لم يكن التطور الكبير الذي شهده الإنسان في صناعة الفضاء خلال العقود القليلة الماضية كافيا في نقل البشرية قاطبة إلى خارج الأرض، وإنما كانت فترة احتكرت على مجموعة محدودة من الأفراد. فمسألة العثور على رواد فضاء أو حتى مصادفتهم يُعد أمرا نادرا للغاية، فوفق التعداد السكاني الحديث، من بين 8 ملايين شخص ثمّة رائد فضاء واحد فقط.
فكونك رائد فضاء في هذا العصر لا يُعد أمرا شائقا فحسب، بل هو تفردٌ يضعك ضمن نخبة بشرية يكاد يصل عددهم 600 رائد فضاء ينتمون إلى مختلف الجنسيات والأعراق. وبطبيعة الحال، فإن الأمريكيين يحتلون النصيب الأكبر من هذه المشاركة، يليهم الروس ثمّ الصينيون فاليابانيون وبقية البلدان، وثمة 11 رائد فضاء مسلم، من بينهم 3 روّاد عرب.
وفي مارس/آذار من هذا العام عادت الكبسولة الروسية “سويوز” إلى الأرض، قادمة من محطة الفضاء الدولية، وكان على متنها رائد الفضاء الأمريكي “مارك فاندي هيي” وزميلاه الروسيان “أنتون شكابليروف” و”بيوتر دوبروف”، ولم تمض سوى دقائق معدودة من اختراق الغلاف الجوي حتى هبطت الكبسولة على أحد المراعي في الأراضي الكازاخية.
إنه -كما بدا- مشهد مألوف للغاية، فرق الإنقاذ والطائرات المروحية تحلّق فوق المظلة التي غطّت الكبسولة، والغبار المتصاعد قد أخفى ملامح المركبة إثر الاصطدام، وما هي إلا دقائق أخرى حتى أُخرِج الرواد من تلك القوقعة الصلبة الضيقة، وقد بدا أن الحسرة قد ارتسمت على وجه “فاندي” الذي لوّح بيديه للمصورين بنظارته السوداء المعكوفة بشدة إلى جنبيه. فقد وضّح لاحقا بأنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي يرتاد بها إلى الفضاء كما وعد زوجته، بعد أن أمضى مجموع 355 يوما في الفضاء الخارجي.1
ويعد هذا رقما قياسيا مسجلا باسمه لأكثر فترة مكوث في الفضاء بشكل متقطع، إنّها تلك اللحظات التي أدرك بها بأنّ رحلته التي استمرّت لعام قد شارفت على النهاية، وإنّه كان اللقاء الأخير الذي يجمعه مع الأرض بعظمتها من خارج الغلاف الجوي.
والآن كلّ ما ينبغي عليه فعله هو العودة إلى الحياة الرتيبة القديمة، وربّما يستغرق الأمر بعض الشيء كي يعتاد الجسم نظام الجاذبية الجديد، لكن كيف بدأت الحكاية من الأساس، وكيف يستطيع أحد ما أن يكون رائد فضاء؟
قدرات الأجساد والمعارف.. معايير اختيار رائد الفضاء
قد تختلف معايير اختيار رائد الفضاء في الوقت الحاضر من وكالة إلى أخرى وفق ما يتناسب مع سياسة الدولة، لكنه كان إجراء أسهل فيما مضى، كما كان الأمر مع أشهر وكالات الفضاء في العالم؛ وكالة الفضاء الأمريكية ناسا.
فقد كانت عملية اختيار وانتقاء روّاد الفضاء في خمسينيات القرن الماضي أمرا تتكفل به المنظومة العسكرية الأمريكية، فنجد أنّ روّاد الفضاء الأوائل من العساكر، ومن الذي امتلكوا خبرة في التحليق بالطائرات النفاثة، بالإضافة إلى شرط وحيد، إذ كان ينبغي أن لا يتجاوز طول المرشحين 1.8 م، لكي تتناسب أحجامهم مع مركبة الفضاء “ميركوري” (Mercury).
