فرحتُ بالعودة إلى أربيل. لي فيها أصدقاء لم تغيِّر المواقع والأدوار من انشغالهم بحمل هموم الناس وأسئلة المستقبل. أفرحني أن أرى في هذا الجزء المنكوب من الشرق الأوسط مدينة تتسابق عماراتها نحو الفضاء، وشرطياً ينظّم السير، ومحكمة تفصل في النزاعات، وحكومة تجتمع وتقرر، وبرلماناً يحاسبها.
ابتهجتُ أنا الصحافي العربي بمدينة لا تخلّ فيها الكهرباء بواجبها ليلاً ونهاراً. هذا غير متاح في بيروت. هذا غير متيسّر في القاهرة. غير وارد في صنعاء. ودعك عزيزي القارئ من دمشق التي تتقلّب على جمر الظلم وجمر الظلام.
ابتهجتُ. لكنني صحافي عاثر الحظ. بهجتي عابرة وخيبتي مقيمة. أُسافر بحثاً عن الأخبار فتستقبلني الروايات الحزينة والاستنتاجات المؤلمة.
عدتُ إلى أربيل، لمناسبة مرور عشر سنوات على الغزو الأميركي، لأسأل عن مستقبل العراق وليس عن مستقبل إقليم كردستان، مع إدراكي صعوبة الفصل بين المسارين. وحين تسأل في أربيل، عليك أن تتذكر دائماً أن الإقليم مطوّق بأثقال التاريخ والجغرافيا معاً، فحدوده تتاخم إيران المتوترة وتركيا المتربّصة وسورية المريضة.
سألتُ رجلاً يعرف القصة وخَبِرَ منعطفاتها. أجاب: «لن أكذب عليك. لا أعرف بالضبط كيف ستستقر الأمور في النهاية. الأكيد أن العراق الذي كنتَ تعرفه قبل الغزو مات. هذه حقيقة يُدركها نوري المالكي وأسامة النجيفي ومسعود بارزاني. لنتكلم بصدق. الشيعة يُبحرون في اتجاه. السنّة يُبحرون في اتجاه آخر. الأكراد يُبحرون في اتجاه ثالث».
صمتَ قليلاً وأضافَ مبتسماً: «يكاد وضع العراق يشبه رجلاً ثرياً عائماً على النفط مات فجأة بفعل اهتزازات الداخل والخارج. لهذا الثري ثلاثة أبناء: شيعي وسنّي وكردي وها هم يتقاتلون أو يتشاحنون على الحصص من الأرض والثروة والسلطة. من اقتتال الورثة سيولدُ عراق آخر لكنه لن يكون بالتأكيد العراق السابق».
وقال: «يخيَّل إليّ ان الدولة الوطنية التي ولدت في عشرينات القرن الماضي والتي فشلت في إرساء مفهوم المواطنة والتعددية والاعتراف المتبادل انتهت. قد لا تتمزق الخرائط لكنها ستعيش في ظل ترتيبات جديدة. أعتقد ايضاً أن سورية التي تعرفها وأعرفها ماتت هي الأخرى. العلويون يُبحرون في اتجاه والسنّة يُبحرون في اتجاه آخر».
وأضاف: «كنا نذهب الى بيروت ونقول علينا ان نتعلم من اللبنانيين فن التعايش في ظل التنوع. ألا يستوقفك أن المشروع الأرثوذكسي للانتخابات (الذي يجيز لكل طائفة أن تختار وحدها ممثليها) ظهر على نار التفكُّك السوري؟ وهل كان «حزب الله» يؤيد دعوة العماد ميشال عون الى هذا المشروع لولا انسجامه مع توجهات إيران الجديدة في الإقليم والتي تقوم على إنقاذ الجزء إذا تعذّر الحصول على الكل؟».
أَتعَبتْني الاستنتاجات المؤلمة. قلتُ أنساها. كان الليل ساحراً في أربيل والعشاء ممتعاً. كان بين الحاضرين رجل أعمال سوري هادئ ومتحفّظ. سألتُه عن بلاده فشكا من المتطرفين في معسكري النزاع. حدّثني عن حلب والنكبة التي حلّت بمصانعها دماراً ونهباً. وعن رماد أسواقها ورماد التاريخ فيها. استرسل الرجل الهادئ وخانه التحفّظ. قال لي بصوت خافت: «ان سورية التي نعرفها ماتت». تذكّرتُ أنني سمعتُ العبارة نفسها قبل ساعات من السياسي العراقي.
طال العشاء وطالت الروايات الحزينة. عدتُ الى منزل صديقي قلِقاً. ساورني شعور بأن العبارة نفسها ستستقبلني إن زرتُ صنعاء. ومن يدري فقد تَكْمنُ لي ايضاً في القاهرة. ضرب الزلزال المنطقة وها نحن نشهد ولادة الشرق الأوسط الرهيب. نعزي أنفسنا بالقول إنها مرحلة انتقالية من الدم والوحل ولا بد منها. أخشى أن أزور بيروت قريباً فيستقبلني سياسي عاقل بالقول: «إن لبنان الذي تعرفه مات».
الموضوع أعلاه للكاتب الأستاذ غسان شربل نقلا عن جريدة الحياه اليوميه