تظل الكلية واحدة من أهم المؤسسات التي تأثرت بشكل فعّال في المجال الفكري والسياسي، من خلال دورها في تأهيل وتثقيف آلاف الطلاب، الذين شغلوا المناصب الإدارية والسياسية الرفيعة، وساهموا في صياغة النخبة السياسية التي ألعبت دورًا هامًا في تاريخ العراق الحديث.

بدأ التعليم الجامعي في الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وظهرت الحاجة لإعداد كوادر للمحاكم الغربية الطراز بعد التنظيمات. بدأ النشاط التدريسي في هذا المجال مع صدور قانون المعارف العام “معارف عمومية نظامنامة سي” في 20 سبتمبر 1869. وأُنشئت مدرسة الحقوق في إسطنبول في 31 أكتوبر 1886، كجزء من حركة الإصلاح الكبيرة التي قام بها رجال الدولة العثمانية. تأسست المدرسة لتقديم تعليم ودراسة القوانين الغربية، وشكلت مركزًا تعليميًا جاذبًا للطلاب من جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، بما في ذلك العراق.
خلال فترة الإصلاح، تخرج الطلاب العراقيون من هذه المدرسة وتولوا المناصب القضائية والإدارية المهمة، مما أثر إيجابيًا في تاريخ العراق الحديث. ترك خريجو المدرسة بصمتهم في مهنة المحاماة، حيث قاموا بتقديم إسهامات كبيرة، ومن بينهم الأستاذ المحامي عبد الرحيم ضياء من بغداد والمحامي الياس رسام من الموصل. كما أشرف الأستاذ عبد الله عوني من السليمانية على منصب معاون المدعي العام. يُذكر أيضًا الأستاذ محرم معمر من بغداد، الذي شغل منصب معاون المدعي العام ومدير مدرسة الحقوق العراقية.
تألقت العديد من الشخصيات ذات الأهمية الكبيرة في تاريخ العراق الحديث، مثل آل السويدي، حيث شملت هؤلاء الشخصيات مجموعة متنوعة من القيادات والفاعلين البارزين. من بين هؤلاء، نجد ناجي رئيسًا للوزراء ومؤسسًا لأول نقابة للمحامين في 1933، وتوفيق السويدي الزعيم الحزبي ورئيس الوزراء في عدة فترات، إضافة إلى أسماء بارزة أخرى.
تأثير هؤلاء الأفراد لا يقتصر فقط على المجالات السياسية، بل امتد إلى المجتمع والقضاء، حيث شغل الأستاذ حكمت سليمان مناصب عليا، بدءًا من أستاذ في الكلية حتى رئيسًا لحكومة العراق بعد انقلاب بكر صدقي في 1936. كما ابرزت العائلة الحقوقية الباججي والقضائية الحيدرية بأسماء مثل حمدي الباججي رئيس الوزراء، ونوري القاضي وداود الحيدري، الذي شغل منصب وزير العدلية.

إضافة إلى ذلك، تألق العديد من الأفراد في مجال المحاماة والصحافة، مثل عبد العزيز القصاب، الذي أصبح وزيرًا للداخلية ولعب دورًا مهمًا في تطوير القوانين. كما لاقى محمد علي مصطفى ومصطفى التكرلي وياسين العريبي إشادة كبيرة بفضل إسهاماتهم في المجالات الفكرية والسياسية.
ظهرت فكرة إنشاء مدرسة حقوق في بغداد في ظل التحديات الكبيرة التي واجهها العراقيون في السفر إلى إسطنبول لدراسة الحقوق. رافقت هذه الفكرة رغبة قوية في تأهيل قانونيين وإداريين في العراق، وأصبحت حقيقة بعد زيارة اللجنة الإصلاحية برئاسة ناظم باشا. صدرت الإرادة السلطانية في 14/تموز/1908 لفتح مدرسة الحقوق في بغداد.
تأخر تنفيذ هذه القرارات بسبب تراخي الوالي الذي اعتبر عدم توفر بناية صالحة سببًا للتأخير. أثار هذا التأخير سخطًا شعبيًا، وتم تقديم عريضة شكوى إلى رئيس اللجنة الإصلاحية. تعيين ناظم باشا واليًا على بغداد في أعقاب الثورة الدستورية في 23/تموز/1908، حيث بدأ في تنفيذ القرار بفتح المدرسة.
أسهمت مدرسة الحقوق في بغداد في نشر الوعي القانوني والوطني. أصبحت هذه المدرسة بوصفها منبرًا للثقافة القانونية، ولعبت دورًا هامًا في نضج الوعي الوطني العراقي.
كانت فترة الدراسة في مدرسة الحقوق في بغداد أربع سنوات، حيث كان يُسمح لحملة الشهادة الإعدادية بالالتحاق بها، وكذلك أُجيز للطلاب غير الحاصلين على هذه الشهادة بأن يكونوا طلابًا مستمعين، ولديهم حق متابعة الدراسة بعد اجتياز امتحان السنة الأولى. في حالة الفشل، كان على الطلاب مغادرة المدرسة. في العام الدراسي التالي (1909-1910)، تغير نظام قبول الطلاب المستمعين، حيث أُجري امتحان لضمان مستواهم العلمي قبل قبولهم في المدرسة.

