إذا نودي للقتل من يوم الجمعة
د. سامي كلاويقبل خمسين عاما، وفي صبيحة يوم جمعة، قامت عصابات "البعث" باغتيال ثورة تموز وقتل زعيمها عبد الكريم قاسم وهو صائم. والزعيم قاسم هو ثاني حاكم في بلاد ما بين النهرين يُقتل وهو صائم. والاول هو علي بن ابي طالب الذي اغتاله الخارجي عبد الرحمن بن ملجم في صبيحة السابع عشر من رمضان من عام اربعين للهجرة. وبين الاثنين من متشابهات الاقدار ما يغري بالمقارنة رغم تباعد الازمنة.
لم يعرف التاريخ البشري حاكما بنزاهة علي وورعه وزهده. فقد كتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه انه دعي الى وليمة قوم من اهلها فمضى اليها: "أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تُستطاب لك الألوان، وتُنقل إليك الجفان، وما ظننتُ أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يُقتدى به ويستضاء بنور علمه. ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائهما وفراً ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً".
وعن الزعيم قاسم كتب طالب شبيب، وهو أحد قادة انقلاب شباط الاسود في كتابه "عراق 8 شباط: من حوار المفاهيم إلى حوار الدم":
"وأخيراً فقد كان من الصعب علينا وصف قاسم بأوصاف تدينه غير الفردية. كان عفيف اليد، وكانت عيناه شبعانتين فلم يطمع وهو حاكم العراق الوحيد ببستان أو قطعة أرض، في حين سعى كل حكام العراق الذين سبقوه والذين خلفوه للكسب والاستيلاء وسرقة المال العام، خصوصاً كتلة صدام وخير الله طلفاح والحيتان من أنجالهم وأصدقاء أنجالهم".
سعى علي الى رفع الظلم الذي لحق بالناس من جراء السياسات التي اتبعها عثمان وولاته فتشكل ضده حلف عريض ضم قوى تختلف في كل شيء إلّا في معاداتها له. فقد انضوى تحت راية أم المؤمنين يوم الجمل صحابة كالزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وطلقاء كمروان بن الحكم. وانضوى تحت راية معاوية يوم صِفّين مجرمون هاربون من القصاص كعبيد الله بن عمر بن الخطّاب، الذي قتل بابيه اثنين لا ذنب لهما، وطامعون في مال ومناصب كعمرو بن العاص، ومغفلون كأغلب جند الشام. وانضوى تحت راية الخوارج في النهروان بضعة الاف انشقت عن جيش علي لقبوله بالتحكيم في صِفّين. واستطاعت تلك الفرقة، رغم الهزيمة العسكرية المنكرة التي لحقت بها، ان تجند من يغتال الخليفة، واي خليفة! علي بن ابي طالب.
وسعى الزعيم قاسم الى رفع الظلم الذي لحق بالعراقيين من جراء السياسات الاستعمارية للإنكليز وسياسات الحكومات العراقية الموالية لهم، فجوبه بحلف عريض ضم قوى تختلف في كل شيء إلّا في معاداتها له. وفي ذلك اليوم الاسود الذي مر قبل خمسين عاما، انضوى تحت لواء الغدر بالثورة وزعيمها قومجيون وبعثيون واسلاميون واقطاعيون وانفصاليون ووصوليون وغيرهم من الذين لم تلتق مصالحهم بمصالح الفقراء والمحرومين من ابناء العراق. وهب الفقراء للدفاع عن ثورتهم وزعيمهم إلّا ان الزعيم ابى إن يُهدر الدم العراقي بسببه ومن اجله، فواجه مصيره بشجاعة ورباطة جأش جعلتا منه زعيما للقلوب.
شاء الله ان يرحل علي على يد اشقى الاولين والآخرين، ويرحل قاسم على ايد اقذر الاولين والاخرين. وشاء أن يُقتل الاثنان في رمضان ولمّا يكمل اي منهما عامه الخامس في الحكم. وشاء الله كذلك ان يقضي كل منهما سني حكمه في التصدي لمؤامرات الطامعين في السلطة والمال. وكما قُتل علي على يد شقي كان قد أحسن اليه، قُتل الزعيم على ايد سفلة كان قد عفى عنهم حين وقعوا في قبضته.
