ماذا نزرع؟
كلنا زُرّاع! ليس قمحًا أو شعيرًا ولا ذرةً نزرع إنما نَزرع ومنذ السنوات الأولى في عقول وقلوب أبنائنا وبناتنا. ليس من ريب والدراسات تشير إلى أن التأثير الأكبر للوالدين في سلوك الأطفال وأخلاقهم يحدث في السنوات الأولى من العمر، ما يحثنا على تجويد الزرع في هذه الفترة قبل أن يزرع الشياطينُ في عقولهم وقلوبهم ما يرغبون زراعته.
في هذه السنوات المبكرة هل نزرع فيهم بذور المستقبل والأمل؟ هل نزرع فيهم الفضيلة وحسن الخلق؟ أم الإحباط والكسل؟ هل نزرع فيهم محبة بعضهم البعض؟ فإذا كبروا كانوا متعاونين متعاضدين، إذا ضعف أحدهم شدّ الآخر حزامَ ظهره؟ أم نزرع فيهم الفرقة والشقاق فلا سلام ولا كلام بينهم؟
هل نزرع فيهم -في زمن الصورة- أن الحشمة فضيلة، أن الصورة تفضح وأوضح من الكلمة. أن الصورة بألف كلمة! فإذا كلمة قالت مرةً واحدة لصاحبها: دعني، قالت الصورة ألف مرة لصاحبها: لا تنشرني!
هل نزرع فيهم الأخلاق الطيبة والأمانة والإخلاص؟ هل عودناهم جملة "هذا عيب" لا تفعلوه؟ أم بدلًا من ذلك: دعه وشأنه، لا تضيق خاطره، لا تزعجه، وغير ذلك من الكلمات المخدرة! اهتممنا بأناقة المظهر وصحة الجسد وغاب عنا الشغل على سلامة العقل والسلوك والالتزام الدينيّ والأخلاقي! هل نزرع فيهم السير بالقوانين والأعراف الاجتماعية الطيبة وعدم الخروج عن حدودها؟
فرصة الزرع في سنوات الحداثة والصبا قبل أن تتشكل العجينة وتتصلب. يقول الإمام علي لابنه الحسن عليهما السلام: "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتكَ بالأدب قبل أن يقسو قلبكَ ويشتغل لبك". سباق محموم؛ الكل يريد أن يزرع في عقول الصغار ويؤثر سلبًا في مفاهيم ومعتقدات خطيرة ونحن الآباء والأمهات والجدات والأجداد أولى بالمبادرة إلى زرع المبادئ والقيم والأمل والنشاط وحب العلم والعمل وحب الله والفضيلة والأسرة. فإذا فعلنا ذلك باكرًا في حياتهم أعطيناهم حقنة مانعة للانحراف!
بإمكاننا أن نعتذر ونعزز عجزنا لأسبابٍ ضعيفة واهية والنتيجة أننا نوطئ لخلق جيل خفيف الوزن، جذوره القيمية غير عميقة، وبعد ذلك نحصد ما زرعناه بأيدينا وليس بأيدي غيرنا! كم يتعب من يزرع القمح أو يعتني بالنخيل في بلادنا؟ ألا يستلزم ذلك جهدًا كبيرًا ومشقة؟ إذن، لماذا لا نصبر على زرع القيم والأخلاق والفضائل في عقول وقلوب أبنائنا وبناتنا؟!
غاية المرام: كل زارعٍ يحصد زرعه يومًا ما! إما يسأل الناس: من هذا؟ كيف زرع كلّ هذا الخير والحب والأمل أو يقولون: عاش وماتَ واستراح! قبل أن نتفاخر بزرع الخير في المجتمع نزرعه في أسرتنا وبين أولادنا وبناتنا ونعطيهم حقنًا مقاومة للعداوةِ والفرقة وقطيعة الرحم القريب بينهم:
أناجي أخي في كلّ حقٍّ وباطلٍ
وأرغمه حتى يملَّ ملائلي
فإن رامه بالظلمِ غيري وجدتني
له باذلًا من ذات نفس مقاتلي