الهدف الأساسي من المقهى الثقافي هو أن تكون الثقافة والفنون في متناول الجميع كما يقول بعض أصحاب المكتبات العصرية في بغداد
منذ فجر التاريخ كانت العاصمة العراقية بغداد نقطة مضيئة في تاريخ الثقافة والفنون والشعر، وتميزت بمقاه وملتقيات للثقافة والفنون حيث التقى الأدباء والمثقفون والشعراء منذ العصر العباسي حتى يومنا هذا.
وحتى الأعوام الماضية، كانت هذه المقاهي وسط الشوارع الرئيسة في المدينة، وفي قلبها القديم، وكان معظم روادها من المثقفين والفنانين والسياسيين والشعراء والمعنيين، وغالبا ما يكونون من الرجال، رغم تسجيل حضور نسائي في أزمان مختلفة ولكن بشكل خجول.
وفي السنوات الأخيرة، تنامت ظاهرة انتشار المقاهي الثقافية والفنية العصرية في بغداد، وفي مناطق متفرقة في العاصمة، فلم تعد حصرا على الشوارع والأسواق الحيوية، بل سادت مختلف المناطق وحتى الأحياء السكنية الراقية منها والشعبية، لتجذب جماهير من فئات عمرية مختلفة، من النساء والرجال، الشابات والشبان، ولم يعد الأمر معنيا فقط بالمثقفين ورواد الأدب والشعر، وما يسمون "بالنخبة الثقافية" بل أصبح كثير منها ملتقى متاحا للجميع، وغدا التردد عليها أشبه بظاهرة اجتماعية مألوفة لدى أهالي العاصمة، وبديلا أكثر رقيا وتنوعا وفائدة لهم من المقاهي التقليدية المعتادة.
مقهى وكتاب
مقهى "قهوة وكتاب" بشكله الجديد في منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد، الذي افتتح قبل نحو عقد من الزمن، هو الأول من نوعه إذ مثّل نسخة معاصرة من مقاهي الثقافة والأدب. وبمرور الوقت صار ملتقى للفنانين والأدباء والشعراء مع بقية شرائح المجتمع، حيث يختلط الحضور ويتبادلون الآراء في التجارب المختلفة سواء في المسرح أو الأدب والشعر أو في الموسيقى، وأصبح التردد على هذه المقاهي ظاهرة اجتماعية محببة وبديلا أفضل من المقاهي التقليدية المعتادة.
وفي لقاء مع الجزيرة نت، تحدث لنا خريج معهد الفنون الجميلة حديثا من قسم المسرح أحمد البدري بالقول "قرأت عن مسرحيات لكثير من الفنانين العراقيين الرواد، وكذلك قصائد لشعراء لا يزالون أحياء، كنت أتمنى أن ألتقيهم شخصيا، فأنا معجب بما قدموه من نتاج فني. وفي المقهى الذي بدأت أتردد عليه منذ بضع سنوات أصبح لدي منهم أصدقاء كثر ألتقيهم دائما للنقاش والحوار في مسائل تتعلق بالمسرح والأدب العربي، وحتى في مشروع تخرجي عن المسرح استشرت عددا منهم في كثير من النواحي وقدموا لي المساعدة والمشورة".
ومن هذه التجارب مكتبة "أطراس" التي افتتحت قبل أشهر في حي المنصور الذي يعدّ واحدا من "الأحياء الراقية" في بغداد ويقع في الجانب الغربي من المدينة المسمى الكرخ حيث قامت الشقيقتان زينب وبان الركابي بافتتاح مشروعهما الثقافي الذي دمج بين المكتبة والملتقى الثقافي.
وفي لقاء لها مع الجزيرة نت، أفادت بان الركابي بأنها وشقيقتها لاحقتا حلما قديما بنقل أجواء منزلهما إلى خارج جدران البيت، ليغدو واقعا ملموسا، فقد كان منزل والدهما الروائي العراقي الشهير عبد الخالق الركابي أشبه بمكتبة داخل بيت، وليس العكس، وتتذكر بان جيدا أنه كان ملتقى ثقافيا وأدبيا يجتمع فيه أدباء العراق وكتّابه وشعراؤه وتدور فيه نقاشات كثيرة حول الأدب والفنون والشعر والروايات.
كذلك أشارت بان إلى أن المقاهي الثقافية منصة واقعية لاستعراض الآراء والأذواق الثقافية والفنية على أرض الواقع بعيدا عن العالم الافتراضي، وفرصة لروادها للاطلاع على الرأي الآخر، وحافزا للتنافس لزيادة الاطلاع على كل ما له صلة بالأدب والثقافة، وفي شكلها الحديث الذي يقدم الآن، تمثل مساحة أوسع لاحتواء فئات عمرية مختلفة ونشاطات ثقافية متنوعة تلائم مختلف الأذواق.