قال ابن الاثير في ’الكامل في التاريخ’: "أًدخل ابن ملجم على أمير المؤمنين عليه السلام وهو مكتوف فقال:
أي عدو الله ألم أحسن إليك؟
قال: بلى.
قال عليه السلام: فما حَملَك على هذا؟
قال ابن ملجم: شحذته أربعين صباحاَ (يقصد بذلك سيفه)، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه.
قال علي عليه السلام: لا أراك إلا مقتولا به، ولا أراك إلا من شر خلق الله، ثم قال عليه السلام: النفس بالنفس إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وان بقيت رأيت فيه رأيي. يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين تقولون قُتل أمير المؤمنين. ألا لا يُقتلن إلا قاتلي. أنظر يا حسن إذا أنا متّ من ضربتي هذه، فاضربه ضربة بضربة ولا تمثـلن بالرجل فاني سـمعت رسول الله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور".
فأي عظيم هو علي وأي وغد هو ابن ملجم!!!
وعن مقتل الزعيم قاسم ذكر جميع من كتب عن ذلك اليوم الاسود ان الزعيم اتصل بعبد السلام عارف هاتفيا بعد ان قرر الاستسلام حقنا للدماء ودار بينهما هذا الحوار:
قاسم : عبد السلام انتصرتم، وانتهى دوري وأنا أريد ان أرحل خارج العراق حقناً للدماء. أعطوني كلمة شرف.
عبد السلام : والله يا كريم ليس بيدي بل بيد الإخوان، مجلس قيادة الثورة، وهو الذي يقرر. لم يبق زعيم اوحد.
قاسم: تذكر اني حفظت لك حياتك، وانا قدمتك وغفرت لك كل ما قمت به تجاهي وتجاه البلد.
عبد السلام: هذه خارج الموضوع، استسلم وسنحاكمك.
قاسم: ما هي شروطكم؟
عبدالسلام: تخرج من قاعة الشعب وترفع يديك وتسلم سلاحك وتنزع عنك رتبتك وشارات القيادة.
وفي الساعة الثانية عشر والنصف من بعد ظهر يوم 9 شباط سلم عبد الكريم قاسم نفسه وكذلك فعل الضباط الذين اختاروا البقاء معه. فأصعد عبد الكريم وطه الشيخ احمد الى دبابة لوحدهما، وأصعد قاسم الجنابي وفاضل المهداوي وكنعان خليل حداد الى مدرعة واتجه الجميع الى دار الإذاعة. وعند الساعة الواحدة والدقيقة الثلاثين من بعد ظهر السبت 9 شباط اقتيد هو والمهداوي وطه وكنعان الى استوديو التلفزيون، وبلغوا بقرار المجلس الوطني لقيادة الثورة بإعدامهم رمياً بالرصاص واعتبرت المناقشة بينهم بمثابة محاكمة".
فأي عظيم هو الزعيم وأي وغد هو عبد السلام عارف!!!
واذ اعتاد العراقيون على ان يسخر منهم تاريخهم بين الحين والاخر فيعيد نفسه على شكل مآس ومهازل فلا غرابة ابدا ان نشهد يوما آخر اسود كسواد اليوم الذي اغتيل فيه علي او ذاك الذي قُتل فيه الزعيم.
بعد اغتيال علي ذاق العراقيون الذل على ايد زياد والحجاج وغيرهم الكثير من ولاة بني امية وخلفاء بني العباس وسلاطين آل بويه وآل سلجوق وآل عثمان.
وبعد مقتل قاسم ذاق العراقيون الذل على ايد اوغاد "البعث".
ويقف العراقيون اليوم على شفا حفرة من الذل. فرايات "البعث" اليوم كرايات أُمية بالأمس، تسير من الغرب نحو الشرق قاصدة الكوفة، وصوت معاوية يجلجل: "يا أهل العراق؛ قد لمّظكم ابن ابي طالب على مقارعة السلطان، وسرعان ما تفطمون". واذا كرر العراقيون ما صنعه اجدادهم مع علي في صفّين ومع الزعيم في بغداد، فليبشروا بصباح يُتلى فيه البيان رقم واحد قبل ان تتلى آيات من الذكر الحكيم.