مدن وذكريات ..الدغارة

على بُعد عشرين كيلومترًا من الشمال الشرقي لمدينة الدّغارة، يتشعب نهر الفرات إلى فرعين؛ الأول يمتد صوب الدّغارة وسومر وعفك وآل بدير، بينما الثاني يتجه جنوب غرباً باسم نهر الديوانية، يمر بمركز اللواء ويمتد في مدن متعددة قبل الوصول إلى السماوة.

في مكان انفصال فرعي الدغّارة والديوانية، يقع “قصر الملك”، منزل طوب يضم صالة وأربع غرف، محاط بساحة مسيجة تحتوي على بعض النخيل وشتلات الورد. يُلقب هذا المنزل بـ “قصر الملك” ويُستخدم كمكان للراحة المؤقتة أو مقر للصيد، أقيم لراحة الملك غازي الأول وكان قد تم استخدامه بشكل متكرر بواسطة الوصي عبد الاله. بعد فترة الملوكية، أصبح القصر مهملًا ولم يتم الاهتمام به.
تتبع الدّغارة، إدارياً، قضاء عفك الواقع على بُعد أكثر من 37 كيلومترًا جنوباً، رغم أنها تقع على مسافة 17 كيلومترًا من مركز المحافظة. هذا الربط الإداري أثر بشكل ضيق على سكان الدّغارة الذين يضطرون للسفر إلى عفك لإكمال معاملات التجنيد والنفوس والعقار والتعديلات على هويات الأحوال المدنية.

في تلك الفترة (بين عامي 1964 و1973)، كانت الطرق الرئيسية بين الدّغارة والديوانية والدّغارة وعفك ترابية، وفي حالة هطول الأمطار، تتحول تلك الطرق الى أوحال، حيث كانت سيارات الشرطة وبعض سيارات المتنفذين يلجأون إلى وسائل مبتكرة لتفادي الطين وتسهيل حركتهم.
طريق الدّغارة-عفك كان يجاور النهر، وكان يمكن مشاهدة المضايف والأماكن التاريخية على ضفافه. على الجانب الأيمن من النهر، تظهر مضايف آل شبانة في رأس الأكرع، وعند السفر نحو ناحية سومر، تكمل الرحلة عبر مضارب أحفاد الشيخ صلاّل الموح متجهين إلى مركز القضاء والبساتين. بينما على الجانب الآخر من النهر، يظهر توزيع السكان وتداخل العلاقات بين الريف والمدينة، حيث يمتاز المجتمع داخل المدينة بخلفية عشائرية قوية.
يتداخل التوزيع العشائري في ناحية الدغارة مع تفاوت البيئات الريفية والحضرية، حيث تتأثر بالمدينة والمناطق المجاورة من دساكر ونواحي. يسكن سادة المحانية في جلعة شخيّر (ناحية سومر)، مرتبطين بقبائل السعيد (بكسر السين)، ويمتد نفوذهم الزراعي حتى بادية النعمانية. العواودة يسكنون بالدغارة ويتركزون في مزارعهم قريبة من المدينة.
يشمل النسيج الاجتماعي لناحية الدغارة عشائر متنوعة، ومنها آل شبانة وآل حاج حمزة على الضفة الشرقية من النهر، بينما يسكن آل عمر والهلالات المدينة الرئيسية. السعيد يشكلون مجموعة من القبائل في الجزء الجنوبي الشرقي، بينما البو نايل يتألفون من فروع مختلفة، مثل البو ناهض والبو ركة.

تعتبر ديوانيات السمر في الدغارة من المراكز الاجتماعية الهامة، حيث تشمل مضايف آل شعلان والهلالات شرقًا وغربًا من المدينة. بيوت عوائل بارزة مثل السيد عبد الكريم شبّر كانت ملتقى للمجتمع، وديوانيات السمر تُظهر الترابط الاجتماعي والتقاليد في هذه المنطقة.
في مجال التعليم، كانت المدارس الابتدائية داخل المدينة قليلة نسبياً للبنات والبنين. كان هناك مدرسة ثانوية واحدة للبنين ومدرسة متوسطة للبنات. اسم “ثانوية الأولاد” أطلق عليها طوال فترة طويلة، حتى أن الدغاريين اعتادوا على هذا الاسم منذ تأسيس الدراسة فيها في الخمسينات، وظلت تعتبر متوسطة حتى عام 1964، حيث تم تغيير درجتها إلى ثانوية وفُتح الرابع الأدبي فيها. ظهرت خيارات تخصص جديدة، وأصبح بإمكان الطلاب الانضمام إلى هذه الثانوية واختيار مستقبلهم بين الدراسة الجامعية والمعاهد الفنية.

