سجناء
من حكمة الخالق عز وجل أن جعل الكون متسعًا بما يتجاوز مدركاتنا وتصوراتنا وأفكارنا وقدراتنا وحواسنا، وجعل لنا في الحياة سجون عدة، حتى تضيق بنا الدنيا من حين إلى حين فيصحو داخلنا إنسان قد جبل على الفطرة صارخًا "يارب".
نعم, للحياة سجون, فلا تحسبوها نظرة سوداوية وإنما هي شيء كثير من الواقع، فنحن سجناء أجسادنا، وكم تعذبت أرواحنا وضاقت بها الأجساد، وكم تمنينا الأحلام حيث تنطلق أرواحنا من أسرها فتلتقي ساعة بمن تحب وتشتاق، وتشفى من آلامها، وتحقق بعضًا من آمالها، ونحن سجناء عقولنا وأفكارنا، وللرافعي شيء من هذا القبيل، فعنده من أشد السجون سجن الفكرة التي لا تقدر أن تتخلص منها ولا تقدر أن تحققها، فأنت موثق بها، وعندي أيضًا أن الأفكار من أقسى السجون وأشدها إيلامًا، وأنت فيها سجين وسجن وسجان.
ومنا من هو سجين آماله ورغباته وقد تكون مشروعة لكن أبوابها موصدة ومفاتيحها لدى البارئ وحده، وهو لا يملك سوى الصبر أو الجزع واليأس، والصبر فضيلة وكل الفضائل شاقة صعبة الإتيان، ولولا صعوبة منالها لما كانت فضيلة يمتاز بها القلة عن الكثرة.ومن الناس من هو سجين لحواسه كالقعيد على كرسيه والأعمى وراء ستاره الأسود والأصم والأبكم، ومنهم من هو سجين ضعفه ونقص فطري به، والعالم على اتساعه لا تشعر به إلا لو انتقلت من بقعة إلى بقعة، فتدرك كم من الفرق والاختلاف يكمن بين زواياه وأرجائه، وإن ضعفت حاستك أو ضمرت شعرت بسجين الحواس.
وسجين المال وسجين الحزن وكلهم سجناء ليس لهم غير الصبر، وكلمة تتردد في أعماقهم "يارب"