تمارين اختبارية شاقة لاختبار احتمال المرشحين المتقدمين لريادة الفضاء
لكن في عام 1964 أضافت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا شرطا جوهريا آخر يتعلّق بالمعرفة الهندسية والعلمية والقدرة على تطبيقها، فنجد أنّ الوكالة بدأت تنتهج توظيف واختيار العلماء الحاصلين على درجة الدكتوراه في الطب أو الهندسة، أو في العلوم الطبيعية مثل الفيزياء أو الكيمياء أو علم الأحياء.
ومع مرور الوقت زادت الانتقائية في عملية الاختيار، وأصبحت المعايير أكثر صرامة، لكن الرقعة اتسعت لتشمل المدنيين والعسكريين على حدٍ سواء في إمكانية الالتحاق بنادي روّاد الفضاء، ويمكن اختصار المعايير المطبقة اليوم على النحو الآتي:
الجنسية الأمريكية. الحصول على درجة الماجستير في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بما في ذلك العلوم البيولوجية أو الفيزيائية أو علوم الحاسوب، وذلك من مؤسسة معتمدة. خبرة مهنية لا تقل عن سنتين بعد التخرج، أو عدد ساعات قيادة طائرة نفاثة لا يقل عن ألف ساعة. القدرة على اجتياز التدريبات الفيزيائية لرحلات ناسا طويلة الأمد.2
وأما بالنسبة لمتطلبات الانضمام إلى وكالة الفضاء الاتحادية الروسية “روسكوزموس”، فالأمر يتوقف على عدة نقاط مشتركة مع سابقتها، ومع وجود حد عمري يشترط عدم تجاوز 35 عاما، بالإضافة إلى ضرورة الحصول على الجنسية الروسية، مع بعض التفاصيل التي تتعلق بالوزن والطول بالنسبة للمرشحين والمرشحات.3
وبعيدا عن ضرورة التمتع بحالة صحية ملائمة، فإن الروس يضعون بعين الاعتبار بعض القيم التي تدخل في عملية الاختيار ومنها الانضباط في المزاج، والإمكانيات الإبداعية، وقوة الذاكرة، والحفاظ على التوازن الذهني تحت الظروف الصعبة وغير ذلك.
“مرشح لأن يكون رائد فضاء”.. سباق إلى ناسا
تعلن ناسا من وقت إلى آخر عن فتح باب التسجيل والانضمام وفق جدول مهامها، وآخرها كان في مارس/آذار عام 2020، وقد شهد إقبالا كبيرا، إذ بلغ عدد المتقدمين أكثر من 12 ألف شخص، وفي ظرف عام يُتأكد من أهليتهم واستبعاد غير مستوفي الشروط، وأخيرا يُدعون إلى مراكز ناسا لبعض الإجراءات.4
يمضي المتقدمون أسبوعا كاملا من المقابلات والفحوصات الطبية واختبارات القدرة على التكيف، ثم يُتخذ القرار النهائي بشأن الحاصلين على بطاقة الترشيح، ويبلغ الجميع بالنتائج الأخيرة، وربّما يكون ذلك اليوم هو الأكثر تشويقا بالنسبة للمتقدمين، ومن يحصل على الموافقة يُطلق عليه رسميا “مرشح لأن يكون رائد فضاء” أو اختصارا “مرشح”.
ومنذ تلك اللحظة يبدأ العمل الحقيقي على تهيئة وتحضير المرشح للصعود إلى الفضاء في فترة زمنية طويلة تستغرق عامين من العمل، لكي يصبح مؤهلا بشكل كامل.
