التراث البغدادي الضائع

في محاولة لتوثيق تاريخ الحياة الاجتماعية في بغداد، يجد المهتم نفسه أمام إرث شعبي غني يمتد عبر الأجيال، محملاً بالحكايات والأمثال العامية، والصناعات التقليدية والأصوات والألحان. على الرغم من غنا هذا التراث، إلا أنه لم يجد مكاناً في صفحات التأريخ، حيث لم تتسنى للأقلام توثيقه وتنظيمه، مما يجعل تراث بغداد الأدبي الشعبي غير مسجل، ويتجاوزه جيل المخضرمين معه صحائف تراث لا يمكن نسيانه، مكمِّلاً بذلك دور السلف في بناء هذا الإرث.

تراث كل قوم يعكس حياتهم وبيئتهم، وتتجسد السيرة اليومية للفرد في هذا التراث. تحمل بغداد تاريخًا اجتماعيًا وأدبيًا غنيًا، يستمد قيمته من بقايا العصور الخوالي. من الملفت أن الذين سجلوا هذا التراث كانوا في غالبيتهم من رجال العلم، مثل الشيخ محمود شكري الالوسي والشيخ عبد الحميد عبادة، اللذين اهتموا بجمع الأمثال وتوثيق تاريخ بغداد. يبرز جهد الشيخ جلال الحنفي البغدادي في ميدان الماثور البغدادي، ويُعتبر كتابه “معجم اللغة العامية البغدادية” مصدرًا نادرًا. الأب أنستاس الكرملي، بجهوده في ميدان الكهانة وابحاثه العميقة، أضاف إثرًا كبيرًا لتوثيق التاريخ البغدادي. ولم تقتصر الجهود على الرجال، فعائشة الهاشمية ومجلة “لغة العرب”، بجهودهن في جمع المثل البغدادي والحكايات الشعبية، ساهمن في إثراء هذا التراث.

توفيق السويدي أشاد بمسودة هذا الكتاب القيم ونصح بتحسينه وترتيبه لخدمة تاريخ مدينة السلام. يبرز التطور المادي السريع والانتقال إلى عصر الآلات الحاجة للمحافظة على التراث الثقافي، وهو ما يتطلب تنشيط حركة توثيق فكر السلف. يُشير إلى أهمية توثيق الأماكن والأسماء والطرق والمعالم لمواكبة التحولات في البيئة الحضرية. يتعين أن تكون حركة التوثيق جزءًا من منهج موسوعي شامل، يشمل كل جانب من جوانب الحياة والتطورات. يستعرض مبارك باشا كمثال، حيث قام بسياحة خططية في دروب مصر وسجل تأريخها ومعالمها بمشروع يُعرف بـ “الخطط التوفيقية”، مما أضاف إلى الإرث الثقافي للأجيال القادمة.

توفيق السويدي وحفني ناصف وأحمد أمين قد سجلوا لنا غنى اللغة الصعيدية وثرواتها اللغوية في كتبهم، مثل “غريب لغة الصعيد” و”قاموس العادات والتقاليد”. يُسلط الضوء على جهود أحمد تيمور باشا وكتبه حول الأمثال العامية المصرية. تُذكر قصة محمود الالوسي الذي كان ينقل بدقة معلوماته عن مساجد بغداد، وكيف كان يحمل هذا التحلي بالأمانة. يُبرز ما قاله عبد اللطيف ثنيان حول الفرق بين “القحوف” و”الصوف”، مما أدى إلى ضحكة في المجلس. يُشير النص إلى أهمية توثيق تراث بغداد، مع دعوة لتخصيص دوريات تتناول تفصيلات حياتها اليومية وتطورها. يتم التأكيد على أن هذا التوثيق يمكن أن يكون متكاملاً مع مجلة “التراث الشعبي”، ولكنه يشجع على الاهتمام بخصوصيات بغداد وتراثها الأدبي الفريد الذي لم يُسجل بشكل كافٍ حتى اليوم.