كنت في الصف الثالث المتوسط من المرحلة الدراسية وكانت أول مرة أقوم فيها بتحميص القهوة وأنا أحمصها على الفحم المشتعل لا علم لي بطريقة التحميص التي أوكلت لي من قبل والدي وإذا بي أشعر بصفعة على قفاي أرفع رأسي وإذا بي أرى والدي من ورائي وهو يقول لي غلط قم توضأ فأجبته بأني لا أريد الصلاة وليس وقت أداء الفريضة قال قم وتوضأ مرتين ولا أظنني كنت أنتظر أن تقال لي مرة ثالثة فقمت توضأت وعدت لأسأل والدي لماذا وضوئي قبل البدء في تحميص القهوة قال لي القهوة نفس ويد طاهرة وأنفاسي ويداي يجب أن تكون طاهرة بالوضوء قبل أن أقوم بتحضير القهوة منذ الخطوة الأولى. يقول ومن يومها وأنا لا أقوم بتحميص القهوة إلا وأنا متوضئ وضوئي للصلاة.
ويردف بقوله: كان لمذاق القهوة وجلبها للأحباب قاعدة أخرى، بعد التحميص نقوم بوضعها في النجر (الهاون) لطحنها وما إن يقوم الهاون بدقها حتى يصدر جرس الإيذان بدعوة يجب أن تلبى من كل أذن سمعت دقة النجر تخبرهم بأن القهوة جاهزة ودعوة إلى ارتشاف القهوة من صاحب البيت فصوت النجر وهو يطحن القهوة نداء ودعوة للضيافة قواعد وأنظمة لا يمكن المساس بها في تحضير القهوة وطقوس خاصة في تقديمها وتحت شروط منظمة كوضعها في دلة مخصصة وثقيلة ومصنوعة بطريقة احترافية وطريقة تقديمها ومن يقدمها يكون شامخًا متصفًا بصفة الثقة والثبات وما إن تقدم إلى ذلك الضيف حتى يرخي بنظره إلى داخل فنجان القهوة ليرى إن كان فيها لون مختلف أو يرى رواسب ويشم رائحتها قبل أن يتذوقها لسانه ليعرف من خلالها أشياء كثيرة ويكون فكرة مسبقة عن صاحب البيت من قهوته وطريقة صناعتها وتقديمها وأصالة صاحبها وعلومه العربية الأصيلة كل ذلك من فنجان قهوة.
وهذه القاعدة الثابتة
ومن زانت قهوته زان مجلسه
إلى وقت قريب كنا نظن أننا نعلم الكثير عن القهوة أو أصولها أو حتى كيفية صنعها وتحميصها وطريقة احتسائها ولكني اكتشفت أنها علم بحد ذاته يحدد أشياء كثيرة عند من سبقونا من الأعراب.
وجيلنا الذي لا يفرق بين القهوة المختصة والقهوة المصنعة ونطلق عليها قهوة مختصة من دون إدراك لقيمة ما تحمل هذه الكلمة.
أدركت من هذه القصة الحقيقية التي عرضتها منصة بودكاست ثمانية أن هناك حقًا لكل شئ قاعدة ثابتة وعادات أصيلة متجذرة لا تمس ولا يغيرها تقادم السنون ولا تغتالها موجة الحضارة والحداثة وأن البركة التي توضع في كل شئ من حولنا تظل ببركتها ويزداد بريقها وانتشارها إن قدرنا قيمتها واستشعرناها في نفوسنا وأنه كما قيل: لا تتصنع ابقَ على ما أنت عليه لا ضير ولا بأس إن جاريت الحضارة والحداثة وتطورت وتثقفت وتعلمت بل على العكس استمر ولكن ابقَ على ما أنت عليه من دون أن تتصنع وتفقد أصالتك وبركة الأشياء من حولك من دون تصنع وكما قيل: التصنع يكسر صاحبه