إعلان من وكالة الفضاء الأوروبية “إيسا” للالتحاق ببرنامج تدريب رواد الفضاء
ويخضع المرشح لتدريبات فيزيائية مكثفة وتعليم عالٍ يمكنانه من الإلمام ببيئة الفضاء، وفهم طبيعة محطة الفضاء الدولية وكذلك كيفية عمل المكوك الفضائي. ويختلف جدول التدريب بشكل طفيف من وكالة مع أخرى، فعلى سبيل المثال تنقسم التدريبات إلى 3 مراحل وفق لوائح وكالة الفضاء الأوروبية “إيسا” (ESA)، وهي التدريب الأساسي، والتدريب المتقدم، ثم تدريبات إضافية نوعية تعتمد على طبيعة المهمة.5
لكن على أية حال، في هذا المقال سنعتمد نموذج وكالة ناسا دون غيره للحفاظ على تدرج المراحل وتسلسلها، إذ يُسجَّل المرشحون في المكتب المخصص بشؤون روّاد الفضاء (Astronaut Office) في مركز “جونسن للفضاء” بولاية تكساس، ومن هناك تبدأ رحلة التدريب والتقييم التي تستمر قرابة عامين.
برامج التعليم والتدريب الرياضي.. عتبات في طريق الفضاء
يخضع المرشح في التدريبات الأساسية إلى برنامج متكامل حول الأساسيات المعرفية التي تتناول الجانب التقني والعلمي من المهمة، ابتداء من أقل المستويات المعرفية المشتركة بين جميع المرشحين، إلى المستوى المتقدم الذي يتخصص به رائد الفضاء لاحقا.
وتلك العلوم التقنية تتناول هندسة رحلات الفضاء، والهندسة الكهربائية، وديناميكا الموائع، وهندسة الدفع، والديناميكا الفلكية، وعلم المواد، ويتضمن البرنامج مدخلا في بعض العلوم في ظل انعدام الجاذبية، مثل علم وظائف الأعضاء البشرية، وعلم الأحياء وغير ذلك. كما يطلب من المرشحين تعلم اللغة الروسية لتسهيل عملية التواصل مع بقية الرواد في محطة الفضاء الدولية.
يتبع ذلك بدراسة وفهم عام لكافة أنظمة الفضاء (Space Systems) كما هو الحال بالنسبة لأنظمة محطة الفضاء الدولية بكل ما تحويه من هيكل وتصميم داخلي للمحطة، ووحدة التوجيه والتحكم، ووحدة التحكم الحراري، وآلية توليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها، ونظام الأنشطة خارج المحطة، ونظام دعم الحياة الذي يعمل على توفير الأوكسجين والماء والاستفادة من ثاني أكسيد الكربون والفضلات.
بلباس فضائي كامل يغوض رواد الفضاء تحت الماء لأداء مهمة فضائية محتملة
وبوصفه جزءا من التدريبات الأساسية، يُفرض على المرشحين إكمال تدريبات عسكرية تتعلق بكيفية النجاة وسط المياه قبل الشروع في البرامج المتعلقة بالطيران، كما يتلقى المرشحون برامج غوص خاصة “سكوبا” (SCUBA)، لتهيئتهم لتدريبات السير في الفضاء.
وخلال الشهر الأول يستوجب على جميع المرشحين اجتياز امتحان السباحة الذي يتطلب قطع 3 أشواط لمسبح بطول 25 مترا دون توقف، ثم مجددا 3 أشواط أخرى، لكن ببدلة الطيران دون وجود حد زمني. ثم بواسطة حجرة محاكاة الارتفاع يتعرض المرشحون للظروف الحرجة المرتبطة بالضغط الجوي العالي والمنخفض كذلك، فيرشدون إلى كيفية التعامل مع حالات الطوارئ المرتبطة بهذه الظروف.
وبالنسبة لبيئة تنعدم فيها الجاذبية، فإنّ المرشحين يخوضون تجربة مميزة بينما هم على الأرض ضمن إطار تدريبي في طائرة مخصصة لخلق بيئة تحاكي الفضاء، وتعرف برحلات “زيرو-ج” (Zero-G). وينتج تأثير انعدام الجاذبية من خط سير الطائرة التصاعدي الذي يتغيّر رياضيا وفق انحناء القطع المكافئ، ويستغرق ذلك التأثير مدة زمنية أقصاها 22 ثانية، وهي كفيلة بأن تترك انطباعا لدى المتدربين عن طبيعة بيئة الفضاء، وتستمر هذه العملية 40 مرّة في اليوم.
