الدنيا دين وسلف... لا بد وأنك قد سمعت بهذا المثل في يوم من الأيام، كما سمعه الكثيرون قبلك، لا سيما آبائنا وأمهاتنا ومن سبقوهم في سالف الأزمان، وقد تكون قد سمعته ولكنك لم تدرك مفهومه بعد، أو لعلك قد وعيت ما يعنيه هذا المثل بكل حرف أتى فيه فهو قد يكون لامسك أو تجسد لك في كثير من المواقف التي مرت في حياتك،
إن كنت واحدا ممن أدركوا مفهوم هذا المثل وعرفوه حق المعرفة فلا بد أنك ممن يؤمن أيضا بالمثل ”كما تدين تدان“ والذي يماثل في مفهومه ”الدنيا دين وسلف“ فهم وجهتين لمفهوم واحد.
يقول أحد أصحاب القصص التي تجسدت له معاني هذين المثلين: كنت رجلا محبا لأسرتي وعشت معيشة هادئة وذات رفاهية، إلى أن تزوجت، وجاءت لي فرصة عمل في أمريكا، حينها كنت على مفترق طرق، هل أذهب بزوجتي أترك والدتي، حيث لم يعد لها سواي بعد أن توفي والدي ورحلت أختي مع زوجها إلى مدينة مجاورة، أم أنني لا أوافق على فرصة العمل وبذلك أكون قد خسرت فرصة ربما لن تتكرر ولن تعوض؟ يقول: بقيت في حيرة من أمر إلى أن أشار علي صديقا قديما بأن أترك والدتي التي بلغت من العمر 70 سنة في دار للمسنين، وحينها رفضت تماما هذا الاقتراح، ثم أشار علي أن أجلب لها خادمة وأبقيها في المنزل، وأطمئن عليها بين فترة وأخرى إلى أن أعود مجددا. ثم يكمل ويقول: وافقت على هذه الفكرة وبالفعل جلبت لوالدتي خادمة تخدمها وذهبت أنا وزوجتي إلى أمريكا وهناك انطلقنا في الحياة الجديدة وانغمسنا في أشغالنا تاركا والدتي في بيتنا القديم وحينا الصغير فترة طويلة لم أسأل عنها وقد كنت أسأل نفسي متى ستسأل عن والدتك، وتقول لي بعد العمل، وما أن أذهب إلى المنزل حتى أنسى وهكذا مرت الأيام والأشهر الطويلة، وحين سنحت لي الفرصة لأن أتصل عليها وأطمئن عليها كان صوتها باهتا حزينا مشتاقا، طمأنتها عني وعدت في انغماسي في العمل ولكن هذه المرة كان انغماسا طويلا أخذ مني ستة أشهر متوالية، وحين اتصلت عليها لم ترد على مكالمتي؛ لأنها كانت في المستشفى تنازع الروح؛ بسبب أنها تعرضت إلى جلطة مفاجأة، وكل هذا حدث وأنا بعيد عنها، يقول: وقفت مع نفسي خمس دقائق فقط أتفكر في تلك الأيام الأشهر لما لم أتصل وأسأل عنها وأنا من كان قد وعدها بالسؤال عليها بشكل دوري؟ وجاء في بالي هذا المثل سريعا "الدنيا دين وسلف… وكما تدين تدان.
ماتت أمي وحسرتي بلغت مني مبلغا، أفقدني الكثير من شغفي وحبي للعمل، بل ألبسني لباس الندم، ويوما مرتقبا أجني فيه ثمار ما حصدت وزرع زرعته ودين لم أوفه.
البر، الصدقة، الحب، الكره، الحسد، العهد، المرض، الشرف وغيرها بذور حصادها دين لك أو عليك، وفي الحديث ”البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا ينام فكن كما شئت كما تدين تدان“ ويقول الله تعالى ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ وقوله عز وجل ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ .
إنها أيام الدنيا، التي تنقص من أعمارنا وأرواحنا ما قد يمضي منها، ولا يعود أبدا، وأفعالنا وسلوكياتنا تسجل علينا في سجلات لا تخطئ ولا تنسى، والندم ليس بذلك السحر الذي يمحو الألم أو البلسم الذي يخففه، فالكثير من قصص البر والوفاء والإحسان تحكى، ومنا تؤخذ العظة والعبرة، فكم منها معتبر؟ وكم منها متعظ؟
وكم هي العقول التي لم تستوعب إلى الآن أنك إن عققت والديك عقتك أبناءك، وإن هتكت ستر فتاة هتك ستر محارمك، وإن سرقت شيئا ما سرق منك ما هو أكبر قدرا مما سرقته، وما اعتقدت بأنه من ملك لك غصبا أخذ منك بكل سهولة ولو بعد حين.
هي هكذا علمتنا الدنيا، بل علمتنا رحمة الله تعالى، أنه إن شكرتم لأزيدنكم وجزاء سيئة سيئة مثلها، ومن عمل صالحا فلنفسه؟ ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.