تأسست أيضًا شعبة الاحتياط لمنح الفرص لطلاب المدن التي لا تحتوي على مدارس إعدادية. استمروا في دراستهم في شعبة الاحتياط لمدة سنتين قبل التحاقهم بالمدرسة الرئيسية. تغيرت هذه السياسة بعد تخريج دورة واحدة فقط من شعبة الاحتياط.
تم تدريس نفس المناهج التي كانت تُدرس في مدرسة حقوق اسطنبول، وكانت الدراسة باللغة التركية. كما كانت الامتحانات تُجرى بشكل شفوي بإشراف مدرس المادة المختصة.
كان المدرسون من الصفوة الثقافية في ذلك العصر، بما في ذلك جميل صدقي الزهاوي ويوسف العطا وعارف السويدي وغيرهم. أدت إجراءات القبول إلى تنوع طلاب المدرسة، حيث كانوا يشملون خريجي المدارس الاعدادية وكذلك كهول وشيوخ. أُغلقت شعبة الاحتياط بعد تخريج دورتها الوحيدة، ومن بين خريجيها كان محمد زكي البصري الذي شغل مناصب هامة في العراق.
قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت كلية الحقوق في بغداد تحقق تقدمًا ملحوظًا، وقد تخرج منها أكثر من مائة وخمسين طالبًا، بمن فيهم الشخصيات المرموقة مثل حسن رضا، عبد العزيز الخياط، ومحمد حسين البزركان. كان حكمت سليمان، الذي أصبح مديرًا للمدرسة في أواخر عام 1914، يشغل أيضًا منصبًا هامًا كمدير لمعارف بغداد.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قررت السلطات العثمانية إغلاق الكلية واستدعاء طلاب الصف الرابع لأداء خدمة الاحتياط في استانبول. ورغم تعليماتهم بالزحف، فإن الكثيرون منهم عادوا دون أن يحققوا ذلك. من بين هؤلاء الطلاب كانوا مزاحم الباججي، وعمر نظمي، وعبد العزيز الخياط، وغيرهم، الذين ترأسوا مناصب حكومية هامة في فترات لاحقة.

من طلاب الكلية في الصف الأخير عند توقفها، كانوا إبراهيم كمال، ومحمد علي محمود، وإبراهيم زهدي، وآخرون. كثيرون من طلاب الكلية استكملوا دراستهم في استانبول وغيرها، وتخرجوا في نهاية المطاف ليصبحوا جزءًا من الطبقة المثقفة والقيادية في العراق.
في ظل الاحتلال البريطاني للعراق في الفترة بين 1914 و1921، شهدت مدرسة الحقوق في بغداد تحولات كبيرة. بدأت هذه المرحلة باندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، حيث ألغيت الكلية، وتبعثر طلابها بسبب الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب.
بعد أربع سنوات من الحرب، خرجت بريطانيا منتصرة ومحتلة لأجزاء كبيرة من العراق الذي كان تحت حكم الدولة العثمانية. أعلنت السلطات البريطانية إعادة فتح مدرسة الحقوق (كلية الحقوق) بهدف رسم صورة حضارية جديدة للوافدين الأوروبيين في وجه التحديات التي تركتها الدولة العثمانية.
في يوليو 1919، نشر الميجر همفري بومان، مدير المعارف العمومية، إعلانًا يعلن فيه عن نية الحكومة إعادة فتح مدرسة الحقوق في بغداد للمرة الثانية، بهدف مساعدة الطلاب الذين تأثروا بالحرب. أُعيد افتتاح الكلية رسميًا في نوفمبر 1919 بحضور كبار المسؤولين الإنكليز وعلماء بغداد، وتولى السيد فوربس رئاسة الكلية كمدير فخري.
في ظل الاحتلال البريطاني للعراق بين عامي 1914 و1921، خضعت مدرسة حقوق بغداد لتحولات هامة. بدأ النظام الأول للكلية بالتعاون مع متخصصين مثل السيد موسى الباججي وداود سمره وحسن الباججي وأنطوان شماس. وقد تم تعيين السيد نشأت السنوي كمعاون للمدير.
شهدت الكلية تغييرات كبيرة، حيث امتازت بالتفرد في بداياتها، حيث ضمت طلابًا من كلية الحقوق العثمانية. ارتبطت الكلية بالسكرتير العدلي وأصبحت الدراسة فيها غير مجانية بعد، مع جذب إقبال كبير رغم الرسوم السنوية.
تميزت هيئة التدريس بأسماء بارزة مثل رشيد عالي الكيلاني وتوفيق السويدي وحسين أفنان وغيرهم، حيث تولوا تدريس مواضيع قانونية متنوعة. وفي 6 تموز 1920، تخرجت الوجبة الأولى من الكلية، شملت أسماء بارزة مثل عبد الجبار آل جميل وداود السعدي.
أُعيد افتتاح الكلية في ظروف تشكلت بسبب الحرب العالمية، ومع انتهاء النزاع وانسحاب بريطانيا، بدأت الكلية مرحلة جديدة من تألقها.

احتفال خريجي مدرسة الحقوق يُعد ذروة للاهتمام بالتعليم الجامعي، حيث استمرت الاحتفاليات الرسمية حتى عهد الملك فيصل الثاني. برعاية الملك نفسه، أُقيمت آخر الحفلات الرسمية في قاعة فيصل الثاني عام 1956.
في مطلع السنة الدراسية 1920-1921، قررت وزارة العدلية تمديد مدة الدراسة في المدرسة إلى ثلاث سنوات، وأصبح شرط الحصول على شهادة الدراسة الثانوية ضروريًا للقبول. وقد قبلت إدارة المدرسة المتخرجين من المدارس الثانوية الأهلية.
في حزيران 1921، أعلن تخرج الوجبة الثانية، وكان من بين المتخرجين العديد من الشخصيات المؤثرة في تاريخ العراق الحديث، مثل حسن سامي تاتار، ومصطفى العمري، وعباس العزاوي، وإبراهيم الواعظ، ويوسف فتح الله لوقا، وغيرهم، وأُعلنت أسماء الناجحين والمقبولين للعام الدراسي 1921-1922، وكانت هذه الأسماء ذات تأثير كبير في تاريخ العراق.