وهنا نصل إلى المحطة الأخيرة، وهي مرحلة التقييم، ففي حال إتمام المرشحين التدريب وتحقيقهم علامة النجاح فسيصبحون بشكل رسمي “رواد فضاء”، وأما من فشل في تحقيق ذلك فسيحول إلى مناصب أخرى داخل الوكالة، اعتمادا على الحاجة والأماكن الشاغرة.
وتعقيبا على التدريبات الأساسية يشير رائد الفضاء والطيار السابق في سلاح الجوي البلجيكي “فرانك دي وين” إلى أنّ المشترك في التدريبات الأساسية يحصل على إجابات جوهرية لبعض الأسئلة؛ مثل كيف تبدو محطة الفضاء الدولية؟ وما هو شعور أن تكون رائد الفضاء؟ وما هي المهام المتوقعة منك في المستقبل؟6
أربع ساعات تحت الماء تعادل ساعة في السماء.. تدريبات شاقة
ها هم رواد الفضاء الآن بعد أن قطعوا مسارا طويلا باتوا مهيئين لمجابهة التحديات الحقيقية في الفضاء، حان دور التدريبات النوعية المتقدمة لوضعهم في أصعب التحديات، وفي ذلك يُدرب رواد الفضاء على العمل على جميع الأنظمة التي ذكرنا آنفا، والتعرف على كافة الأعطاب الممكنة وكيفية علاجها إذا لزم الأمر.
ومن ضمن التدريبات المتقدمة العمل تحت الماء في مرفق تدريب “سوني كارتر” أو منشأة “مختبر الطفو المحايد”، ويحتوي على حوض سباحة كبير بطول 62 مترا وعرض 31 مترا وعمق 12 مترا، كما يحتوي المسبح على 22.7 مليون لتر من الماء.
يخضع رواد الفضاء المتدربين لتدريبات غوص تمتد ساعات كمحاكاة للطوف في الفضاء
توفر هذه المنشأة بيئة تحاكي بيئة الفضاء، إذ يرتدي رواد الفضاء بدلات مصممة لتوفير طفو محايد، لمحاكاة انعدام الجاذبية التي يواجهها رواد الفضاء أثناء أداء أنشطتهم خارج المركبة الفضائية. ولا يبدو الأمر سهلا مطلقا، بل إنها تجربة شاقة، ويتعيّن على جسد المتدرب التكيف مع انعدام الجاذبية ببذل جهد مضاعف للتحرك والتحكم في حركته بينما يرتدي بدلته المنتفخة، فهو أقرب إلى أن يكون تدريبا على التحكم بديناميكية الجسم تحت ظرف استثنائي. وقد تستمر التدريبات تحت الماء قرابة 7 ساعات يوميا، في حين يرى المختصون بأنّ 4 ساعات من التدريب تحت الماء يعادل ساعة من العمل خارج محطة الفضاء الدولية.7
ومن ضمن التدريبات تحت الماء، تستخدم نماذج طبق الأصل لبعض أجزاء محطة الفضاء الدولية أو نماذج لمراكب فضائية ويُطلق عليها “موك- آبس” (Mock-ups)، وذلك لخلق بيئة مألوفة لرواد الفضاء بكافة التفاصيل قبل الصعود إلى الفضاء.8
وبعد تحقيق الهدف المطلوب من مستوى التدريبات، وفور أن يصبح رائد الفضاء جاهزا تماما لخوض التحدي، تحدد ناسا تواريخ إطلاق كافة المهام التي كُلف رواد الفضاء بها مسبقا، ومع إعلان عودة الإنسان مجددا إلى القمر، فإنّ رواد الفضاء يترقبون رحلات تأخذهم إلى عوالم أخرى، ولعلّ المريخ هو إحدى تلك المحطات المرتقبة مستقبلا.
