مشاهد من مقابر جبانة طيبة القديمة (الألمانية)17/7/2024|آخر تحديث: 17/7/202405:40 م (بتوقيت مكة المكرمة)
احفظ المقالات لقراءتها لاحقا وأنشئ قائمة قراءتك
تدلنا المصادر التاريخية على أن الاستكشافات الأثرية المتوالية بمدن مصر التاريخية عامة، وفي جبانة طيبة القديمة -عاصمة مصر القديمة على مدى قرون- خاصة، سهّلت على المؤرخين معرفة أولئك الناس الذين أسسوا أحد أقدم وأعرق الحضارات الإنسانية على الأرض، وما عاشه المصريون القدماء من نعيم وشقاء، رغم ما واجهه المؤرخون في أزمنة سابقة من صعوبات في التأريخ للحياة الاجتماعية في مصر القديمة.
بالإضافة إلى ذلك، أسهمت نصوص مكتوبة على المئات من أوراق البردي وقطع الأوستراكا في معرفة الكثير عن الحياة الاجتماعية في مصر القديمة، وما سجّلته المعابد والمقابر من تفاصيل عن حياة قدماء المصريين، وما عُثر عليه من أثاث وأدوات وتلك الجداريات التى تُزين مقابر الملوك والنبلاء، مثل مقابر وادي الملوك ومقابر وادي الملكات ومقابر الأشراف ومقابر العمال، التي نحتها المصري القديم في جبل القرنة غربي مدينة الأقصر التاريخية بصعيد مصر.
ويرى الآثاريون وعلماء المصريات أن جبانة طيبة القديمة الواقعة في البر الغربي من مدينة الأقصر، والتي تضم مئات المقابر لملوك وملكات ونبلاء ونبيلات وفناني وعمال مصر القديمة، تُعد "مستودع أسرار الحياة اليومية لقدماء المصريين".
وفي الجزء السابع من "موسوعة مصر القديمة"، يرى عالم المصريات سليم حسن أن أوراق البردي والآلاف من قطع الأوستراكا كشفت الغطاء إلى حد لا بأس به عن كثير مما كان يجري في قصور الفراعنة وأكواخ العامة في مصر القديمة، وأن جبانة طيبة لعبت دورا مهما في الأوراق البردية التي كُشف عنها في عهد الأسرة العشرين، وهي الخاصة بأحوال معيشة الشعب وسير الأعمال والمعتقدات الدينية والشعبية.
الجبّانة العظيمة
وبحسب كتاب "موسوعة مصر القديمة" والكثير من مؤلفات علماء المصريات الأجانب والمصريين، فإن جبانة طيبة، التي عُرفت في النصوص المصرية باسم "الجبانة العظيمة النبيلة لملايين السنين للفرعون في غربي طيبة" الذي تم اختصاره ليكون "جبانة الفرعون"، نقلت لنا جوانب مهمة من الحياة اليومية للمصري القديم، إذ احتوت تلك الجبانة -التي تُعد اليوم من أهم المزارات السياحية المصرية- على قبور الملوك والعظماء الذين حكموا مصر قديما، كما ضمت بين جنباتها سكن العمال والفنانين الذين عملوا في نحت مقابر ومعابد الملوك والنبلاء في تلك الجبانة التي كانت من بين مكونات العاصمة المصرية في طيبة القديمة (الأقصر حاليا).
ويقول الأثري المصري على رضا، مدير منطقة وادي الملوك الأثرية غربي الأقصر، إن ذلك المستودع، الذي يحتوي على الكثير من أسرار الحياة اليومية لقدماء المصريين في جبانة طيبة القديمة، يتنوّع ما بين مقابر للملوك تقع فيما يعرف بـ"وادي الملوك"، ومقابر وادي الملكات الذي جاء ذكره في النصوص المصرية القديمة باسم "مثوى الجمال"، وكذلك مقابر وجهاء القوم الموزعة على مناطق عدة في الجبانة، حيث مثّلت نقوش ورسوم تلك المقابر بجانب المعابد المتاخمة لبعضها سجلاً ضخما وثّق لنا جوانب مهمة من الحياة اليومية لقدماء المصريين.
