حياة الناس مليئة بالظلامات والشكاوى، بعضها ليس لشيء سوى أنهم أعطوا فرصة لمن يستصغر مقامهم وقدرهم أن يَستصغرهم. فلان ظلمني، فلان ابتزني، فلان أخذ حقي، فلان فعل بي الأفاعيل وغير ذلك من الشكاوى التي إذا ما تأملنا فيها رأينا أننا أعطينا فرصة لفلان ليصعد فوق ظهورنا وأكتَافنا. لا يعني ذلك أن فلانًا بريء من الظلم الذي توعد الله به الظالم بالعقاب الشديد يوم القيامة وقد يقدم الله عينة من العقاب في الدنيا قبل الآخرة.
الطِيبة لا تعني تمكين الناس من أنفسنا، إنما تعني أن نحبّ الخير ونفعله، أن تكون في قلوبنا شفقة وخلو من الحقد. الطيبة لا تعني أننا نُصفع على خد فنُعطي من يصفعنا الخدَّ الآخر. نتزاحم في الدنيا ونتفاعل وهي -الحياة- لا تستقيم إلا بالحقوق والواجبات والحدود ولكلّ مقام مقال! أما غير ذلك، مثل قول الشاعر العربي عمرو ابن كلثوم، فهو تعدٍّ للحدود:
أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا
فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} آية كريمة تنظم العفوَ والعقاب وتضع كليهما في موضعه. غاية الأمر ألا نعتدي على غيرنا في أي وقت ونرد الظلم عن أنفسنا ونسامح أحيانًا من غير ضعف لكي لا نكون مكسر عصا لمن يرغب فيتمَادى في غيّه وظلمه!
العاقل من يدير حياته وعلاقاته باحترام؛ لا يَظلم ولا يُظلم. لا يَظلم حين يستطيع الظلم ولا يُظلم حين يستطيع ردّ الظلم عن نفسه:
لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى
حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ
يُؤذي القَليلُ مِنَ اللِئامِ بِطَبعِهِ
مَن لا يَقِلُّ كَما يَقِلُّ وَيَلؤُمُ
الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد
ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ
ما أكثر الشكاوى والظلامات الصغيرة التي لا يقف الإنسان عندها والصفح أجمل. أما الكبير منها فلا بدّ من لفت نظر وردّ اعتبار حتى لا تكون الحياة غابة يأكل القوي فيها الضعيف! ذلك القوي الذي يملأ حياة الناس بالمتاعب والآلام يخاطبه الإمام عليّ عليه السلام ويقدم له نصيحةً رائعة:
لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِرًا
فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ
تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ
يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ
يجد القراء الكرام في حكايات التاريخ نهاياتٍ مأساوية لمن ظنّ أنه آمن من عقاب الظلم. يظلم ويَظلم ثم يستيقظ على دعوة مظلوم في سكون الله تجعله يتحسر ويتأسف، ليتني لم أظلم ولكن "لات حين مندم"! ما أكثر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنهى عن الظلم وقد وصفه النبي صلى الله عليه وآله أنه ظلمات يوم القيامة: "اتقوا الظلم، فإنه ظلمات يوم القيامة"