صيانة المحطة وإجراء التجارب والبحوث.. مهام رائد الفضاء
بعد أن استعرضنا الرحلة الطويلة التي يقطعها رائد الفضاء للوصول إلى هدفه المنشود، فإنه بات من الواجب الاطلاع على مهام رائد الفضاء بينما يوجد في الفضاء الخارجي، ففي ظل العزلة التي يتعرض لها وبُعده عن عائلته وحياته الاجتماعية لفترات طويلة، فإنه يعيش تحت ضغط نفسي وبدني كبير ومتواصل، ولكن بفضل التدريبات الصارمة يكون قادرا على إنجاز مهامه التي كلّف بها ولأجلها أصبح رائد فضاء.
الذراع الكندية لمحطة الفضاء الدولية تسمح لرواد الفضاء بأداء مهماتهم في الفضاء
وإذا كان حديثنا عن محطة الفضاء الدولية، فثمّة مجموعة كبيرة من المسؤوليات تنقسم إلى قسمين؛ مهمات داخل المحطة، ومهمات خارج المحطة. ويمكن تلخيصها بالنقاط الآتية:
القيام بأنشطة خارج المحطة؛ إما لتركيب أدوات وأجهزة جديدة، أو العمل على الصيانة الخارجية لأي عطب أو تلف. إجراء التجارب العلمية في مجالات شتى مثل علم الأحياء والكيمياء والفيزياء وعلوم المواد والأرصاد الجوية والجيولوجيا. تطوير تقنيات جديدة يمكن استخدامها في استكشاف الفضاء أو في تسهيل بناء مستوطنات فضائية. التواصل مع طاقم مراقبة البعثة للإبلاغ عن النتائج أو المسائل التي تنشأ في أثناء سير المهمة. إجراء اختبارات صارمة لتحديد مدى قدرة رواد الفضاء على أداء وظائفهم تحت الضغط. إجراء بحوث تطويرية تتعلق بالروبوتات، بالتعاون مع المهندسين الموجودين على الأرض. إجراء تجارب علمية في الفضاء لمساعدة العلماء على فهم الظواهر في بيئات تنعدم الجاذبية بها. مراقبة حالة كافة الأنظمة على متن المركبات الفضائية وتحديد أي عطل أو تلف أو ضرر.
وفي هذه الأثناء ينبغي على روّاد الفضاء أن يكونوا على استعداد لأي طارئ يحدث في المركبة الفضائية، وذلك وفق إرشادات يتلقاها ضمن تدريباته الأساسية، مثل اندلاع الحرائق، أو تعطل إمدادات الأوكسجين، أو فقدان الاتصال بالأرض، أو اختلال بالضغط الجوي داخل المركبة، وغيرها من المشاكل التي تهدد سلامة الروّاد.
رواد المستقبل.. جولات بحثية على سطح القمر والمريخ
على الرغم من الجدول المزدحم الذي ينتظر رائد الفضاء في الأعلى، فإن ساعات عمله لا تختلف كثيرا عن ما هي على الأرض، بل إن يومه يبدأ بشكل طبيعي تماما بوجبة الفطور، ثمّ يبدأ العمل مع ساعة استراحة لوجبة الغداء، فيواصل العمل بعدها إلى أن ينتهي دوامه قبل تناول وجبة العشاء، وبين هذه وتلك ثمّة فواصل للمشروبات الساخنة وبعض الوجبات الخفيفة.
وخلافا لما هو رائج بأن رائد الفضاء مهمته تتمحور على دوره في الفضاء فقط، فالحقيقة أن ذلك جزء صغير من وظيفته التي تشمل العمل من محطات الفضاء على الأرض، حيث يقضي جلّ وقته حينما تنتهي خدمته في الأعلى.
