القراء الكرام: هل يزعجكم كثيرًا ذكر الموت؟ ألا ترون أننا ننكسِر وحتى نبكي وتجري دموعنا في بعض حالات الموت ثم لا نلبث ويغيب شعور الخوف والرهبة من الموت من أذهاننا؟
يُطاردنا الخوف من الموت فيجبرنَا أن نبحث عن الأكل الجيّد -وإن كان غير شهيّ- حتى لا نصاب بالمرض ونداوم على الحركة والتمارين الرياضية وزيارة الطبيب بانتظام! يا له من وحشٍ جميلٍ مرعب! ليته أيضًا يجبرنا على فعل الخير والتراحم وترك الظلم!
يبدو أن الخوف من الموت مرتبط بالخوف من المجهول، فأما الذين الموت ليس لديهم مجهولًا فهم يعتبرونه راحة ولا يشكل لهم مصدر قلق، إنما باب نحو الراحة الأبدية والخلود في نعم الله. عنه صلى الله عليه وآله: "إن موت الفجأة تخفيف عن المؤمن، وأخذة أسف عن الكافر".
أتذكر يوم كنا صغارًا في سنوات الستينات والسبعينات في جزيرة تاروت يرعبنا سماع خبر أن جارًا لنا أو أحد سكان الجزيرة أصابه الموت. لا أدري كم كان سكان الجزيرة آنذاك إلا أنهم أقل بكثير من الآن. بيوتات متناثرة بين النخيل ما يعني أن عدد من يموت أقل من الآن، فإذا ما سمعنا أن أحدًا مات تَنتابنا نوبة من القلق وأحاديث الأطفال عن رهبة الموت.
كنا نسمع في المذياع ونقرأ في الصحف وكتب التاريخ وعاصرنا حروبًا متفرقة في العالم وتمر في التلفاز بعض صور الموت. على عكس ما هو الحال عليه الآن! أخبار الموتى تنتشر بسرعة وصور قتلى الحروب والحوادث تملأ مواقع التواصل الاجتماعي حتى إذا سمعنا عن شخص نَعرفه ماتَ لا نقلق! فقط نسأل كيف مات؟ وكم عمره؟ نرى مقاطع الحروب ونحن نأكل ونشرب دون أثرٍ كبير؟
في حوار ماتع قال رجلٌ لأبي ذر رحمه الله: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب، قيل له: فكيف ترى قدومنا على الله؟ قال: أما المحسن فكالغَائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، قيل: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على كتاب الله تبارك وتعالى: "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" قال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: إن رحمة الله قريب من المحسنين.
لتذكّر الموت -والتأثر به- وعدم التنكر له فوائد نفسية جمة وإلا لما كانت الأحاديث الدينية من النبي محمد صلى الله عليه وآله توصي بعدم نسيان الموت، كذلك ورد ذكر الموت في كثير من آيات القرآن الكريم! الموت في القرآن الكريم ظاهرة طبيعية جدًّا مثلها مثل الحياة حيث ورد ذكر الموت أكثر من خمسين مرة فمثلًا {ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ}، ما يعني أن الموت كان حقيقة قبل الحياة وله تأثير كبير علينا كما يترتّب على وجوده تقويم السلوك والإيتاء بأعمال الطاعة.
غاية المرام: لن يُنقص العمر تذكر الموت والرهبة منه ولن يمنع الإنسان من الحياة الطيبة. إنما يصنع منه إنسانًا يعرف حدود الحياة ويؤمن أن العمرَ ينتهي وما بعد العمر هو الأهم:
وَلَو أَنّا إِذا مُتنا تُرِكنا
لَكانَ المَوتُ راحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنّا إِذا مُتنا بُعثِنا
وَنُسأَلُ بَعدَ ذا عَن كُلِ شَيءِّ