التجنيد الالزامي العام.. كيف دخل العراق في أواخر العهد العثماني؟

في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909)، تم تفعيل نظام التجنيد الإجباري العام في العراق، حيث أصبح المواطن العراقي ملزمًا بأداء الخدمة العسكرية بعد بلوغه سن الثامنة عشر. كانت مدة الخدمة للمتطوعين تصل إلى 27 شهرًا مع الاحتياط.
لمواجهة الرشوة والفساد في عملية القرعة، أُنشئت “لجنة التجنيد”، تضم عددًا من الضباط بالإضافة إلى رئيس اللجنة أو الوحدة الإدارية، المفتي العام، الحاكم، ورجال الدين. كان يتولى رئاسة اللجنة ضابط برتبة مقدم، وفي حالة عدم توفره، يُعين شخص مناسب محله.
عبد الحميد الثاني حاول تطوير الجيش العثماني باستفادته من الإصلاحات السابقة. أقام عدة معسكرات في مناطق متنوعة من العراق، وشهدت القوات العثمانية تقديم التحسينات التكنولوجية، حيث بدأت في استخدام التلغراف والزوارق البخارية في القوات البحرية.
المدارس العسكرية التي تدرب الجيش بالضباط شهدت تطورًا وازديادًا، حيث قدم الجنرال الألماني فون درغولج تقريرًا يوضح فيه خطة لتحسين الجيش العثماني من خلال هذه المدارس. كان نظام التعليم في هذه المدارس صارمًا، والمراقبة كانت شديدة بدقة، والامتحانات كانت شفهية وتحريرية تُجرى بواسطة لجان متخصصة. وقد بلغ عدد العراقيين في المدارس العسكرية في عام 1899 حوالي 761 طالبا.

في العهد الاتحادي (1908-1918)، شهد نظام التجنيد الإجباري تطبيقًا أشد، حيث أصدر قانون جديد في عام 1909 يُلزم المسلمين وغير المسلمين الذين تجاوزوا الثامنة عشرة بأداء الخدمة العسكرية. تم تحديد فترة الخدمة بـ 25 سنة، تتألف من 3 سنوات نظامية و5 سنوات احتياطية و12 سنة رديفة و5 سنوات مستحفظة في القوات البرية، بينما كانت في القوات البحرية مدة الخدمة 20 سنة. قبل الحرب العالمية الأولى، تم تخفيض سن الدعوة للتجنيد إلى 18 سنة.
كانت هناك إعفاءات للبدو والرحل والأكراد من الخدمة العسكرية، وظل قبول دفع البدل النقدي مستمرًا من قبل غير المسلمين.
تتضمن الرتب العسكرية لضباط الجيش ملازم ثان، ملازم أول، يوزباشي (نقيب)، صاغ باشي (رائد)، بين باشي (مقدم)، مير الاي (عميد)، لواء، فريق، فريق أول، ومشير. أما رتب الجنود فتتنوع بين جندي مكلف، جندي متطوع، جندي أول متطوع، عريف متطوع، ورئيس عرفاء متطوع.
ضباط الجيش يستفيدون من مساعدات عينية تُعرف بـ “معيشية”، وتُدفع لهم مبالغ نقدية تُعرف بـ “تعيينات” إلى جانب رواتبهم. بينما لا يستلم الجنود رواتبهم حقيقةً حتى نهاية خدمتهم، ويتسلمونها على شكل سندات.

على ما يبدو، كانت فكرة التجنيد غير مرغوبة من قبل العراقيين، حيث زادت حالات الهروب من الخدمة العسكرية خلال فترة النفير العام بدخول تركيا الحرب العالمية الأولى في عام 1914. ورغم ذلك، كان العراق يقدم ضباطًا ذوي مستوى رفيعًا للجيش العثماني.
في سياق الدولة العثمانية، كان لفرض التجنيد الإجباري دور بارز، حيث كان الاعتماد على القوة العسكرية أساسيًا في فرض القوانين. عند إعلان فرض التجنيد الإجباري في بغداد، واستعداد الوالي عمر باشا (1857-1859) لتطبيقه، قاومت عشائر العراق، خاصة في مناطق الحلة وكربلاء والنجف، هذا الإجراء. رفضت هذه العشائر تسليم أبنائها للخدمة العسكرية وتركت محلاتها للهروب إلى الصحاري والأهوار، ونشبت احتجاجات عدائية ضد الحكومة في أماكن مثل الحلة.

تجاوزت عشائر ديالى أيضًا فرض التجنيد وأعلنت عن تمرد على الحكومة. رفضت عشائر الهندية والشامية والديوانية تقديم المجندين المطلوبين، وتصاعدت الاحتجاجات، وقامت بالهجوم على المرافق الحكومية ونهب القوافل.
أثناء عهد الوالي مدحت باشا، جابت حالة التمرد ببغداد في 28 أبريل 1869، حيث رفض 300 مكلف الانصياع لاستدعاء الخدمة العسكرية. قامت السلطات بإرسال جيش لقمع الاضطراب وأنهته بعد فهم الأهالي لخطورة الموقف.
بعد سريان قانون التجنيد الإجباري في جميع أنحاء العراق، نشبت ثورة في منطقة الفرات الأوسط، خاصة في الديوانية والحلة، نتيجة للضرائب الثقيلة وفرض التجنيد الإجباري. اتسمت هذه الثورة بحدوث مواجهات بين العشائر والجيش العثماني، وقادت إلى خسائر فادحة من الجانبين.
على ما يبدو، انتقلت معارضة فرض التجنيد من الفرات الأوسط إلى الجنوب، حيث عارضت العشائر في البصرة تنفيذ قانون التجنيد الإجباري، مما أدى إلى تمرد على الحكومة العثمانية. في شمال العراق، كانت العشائر الكردية في حالة تمرد دائم ضد السلطة العثمانية، رافضة الدفع والتجنيد، وكان للثوار الكرد في مثل هذه الأوقات دور ملحوظ.

في عهد الدولة العثمانية، عند دعوتهم للخدمة العسكرية، فُرض على اليهود والمسيحيين تطبيق قانون التجنيد الإجباري، الذي كان يعد واجبًا عليهم. لكنهم تملصوا من التجنيد واكتفوا بدفع البدل. كانت الكنائس المسيحية تثير الأزمات عندما تحاول الحكومة التجنيد، وتعتبر هذه الخطوة مصدرًا للتوتر.
أما الطائفة اليزيدية، فكانت تعارض قانون التجنيد الإجباري بحجة أنه يتعارض مع طقوس ديانتها. رغم ذلك، نجح الوالي مدحت باشا في فرض القانون عليهم من خلال حملة عسكرية. لكن اليزيدية قدّموا عريضة في 1872 لاستثنائهم من التجنيد، مستندين إلى اعتباره يتعارض مع واجبات دينهم، وقد أثرت هذه العريضة في قرار الحكومة بإعفائهم من التجنيد والسماح لهم بدفع بدل نقدي.

في هذا السياق، يظهر أن قانون التجنيد الإجباري أثار رفض العراقيين بسبب عدة أسباب. تضمنت هذه الأسباب تجارب سلبية مرتبطة بالتجنيد، مثل الابتزاز والسخرية والمداهمات. كما أن سوق المجندين إلى بعيدة المنال، وعدم فهم الإدارة العثمانية للمجتمع العراقي، وتأثير الخدمة العسكرية على حياة الأفراد، جميعها عوامل أسهمت في جعل العراقيين يعتبرون التجنيد الإجباري عبئًا كبيرًا.