بعد إكمال البنات للمتوسطة، انتقل العديد منهن إلى دور المعلمات أو الفنون المنزلية في الديوانية، استفادات من الأقسام الداخلية هناك. وقُدِّم لهن غرفٌ خاصة للاستراحة، وتمثل نجاحات كثيرات منهن في مجالات مثل الطب، والهندسة، والتدريس.
فيما يتعلق بالأسواق والمحلات والشوارع، تقع الدغارة – المدينة الرئيسية – غرب النهر وتضم شارعين رئيسيين. الأول يبدأ من الجسر ويسمى شارع السراي، يمر عبر الساحة المقابلة للسراي. السوق الأول يقع على ضفة النهر مباشرة ويتألف من بعض الدكاكين ومقاهي النهر. يتميز شارع الخنساء، الثاني، بأنه مدور يحيط بالدور والأسواق الأخرى. يتسم الخنساء بأنه شارع رئيسي يحتضن معظم بيوت الناحية، ويوفر حرية التجوال للنساء.
يمكن للنساء التجوال في الخنساء بحرية، حيث يُمكنهن شراء متطلباتهن دون الحاجة للرجل. ويعتبر شارع الخنساء مكانًا مهمًا للنساء للتجوال بحرية دون قيود، ويشكل موقعًا رئيسيًا للتسوق.

وصول والدتي إلى الدغارة في الديوانية كان محط إعجاب، حيث أظهر سائقي الأجرة من أهالي المدينة احترامًا للموظفين الغرباء وأسرهم، وقدموا لهم كل مساعدة. أتذكر وصول والدتي إلى كراج الدغارة وكيف اختارت سائقًا لنقلها إلى منزل ابنها. عندما وصلوا إلى مدرسة الثانوية في بداية المدينة، قررت والدتي النزول لرؤية ابنها. نزلها السائق بحقيبتها أمام باب المدرسة وابتعد دون أخذ أجرة، معلنًا: “الكروة وصلت من أبو شهرزاد”. لحد الآن، لا أعلم من هو السائق الذي قدم هذه الخدمة العطوفة وقادها في العودة دون مقابل.
يظهر أن السائق قد ألقى بسره في فم الفرّاشين، الذين لم يفصحوا عن هويته فيما بعد. وفي هذا الوقت، تذكرت والدتي فجأة أنها كانت جزءًا من السلك التعليمي في الناصرية في السنوات 35-41، وبدأت تشارك ذكرياتها التعليمية مع مدرسي الثانوية الذين ارتاحوا لحديثها.
بعد عودتي للخدمة، انضممت إلى ثانوية الدغارة في يوليو 1964. كنت قد تم نقلي من ثانوية الصويرة إلى لواء (محافظة) آخر بأمر من الحاكم العسكري العام، اللواء رشيد مصلح. كنت قد تلقيت عقوبة سحب اليد عن العمل نتيجة لنشاط سياسي سابق، ثم عدت إلى العمل بعد صفقة سياسية نفذتها القوميون. تم نقلي مرة أخرى وتم تعييني مديرًا لثانوية الدغارة، وكانت هذه بداية فترة طويلة نسبيًا من الاستقرار حيث خدمت طلابي بقدر ما أستطيع.

فيما يخص التلاميذ، كان لدي عدد من الطلاب الذين شاركوا بفعالية في يوم الثانوية، الذي أقيم بمبادرة من مجلس المدرسين. من بين هؤلاء الطلاب: الدكاترة ميمون الخالدي وباسم الاعسم وعاصم الاعسم، وكان للطالب زعيم الطائي دور بارز حتى الصف الثاني قبل أن ينتقل إلى الديوانية. ورغم انتقاله، استمرت نشاطاته لفترة من الزمن. في ذلك الوقت، ظهرت نشرة شهرية باسم المدرسة، حيث قاد الرسام رسول عبد الحسين النشاط وشارك فيه مدرسون متميزون.
أما بالنسبة للمدرسين، كانوا نخبة متميزة، بما في ذلك القاص زهير إبراهيم والشاعر عودة محمد عطية، الذي أصدر كتابًا في النثر الشعري. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد شارك الشعريان سالم خالص وكاظم الرويعي في أمسية شعرية حضرها عشاق الشعر الشعبي في المدينة. وكانت جمعية المدرسين تضم شخصيات مثل د. صبيح عبد المنعم ود. محمد هليل، رئيس جامعة القادسية السابق، والسيد كاظم الخطيب، والأساتذة: عبد الصاحب هاشم وناظم جواد وخلاوي منديل وهادي الخفاجي، وغيرهم الكثير.
في محيط الدغارة، احتفلت بولادة الطفل فارس عدنان بفرح، والذي وُلِدَ قبل ولادة ابنتي بشهرين. كانت حفاوة الاحتفال تعود إلى صداقة النساء وصداقتي مع والده، المرحوم عدنان حسين، الذي اغتيل بسبب انتمائه الشيوعي. فارس عدنان أكمل دراسته في الهندسة في جامعة البصرة، لكنه برز أيضًا كشاعر متميز بين أقرانه، وظل يحمل في مأساته قتل أبيه عبءًا من أعباء قهوة الشعر.
لدي المزيد من تفاصيل عن الدغارة، وسأكون سعيدًا بمشاركتها معك في وقت لاحق.