البعد المعنوي في حياة الإمام الحسين(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
لشخصية الإمام الحسين الألمعية والباهرة، بعدان: بُعد الجهاد والشهادة والإعصار الذي أحدثه على مدى التاريخ، وسيبقى هذا الإعصار
ـ على ما يتسم به من بركات
ـ مدوياً على مدى الدهر، وأنتم مطلعون على هذا البُعد الأول.
أمّا البُعد الآخر فهو بُعد معنوي وعرفاني، ويتجلى هذا البُعد في دعاء عرفة بشكل واضح وعجيب.
وقلّما يوجد لدينا دعاء يحمل هذه اللوعة والحرقة والانسياق المنتظم في التوسل إلى الله والابتهال إليه بالفناء فيه، انه حقّاً دعاء عظيم.
ثمة دعاء آخر ليوم عرفة ورد في الصحيفة السجادية عن نجل هذا الإمام العظيم، كنت في وقت أقارن بين هذين الدعائين.
فكنت أقرأ أولاً دعاء الإمام الحسين، وأقرأ من بعده الدعاء الوارد في الصحيفة السجادية، وقد تبادر إلى ذهني مرات عديدة أن دعاء الإمام السجاد (ع) يبدو وكأنه شرح لدعاء يوم عرفة.
فالأول
ـ أي دعاء الحسين (ع) في يوم عرفة ـ هو المتن والثاني شرح له، وذاك أصل وهذا فرع، دعاء عرفة دعاء مذهل حقاً.
وفي خطابه (ع) الذي ألقاه على مسامع أكابر شخصيات عصره وأكابر المسلمين التابعين في منى تجدون نفس تلك النغمة والنفس الحسيني المشهود في دعاء عرفة.
ويبدو أن خطابه ذلك كان في تلك السنة الأخيرة، أو ربّما في سنة أخرى غيرها، لا استحضر ذلك حالياً في ذهني لكنه مسطور في كتب التاريخ والحديث.
إن نظرنا إلى واقعة عاشوراء وأحداث كربلاء، فمع إنها ساحة قتال وسيف وقتل، لكنكم ترون الحسين (ع) يتكلم ويتعامل بلسان الحبّ والرضا والعرفان مع الله تعالى، آخرُ المعركة حيث وضع خدّه المبارك على تراب كربلاء اللاهبة، تراه يقول: «إلهي رضاً بقضائك وتسليماً لأمرك»،
وكذا حين خروجه من مكّة يقول: «من كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا».
كل قضية كربلاء ترون فيها وجه العرفان والتضرع والابتهال.
اقترن خروجه ذاك بالتوسل والمناجاة وأمنية لقاء الله، وبدأ بذلك الأندفاع المعنوي المشهور في دعاء عرفة، إلى أن انتهى به المطاف في اللحظة الأخيرة، إلى حفرة المنحر
حيث قال: «ورضاً بقضائك».
معنى هذا أن واقعة عاشوراء تعد بحد ذاتها واقعة عرفانية.
ومع أنّها امتزجت بالقتال والقتل والشهادة والملحمة
ـ ومحلمة عاشوراء صفحة رائعة بشكل يفوق التصور
ـ ولكن إن نظرتم إلى عمق نسيج هذه الواقعة الملحمية لرأيتم معالم العرفان، والمعنوية، والتضرع، وجوهرية دعاء عرفة.
إذن فهذا هو البعد الآخر في شخصية الإمام الحسين (ع)، وهو ما ينبغي أن يكون موضع اهتمام إلى جانب البعد الأول المتمثل بالجهاد والشهادة.
القضية التي أروم الإشارة إليها هي أنه يمكن القول قطعاً أن هذا الاندفاع المعنوي، والعرفان، والابتهال إلى الله والفناء فيه، وعدم رؤية الذات أمام إرادته المقدّسة، هو الذي أضفى على واقعة كربلاء هذا الجلال والعظمة والخلود، أو بعبارة أخرى أن البُعد الأول؛ أي بُعد الجهاد والشهادة، جاء كحصيلة ونتاج للبعد الثاني.
أي نفس تلك الروح العرفانية والمعنوية التي يفتقد إليها الكثير من المؤمنين ممن يجاهدون وينالون الشهادة بكل ما لها من كرامة، نفس تلك الروح العرفانية والمعنوية تجدها في شهادة أخرى نابعة من روح الإيمان، ومنبثقة من قبل يتحرق شوقاً، وصادرة عن روح متلهفة للقاء الله، ومستغرقة في ذات الله.
هذا اللون الآخر من المجاهدة له طعم ونكهة أخرى، ويضفي أثراً آخر على التكوين.
على الرغم مما نُقل إلينا من أدعية مأثورة عن جميع الأئمة (عليهم السلام)
ـ على ما أتصوّر
ـ إلا ان المثير في الأمور هو ان أكثرها وأشهرها هو المنقول عن ثلاثة أئمة كانوا قد قضوا أعمارهم في صراعات كبرى ومريرة.
أولهم أميرالمؤمنين (ع) الذي نقل عنه دعاء كميل،
وأدعية أخرى فيها معان ومفاهيم كبيرة.
ومن بعده الأدعية المروية عن الإمام الحسين (ع)؛
كدعاء عرفة الذي يزخر حقّاً بمُثُل تثير الدهشة.
ثم من بعدها الإمام السجاد (ع)،
ابن واقعة عاشوراء وحامل رسالتها،
والمجاهد في قصر الجور؛
قصر يزيد.
هؤلاء هم الأئمة الثلاثة الذين كان لهم الدور الأبرز في ميادين الصراع، والأدعية المأثورة عنهم هي الأعمق، والعبر المستقاة من ادعيتهم هي الأكثر.
تأمّلوا هذه السجايا الأخلاقية الواردة في الصحيفة السجادية.