في سبيل غزو كوكب المريخ، ستصبح تدريبات رواد الفضاء أكثر مشقة وأطول مهاما
وعلى أي حال، فإن ذلك النمط من الأعمال -كما يبدو- قد أوشك على التغير، إذ باتت المشاريع الفضائية المستحدثة تتطلب مهاما جديدة مختلفة، فها نحن مثلا بصدد العودة إلى القمر بعد انقطاع أكثر من 50 عاما ضمن برنامج “أرتميس”، وطاقم رواد الفضاء المعينين في هذا المشروع سيكلفون بجولات بحثية على سطح القمر، والعمل على أخذ عينات من تربته، وتركيب المعدات العلمية، وتشغيل الأجهزة الروبوتية. ونفس الشيء بالنسبة لكوكب المريخ على المدى البعيد، إذ سيكون نمطا مغايرا من المهام عن ما يعتاده رواد الفضاء اليوم.
شعب لا يستحم ويبلع معجون الأسنان.. يوميات الفضائيين
الآن بعد أن حطّ رائد الفضاء خطوته الأولى على متن محطة الفضاء الدولية على ارتفاع 400 كم من الأرض، أو بالأحرى، بدأ عومته الأولى بداخلها، سيبدأ جسمه على التأقلم أو سيلزم نفسه على ذلك بحثا عن التكيّف. فكلّ ما سيصادفه من أنماط الحياة سيكون مغايرا عن ما قد اعتاده طيلة حياته.
تتغير كل العادات ابتداء من الرعاية الشخصية والنظافة التي تتطلب تعاملا خاص، ففي ظل عدم انتظام حركة الموائع والماء في بيئة تنعدم الجاذبية بها، فإنّ الاستحمام أمر غير
وارد مطلقا، وهذه حقيقة مفادها أنّ رواد الفضاء لا يستحمون، وبدلا من ذلك فهم يقومون باستخدام منشفة مبللة لمسح أجسادهم بها، كما يغسلون شعرهم بـ”شامبو” خالٍ من الماء.
في الفضاء لا يوجد استحمام بالماء، إنما مسح للجسم بفوطة مبللة بالصابون
وبالنسبة لنظافة الأسنان، فالعملية لا تختلف كثيرا عن حالها على الأرض، إلا أنّ الفم ينبغي أن يكون مغلقا بقدر المستطاع لتفادي خروج أي قطرات تتطاير في الأرجاء، مما قد يؤذي العين، فالمعجون المستخدم يكون قابلا للأكل وعليه ينبغي بلعه، وينظف الفم بأي قطعة قماش مبللة.
وأما بالنسبة لقضاء الحاجة، فثمّة مراحيض خاصة تعمل بواسطة أنابيب شفط تحمل النفايات والفضلات بعيدا عبر مجرى هواء أسفل الحجرة (المرحاض)، ثمّ تُضغط أيّ مواد صلبة وتخزن للتخلص منها لاحقا. أما المواد السائلة فيعاد تدويرها واستخدامها لشرب الماء بعملية التحليل الكيميائي، وذلك لشح الموارد، وهي تعد طريقة آمنة وفعالة للغاية.9
أطعمة الرواد.. من وجبة اللحم المهروس إلى مئات الأصناف
على مستوى الأكل يُعد الأمر هنا أكثر تفصيلا، ففي السابق كان الطعام يجفف أو يهرس ليكون بقوام معجون الأسنان، ثمّ يخزن في أنابيب أو علب من الألمنيوم فتسهل عملية إيصاله إلى الفم دون مشقة في بيئة تنعدم قوة الجاذبية بها، وكان رائد الفضاء الروسي “يوري غاغارين” أول من صعد إلى الفضاء الخارجي، وأول من تناول وجبة غذائية كذلك في الفضاء، إذ كانت وجبته من اللحم المهروس ومعجون الشوكولاتة المخزّنة في أنابيب مخصصة.
