مدارس بغداد ومكتبتها العامة سنة 1887
في ساحة الأمل ببغداد، يظهر بوضوح دليل على تحقيق المدينة للشفاء واستعادة الصحة التامة. شهدت بغداد إفاقة ملموسة، حيث نجحت في التغلب على علة الجهل التي كانت تؤثر فيها منذ فترة. هذا الانتفاضة أنقذت المدينة من حالة الجهل المستمر، وتلاشى ظلام الجهل بفضل أشعة المعرفة التي نُشرت وبُثت، مما أدى إلى تحول تدريجي نحو الضياء والنور.
تأتي إحدى الآثار الجليلة في بغداد من خلال تأسيس دار الكتب، حيث أظهرت هذه المبادرة التفاني والسعي نحو رقي المعارف وتطوير الفصائل المكرمة. يدير هذا الجهد الملموس حضرة محمد أفندي آل جميل راده، مدير معارف ولاشا، الذي يتميز بالتفاني في الامتثال لأوامر وأفكار الوالي العالي. وتجسد هذه الدار نتيجة جميلة للمساعي المعروفة، وتحمل في طياتها ثمرة جهود الرداء الزاهد والكريم والمتفضل. بفضل هبة سخية من نجل لطف الله بك، أضافت الدار ستة أو سبعة مجلدات جديدة، لتكون الآن محطة للعلم والفقه والأدب والفنون في جامع الحيدر خانة ببغداد.
فوائد هذا الأثر الجميل لا تحتاج إلى إيضاح، إذ يمكن تلخيصها في أهمية دعم أهالي المنطقة لتوسيع وتنظيم دار الكتب، وزيادة محتواها الثقافي. دعوة ألهمها الأديب نعمان خير الدين أفندي، يترأسها محمد أفندي آل جميل راده، وهي تحمل قيمًا عليا تتجلى في كلمات الشاعر والمحب للعلم. مكتبة تجمع العلم وتخدم الطلاب، تُشكل مصدرًا ثريًا للمعرفة والتعلم في بغداد، حيث تبرز فيها مكتبتها ومعلميها باعتزاز.
رغم أن سكان بغداد يظهرون قليلًا من الاهتمام بالعلم والتفرغ له، إلا أن عدد المدارس في المدينة يبلغ تسع عشرة مدرسة فقط. يُذكر أن ثماني منها تقع تحت إدارة الحكومة السنية، وتشمل المدرسة الإعدادية (الحربية) التي تدرس اللغات التركية والفرنسية والفارسية والعربية، بالإضافة إلى مواضيع متنوعة من العلوم والتاريخ. كما تشمل المدرسة الرشدية العسكرية والمدرسة الرشدية، حيث يتم دراسة اللغات وبعض العلوم. أما مدرسة الصنائع، فتركز على تعليم بعض المهارات الحرفية مثل الحياكة والسكافة والخياطة.
هناك أربع مدارس في بغداد مخصصة لأهل الوطن، وأبرزها مدرسة الآباء الكرمليين التي بُنيت عام 1859، حيث اشتهرت بشكل كبير بعلمها وآدابها وفنونها. تظل هذه المدرسة ناجحة وفعّالة حتى الآن، تمثل مصدرًا للنبلاء وتحارب الجهل، حازت على احترام وتقدير وشهرة الوطن. خرج منها عدد كبير من الكتّاب والأدباء والعقلاء. تتميز بتعليمها المتميز وتجذب طلابًا من جميع أنحاء البلاد. تدرّس فيها اللغة الفرنسية والعربية والإنجليزية، إلى جانب دروس دينية وجغرافية ورياضيات، وتشمل بعض مبادئ العلوم مثل الفلسفة والطبيعة وعلم الهيئة والكيمياء وعلم النبات والموسيقى. يعكس هذا التعداد الواسع للدروس التفوق الحقيقي للمدرسة، التي شهدت تواجد معلمين بارعين وعلماء مشهورين مثل الآباء دميانوس وجان جوزيف وبطرس الكرملي.
والآن، سنتعرف على بعض أشهر معلمي المدارس العربية في بغداد. في الصدارة يأتي الأديب والكاتب الماهر، المعلم بطرس الماريني، الذي أحيا العلوم والفنون العربية في مدرسة الآباء الكرمليين، ونجح في نشرها بعد أن كانت على وشك الاندثار. يعتبر الماريني أحد العلماء المتميزين الذين درسوا في هذه المدرسة وأعطوا إليها قيمة فائقة. يظهر ذكاء طلاب المدرسة من خلال طلاب مثل نجيب أفندي سيحا الذي أبدع في مقالته “التبلور والرسوب”.
ثانيًا، نجد مدرسة الانفاق الكاثوليكية، التي تُعنى بتدريس اللغة العربية والكلدانية والسريانية، إضافة إلى المواد العلمية. في الماضي، كانت هذه المدرسة ذات شهرة قليلة، ولكن مع انحطاطها الحالي، ترك مديرها، الشماس فرنسيس أوغسطين جبران، بصمة عميقة. الشماس جبران، العلامة الفهامة، خرج من المدرسة وأثر في الصحافة والمجلات بمقالاته المنطقية والممتعة.
ثالثًا، نتحدث عن مدرسة الاتفاق الإسرائيلي، حيث يُدرس فيها اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية والتركية.
رابعًا، نتحدث عن مدرسة الأرمن الغير الكاثوليك، حيث يتعلم التلاميذ الأرمنية والفرنسية والعربية والإنجليزية والتركية، وتضم خمسة معلمين وثمانين تلميذًا. شيدت في هذه الأيام بجهود السيد الجليل القاصد، ورعاية الراعية السبل الذي اشتهر بعلمه. يحظى الكاثوليك بتقدير كبير، ويتمتعون بدعم غبطة هنري الطمير الشهير بحسناته ودهائه، الذي قدم جهدًا كبيرًا لبناء وتوسيع القاعة المعروفة بلفظ “Salle d’asile”، والتي تعد مكانًا واسعًا بفضل اثنين من أعمدتها المصنوعة من المرمر. وكان الاب الجليل هنري برنار الدومنكافي هو المهندس والمشرف على بناء القاعة، واستمرت عملية البناء لأكثر من ستة أشهر. تدير المدرسة راهبات من رهبنة أخوات المحبة، ولكن تجذب هذه القاعة اهتمام أولياء الأمور بشدة بسبب حجمها الكبير وأرقام التلاميذ الكبيرة التي استدعت إقامة شقق إضافية لاستيعابهم.
المعلومات المذكورة مستمدة من كتاب “تنزه العباد في بغداد” الذي صدر في بيروت عام 1887 من المطبعة اللبنانية، والذي كتبه الدكتور نابليون الماريني، شقيق الأب أنستاس ماري الكرملي، والذي كان له اهتمامات تاريخية.