مكتبة أطراس في بغداد تمتلئ بالكتب
وذكرت الركابي في حديثها للجزيرة نت "أن شعارنا التأكيد أن أطراس متاحة لجميع الفئات العمرية، ونأمل أن تكون مساحة للتعبير عن الذات واستكشافها. نوفر للجميع مجموعة واسعة من العناوين العالية التقييم من الروايات والشعر والفلسفة والتاريخ والتنمية البشرية وكذلك أدب الأطفال، كما نوفر فرصة قراءة الكتب داخل المكتبة أو الاستعارة، فضلا عن المتعارف عليه بما يخص اقتناء الكتب. وتشمل النشاطات مساحة واسعة لإرضاء مختلف الأذواق، ومنها محاضرات وجلسات شعرية وورش أدبية وفنية ونوادي قراءة وغير ذلك".
وأشارت الركابي إلى أن الهدف الأساسي من المقهى الثقافي هو أن تكون الثقافة والفنون في متناول الجميع مع توفير مساحة هادئة للحرية والاستكشاف ومشاركة التجارب والرصيد المعرفي. وترى أن العاصمة تعيش تنوعا ملحوظا في المشاريع الثقافية، منوهة بخصوصية كل مشروع وتميزه وتفرّد هويته.
أما عن رواد أطراس ففي ظل زحام المدينة وضوضائها والمتغيرات السريعة، يرى بعض منهم أنها قد تكون ملاذا وملجأ لهم، ومنهم طبيبة الأسنان الشابة زينب القريشي التي عبرت عن إعجابها بفكرة المقهى وافتتاحه في هذا الجانب من المدينة فقد كانت تجد صعوبة في وصولها إلى المقاهي الثقافية المعتادة في وسط العاصمة.
جنوبا، في منطقة الدورة المكتظة بالسكان، وهي من أكبر مناطق بغداد، أنشأ مجموعة من الفنانين والمثقفين مشروعا ثقافيا متميزا، هو "كانفاس" الذي صبّ اهتمامه على الفن التشكيلي بداية مرورا بالفنون والمحتويات الأدبية والثقافية الأخرى ومنها الأمسيات الفنية والشعرية والموسيقية.
أعمال فنية مختلفة في مكتبة كانفاس
وفي حديث مع المسؤول عن النشاط الفني في المقهى سجاد حسين، قال للجزيرة نت "فكرتنا أن يكون المقهى معرضا للأعمال الفنية، سواء كانت لوحات مرسومة أو قطع خزف، فضلا عن القطع "الأنتيكة" القديمة، وفي الوقت نفسه أن نوفر للحاضرين المشروبات وغيرها مما يتعلق بالمقاهي، كما ننظم فعاليات فنية وأمسيات شعر وموسيقى وغناء، فضلا عن جلسات الرسم التفاعلية المباشرة مع رواد المقهى التي تكون قريبة من الجمهور. وربما نرى أن هذا الأمر، أي جلسات التشكيل التفاعلية في مقهى عام، يحدث أول مرة في بغداد، حيث يكون الفنان على تماس مباشر مع الجمهور، سواء كان رساما أم نحاتا، وهو أمر ليس سهلا بالطبع".
لوحة فنية بمكتبة كانفاس
وأوضح حسين أن هدف افتتاح المقهى هو أن لا يبقى النشاط الفني محصورا في مناطق معينة، "فهذا عامل أساسي في اختيار الموقع، فضلا عن التوجه إلى طيف اجتماعي وشبابي لم يعتد مثل هذه الأنشطة، ضمن السعي لتحقيق مزيد من التأثير ونشر المعرفة بالفنون والثقافة".
وقد أشار مسؤول النشاط الفني إلى نية العمل على معرض افتراضي ومنصة إلكترونية تضم السير الذاتية للفنانين التشكيليين وأعمالهم وكل ما يتعلق بهم.
التشكيلي محمد كاطع، وهو من رواد المقهى الثقافي، لفت إلى أن افتتاح المقاهي الثقافية في أنحاء بغداد ظاهرة إيجابية بعد أن كان يقتصر وجودها على مناطق معينة، خاصة مع تزايد إقبال الناس عليها من مختلف الفئات، إذ توفر فرصا أكبر لهذه الفئات بالاطلاع والتفاعل المباشر مع الفنون والثقافة وتجارب الفنانين والأدباء.
مكتبة كانفاس تشتمل على ورشة للفنون والنحت
وأفاد في حديث مع الجزيرة نت بالقول "كانت هناك قطيعة بين الجمهور والفن، وكان الأمر محصورا على النخبة الثقافية في ما يخص حضور المعارض والمناسبات الفنية والثقافية. ولذلك كان مناسبا إنشاء هذا المكان في هذا الموقع للتقرب من الجماهير، وفعلا هذا ما حدث وفوجئنا بذلك؛ فالحضور فاق التوقعات منذ الأيام الأولى وكان الجمهور كبيرا ومتنوعا ولم يقتصر على فئة معينة".