ومع مرور الوقت تحسنت جودة الأكل وتنوعت حتى باتت اليوم تشبه إلى حد كبير ما هو على الأرض، مذاقا وربّما شكلا كذلك، ووفقا للمتخصصين فإنّ هناك ثلاث وجبات رئيسية في النظام الغذائي بالإضافة إلى بعض الوجبات الخفيفة المتاحة يمكن تناولها في أي وقت، على أن يستهلك رائد الفضاء 2500 سعرة حرارية يوميا. ويقسم الطعام وفق المجموعات الآتية:
الأطعمة الطازجة مثل الفواكه والخضراوات، وتحفظ في ثلاجات مؤقتة، على أن تستهلك في غضون يومين تجنبا لتعفنها، ولا يشكل التوقف عن أكلها لاحقا أيّ عائق، لأنّ ثمة مصادر أخرى للحصول على الفيتامينات والعناصر الغذائية الأخرى. الأطعمة المشعّعة مثل اللحوم ومنتجات الألبان التي تتعرض للإشعاع المؤين، فيقلل من الأخطار المرتبطة بالتلوث الجرثومي، مما يزيد من عمرها ويقي الطاقم من المرض. أطعمة ذات رطوبة متوسطة، وهذه الأطعمة تحتوي على كمية قليلة من السوائل (الماء) بما يكفيها لتمنع نمو البكتيريا عليها، وتستخدم عمليات عدة لتحضير هذه الأطعمة مثل التجفيف والتمليح. الأطعمة الجاهزة على هيئتها الطبيعية دون الحاجة إلى تدخل، مثل المكسرات والبسكويت والشوكولاتة التي تكون جاهزة للأكل.
وتشرف على إعداد الطعام معاهد عدة ومختبرات متخصصة فقط في تهيئة طعام روّاد الفضاء، فعلى سبيل المثال يتولّى “مختبر أنظمة الأغذية الفضائية” (The Space Food System Laboratory) في مركز “جونسون” للفضاء مهمة إعداد الطعام لطاقم الفضاء الأمريكي في المحطة الدولية الفضائية، إذ يوجد قرابة 200 صنف من الطعام المتاح، بالإضافة إلى بعض الأطباق الشخصية التي سيفضل تناولها روّاد الفضاء في رحلتهم الطويلة.10
حماية الجسد.. تمارين اللياقة في محطة الفضاء
لا يبقى لنا إلا أن عن ما يتعلق بضرورة التحضير البدني والبقاء بحالة صحية ممتازة، لأنّ تأثير انعدام الجاذبية على الجسم يُعد خطيرا سواء على مستوى تكلس العظام وتآكلها، أو عجز الأعضاء الحيوية عن إتمام المهام بالشكل الصحيح، فيصبح أبسط المهام مثل استخدام الحاسوب أمرا صعبا.
ويُعد المشي أو السير في الفضاء مرهقا، ويضع ضغطا كبيرا على العضلات فيجهدها، مما يُلزم الرواد بممارسة الرياضة للحفاظ على لياقتهم البدنية، فثمة آلة جري ودراجة تمرين (من غير إطارات)، يستخدمها رواد الفضاء يوميا لما لا يقل عن ساعتين. وثمة بعض البكرات وحبال الشد لتدريب عضلات اليد والأكتاف بتمارين المقاومة للحفاظ على لياقتها كذلك.
ساعتان من الرياضة اليومية الإجبارية يمارسها رائد الفضاء في محطة الفضاء الدولية للحفاظ على لياقته
ورغم أنها -كما يبدو- بيئة ليست مشابهة بالأرض إطلاقا، فإنها على أي حال تجربة ستكون هي الأجمل بحياة رائد الفضاء، فلا ينبغي أن ننسى بأنه في عطلة نهاية الأسبوع سيجلس أحدهم عند إحدى نوافذ محطة الفضاء المطلة على الأرض، فيتأمل ذلك المشهد الخلاّب الآسر، كرة زرقاء ضخمة تتخللها بعض اليابسة وفوقها أسراب من الغيوم البيضاء.
ألا يستحق هذا المشهد كل هذا العناء؟