مختصر حياة نساء عشنَ في الزمن الماضي. مريم واحدة منهن. مريم الماضي أنجبت "مريمات" الحاضر إن صحّ الجمع، تراهن اليوم فوق أعلى درجة من سلّم الإبداع أينما وجدوا في مناشط الحياة.
مريم امرأة نحيلة البنية ليس عليها الكثير من اللحم والشحم، تستهلك طاقتها منذ استيقاظها بين أشغال الدار والأولاد والبنات. فيما بقي من الوقت ترتاح مريم مع جاراتها في تدخين التبغ وحضور عزايا الجيران التي تقام كل يوم. تستيقظ مريم قبل الفجر لتعطي الدجاجات ما سقط فوق سفرة عشاء البارحة، من أيدي وأفواه الصغار، من الأرز والخبز.
ملابسها من النوع الرخيص لأن زوجها لا يستطيع أن يوفر لها ما تتطلع إليه كما بعض الجارات اللاتي بدأ أزواجهن بالعمل بانتظام مع شركة أرامكو وبعض المقاولين وصاروا يتقاضون رواتب شهرية منتظمة. دار مريم نظيفة جدًّا، أرضيتها من التراب الصلد المرصوص، أثاث دارها من الخشب القديم. مرايا مستطيلة تزيّن الجدران وصناديق قديمة تحتفظ فيها مريم بملابسها القليلة. تفوح من دار مريم روائح الطيب الزكية على الدوام. ليست دارًا فخمة، بأي مقياس، لكنها ملك زوجها ولن تغادرها طوال ما بقي من حياتها.
مريم واحدة من النساء اللواتي رأيناهنّ في طفولتنا. لم يستمتعن بخيرات الحياة وما تقدمه الدنيا ومع ذلك صبرنَ وبنينَ وربينَ وكبّرن أجيالًا فيهم المبدع والتاجر والعامل والطبيب والمهندس. مريم صارمة ربت أولادها وبناتها على قواعد لا يستطيع أحدهم أن يشذ عنها ويخالف أوامرها. رقيقة حنونة ومربية، تقوم مقام الرجل حين يغيب عن البيت، عصاتها تلسع مؤخرات من يعصي أوامرها دون أن يرف لها جفن!
لا تعصي أوامر زوجها؛ اجلسي جلست، اخرجي خرجت. معه أينما ذهب إلى المزارات والحج والعمرة. لم تسمع عن لندن ولا باريس ولم تر خارطة العالم في حياتها. بيتها دولتها ولا تعرف حدود أيّ دولة أخرى! كبرت ووَلدَت وعاشت وماتت في بيت زوجها! مساحيق زينتها صبغة بسيطة فوق شفتيها الورديتين وورد الرازقي على جيدها.
أشياء كثيرة تعجب مريم في هذه الآونة لو رأتها ولا تمانع أن تحصل عليها؛ مكنسة كهربائية، ثلاجة، براد الهواء! أشياء كثيرة يمكن أن تغيرها مريم في حياتها إلا قيمها وأنوثتها وأمومتهَا وزعامتها في بيتها. لم تعرف وسائل التواصل الاجتماعي؛ تواصلها مع شبكة متينة من جاراتِها، أم فلان وأم فلانة، نسوة من لحمٍ ودم لا من عالم افتراضي!
الكلام كثير في مريم، يملأ صفحات وللقراء الكرام أن يتعرفوا على سيرتها من الذين عاشوا معها! لا توجد صورة لمريم في النتّ لأنها تعتبر صورتها جزءًا لا يتجزأ من هويتها وشخصيتها. هكذا عاشت مريم في الزمن الماضي حقيقة وليس رواية، لم تكن امرأة معصومة ولا قديسة، تخطئ وتصيب كأي بشر. أما الحب عندها فكان يعني الزواج وغير ذلك خطيئة كبرى!