وفي كتاب "مقابر طيبة في العصر المتأخر" لمؤلفه ديتلهم آيجنر، والذي ترجمه لنا حسن نصر الدين والصادر عن المركز القومي للترجمة في عام 2015، نتعرف على أن جبانة طيبة اشتملت على عدة جبانات صغيرة، اعتبرت جميعها مستودعا لأسرار الحياة اليومية في مصر القديمة.
وبحسب الكتاب، فإن سلسلة تلك الجبانات الصغيرة -التي كوّنت في مُجملها جبانة طيبة القديمة- تبدأ من جبانة ذراع أبو النجا الواقعة في الشمال، والتي تمتد ما بين الطريق الصاعد إلى منطقة وادي الملوك، والطريق المؤدي إلى معبد الدير البحري (معبد الملكة حتشبسوت)، ثم جبانة العساسيف وتمتد قُرب معبد الدير البحري، ثم جبانة علوة الخوخة التي تقع إلى الجنوب الشرقي من العساسيف قرب الحوزة السفلى لجبانة الشيخ عبد القرنة، ثم جبانة الشيخ عبد القرنة أو علوة الشيخ عبد القرنة التي تنقسم إلى الحوزة العليا والحوزة السفلى، ثم جبانة دير المدينة وتقع خلف جبانة تل قرنة مرعى، وهي في أقصى الجنوب من جبانات الأشراف، وتعرف جبانة دير المدينة باسم "مكان الصدق" أو "المكان الحق".
العمارة والفن
وتحدثنا دراسة أكاديمية نوقشت بجامعة المنصورة وأعدها الباحث المصري مصطفى محمود عبد الحميد الصاوي وحملت عنوان "العمارة والفن في مقابر الأفراد بمقابر طيبة.. دراسة مقارنة بين الأسرة الثامنة عشرة وعصر الرعامسة"، عن مقابر الأفراد في جبانة طيبة التي اعتبرتها الدراسة سجلا تاريخيا حافلاً يروي تفاصيل كل مظاهر الرقي والتقدم التي وصل إليها قدماء المصريين.
واحتوت الدراسة على الكثير من التفاصيل التي تؤكد أن جبانة طيبة القديمة هي مستودع لأسرار الحياة اليومية في مصر القديمة، وحصرت الدراسة 6 جبانات تتشكل منها الجبانة وهي: الشيخ عبد القرنة، وذراع أبو النجا، ودير المدينة، والعساسيف، وقرنة مرعى، والخوخة.
وبيّنت الدراسة أن جبانة طيبة القديمة احتوت على 457 مقبرة معلومة التأريخ والموقع، و49 مقبرة غير محددة الموقع ويشار إليها بأحرف، منها ما يؤرخ لعهد ملوك الأسرة الثامنة عشرة خاصة، وأخرى تؤرخ لعهد الأسرة الثامنة عشرة عامة، بجانب مقابر تشترك في تأريخها مع الأسرة الثامنة عشرة، ومقابر تؤرخ لعهد الأسرة التاسعة عشرة وعصر الرعامسة، وأنه كان يوضع مع كل ملك أو نبيل يُدفن بتلك المقابر ما يحتاجه في حياته اليومية، ويشمل الأسلحة والعربات والأواني والثياب الموشاة والصناديق وغيرها من قطع الأثاث.
ووفقا للمصادر التاريخية، فإنه منذ أن بدأ ملوك الأسرة الحادية عشرة يدفنون فراعينهم في غربي طيبة كانت تُكلف طائفة من الناس بحراسة هذه المدافن والسهر على العناية بها وما تحتاج إليه من خدمات، وفي عهد الأسرة السابعة عشرة توسعت الجبانة وأخذت تشغل مساحة عظيمة.
وتستقطب مقابر جبانة طيبة في كل يوم الآلاف من السياح الذين يفدون من أنحاء متفرقة من العالم للتعرف على أسرار وتفاصيل الحياة اليومية لقدماء المصريين، والتي سجلتها تلك الجداريات والنقوش والرسوم التي تُزين جدران وأسقف المعابد والمقابر التي أقامها المصري القديم في تلك المنطقة، والتي تحتفظ بألوانها الزاهية حتى اليوم.