يقول ديكارت: (إن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته واستمتاعه بجمال اللون والضوء، أفضل بلا شك من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر). هذه القيمة العليا للتربية على الاختيار، هي أشمل من أن تكون مجرد اختيار لفرع أومسلك أو مدرسة أو معهد، لتكون نسقا من العمليات التعليمية التعلّمية التي تبدأ بتنمية الوعي الذاتي لدى المتعلم، أي الوعي بوضعه البشري في تعدده وتنوعه، إدراكيا وعقليا وعاطفيا ونفسيا وحتى جسديا، ثم تنمية الشعور بالتقدير الذاتي، باعتبار أن الذوات التي لا تثق في إمكاناتها، هي ذوات لا تملك طموحا ولن تستطيع تحقيق مشاريعها الذاتية بحرية وبعيدا عن الإكراه.
إن إدماج التربية على الاختيار داخل منظومة المدرسة أصبح اليوم حاجة ملحة مقارنة بما كان، نظرا لتفشّي ظاهرة التدخل التعسفي لبعض أولياء التلاميذ في اختيارات أبنائهم، وخاصة في الفروع العلمية، من منطلق رؤية استثمارية غير سليمة في الأبناء. فكما أن هناك من يستثمر في العقار وغيره من القطاعات، نجد بعض الآباء يستثمرون بالمعنى الاقتصادي المحض للكلمة في أبنائهم، فيدفعونهم تعسفا، وضدّ قدراتهم وإمكاناتهم واستعداداتهم، إلى دراسة فروع معينة لاقتناع هؤلاء الآباء بكونها الطريق المضمون للمستقبل، وفي المحصلة لا تخلو المسألة من مخاطرة بمستقبل هؤلاء الابناء.
لقد كان اهتمام عصر الأنوار الأوروبي بموضوع التربية ومن خلالها المدرسة العامّة، نابعا من كون غاية التعليم بالقصد الأول هي إخراج المواطن من حالة القصور التي هو مسؤول عنها وحده، حالة القصور التي تفرضها عليه طبيعته من جهة، ومؤسسات الوصاية في القرون المظلمة من جهة أخرى. ومن ثم تعليم المتعلم وتحصينه بالمعارف والقدرات المناسبة التي تجعله ينتبه إلى أنه في كل مكان يوجد دوما من يدعي امتلاكه للحقيقة المطلقة والنهائية، وسيروم ممارسة كل أشكال الحجر عليه، في السياسة كما في الأسرة والمدرسة.
يقول كانط في مقالته الشهيرة «ما الأنوار؟»: إن حالة الوصاية ليست آتية من نقص في الإدراك العقلي.. بل من نقص في الإرادة والشجاعة في استعمال العقل دون توجيه من الغير.. فلتكن لك شجاعة الاهتداء بعقلك وحده.
ذلك هو شعار عصر الأنوار، وهذه هي روح التربية على الاختيار، إنها التربية على التنوير، تعليم التلميذ مزايا الإرادة الحرة والشجاعة، من خلال مساعدته على تخطي الصعوبات الناجمة عن الخروج من حالة الوصاية، لأنه خروج صعب وشاق، وقليلون هم من يهتدون إلى هذا السبيل.
إن التربية على الحرية والاختيار اليوم تعطينا الدليل على أن بقاء المتعلم/المواطن في حالة الوصاية لا ينبغي تبريره بأي شكل كان، سواء أكان بطش حاكم أو كاريزما أب أو حتى رسولية معلم، فالحرية مطلقة وحدودها الطبيعية تنبع من التزام الفرد لا من خوفه.
إن تنمية قدرات الإبداع والخلق والتكيف السليم مع مستجدات المحيط لدى المتعلم لن يكون هدفا ممكن التحقق وهذا المتعلم عاجز عن الاختيار، غير قادر على تحمل المسؤولية، غير قادر على الدفاع عن اختياراته بكل ما يقتضيه ذلك من ثقة في النفس وقدرة على التواصل.