الوقت الذي نقضيه مع جدتي له طعم آخر، لا تستطيع الكلمات توصيفه، عندما تحدثنا نصغي لها باهتمام بالغ لا يشغلنا عنها أي شيء، إلى حجرتها رائحة الماضي، وإلى كلماتها دفء الحكايات، ونبضات الحكمة.

أختي التي تكبرني بعامين تشبه جدتي في ملامحها، لا يخلو حديثنا عن جدتي، نستذكر مواقفها وحكاياتها، ونجتمع معها كل أسبوع في ليلة الجمعة بالزيارة الأسبوعية مع العائلة، الزيارة التي أصبحت من العادات في البلدة، وأحيانًا نستغل الفرصة إن جاءت في أيام الأسبوع، لنكون معها.

كم نهفو إلى الجلوس معها، ننتظر الوقت في لهفة، يقودنا إليها الشغف الحميم، ذات مساء كنا في حضرتها، وبابتسامتها المعهودة استقبلتنا، بعضًا من التمر تناولنا، وقليلًا من القهوة العربية ارتشفنا.

عيناها الصغيرتان ترمقنا، كطفلتين لا نزال نحبو، عيناها مفعمتان ببراءة الطفولة، أكانت البراءة تنبعث من عينيها، أم هو الشعور الذي ينتابنا في المسافة، والتي تنساب على وجناتنا احمرارًا يشي بالعنفوان عبر طراوة الربيع في بستانها الغض بالمودة.


اخترقت صمت التأمل، وخاطبتنا: إن الشعور بالكراهية شيء قبيح، فقلبي لم تنتبه الكراهية لأحد، أعيش الحياة بالصفاء الذاتي، والمصالحة مع نفسي، وأسكبها على الآخرين، سواء أكانوا في المحيط الأسري، امتدادًا إلى الأقارب، وصولًا إلى علاقاتي الاجتماعية.

لم تكن الجدة امرأة ليست لها علاقة بالعلم والثقافة، فقد كانت معلمة متقاعدة منذ سنوات، أيضًا هي قارئة نهمة، حتى مع كبر سنها، والمرض الذي تعاني منه، وعلى إثره أجرت عملية جراحية في القلب العام الماضي إلا أنها لم تهمل القراءة يومًا، لهذا لا تخلو جلستها من شذى الثقافة الفواح.

سألتها: وإن كان البعض غيه كرهًا لكِ، وقد لامستِه في تصرفاته، كيف تتعاملين معه؟

أجابتها: حينما تكون القيم في ذات الإنسان، روض نفسه عليها، لتصبح ملكة، يعيشها بكله، فلن يتغير تعامله مع الإساءة بالإساءة، ولكنه سيواجهها بأخلاقه وتربيته، أليس كذلك بنيتي إيمان.


حقًا جدتي، ولكن هذا يحتاج إلى ترويض للنفس، كي يتحلى بها الإنسان.

أضيفي إليه فاعلية التزود بالثقافة الممزوجة بالوعي؛ لأن ذلك يجعل التفكير سليمًا مما يؤثر على تصرفات الإنسان، ويبتعد عن النمطية في التعامل، والتي قد يشوبها ما يسوء، بنيتي الفطنة.

طلبت منها أريج أن تحكي لهما قصصًا حدثت لها، ولاتزال في ذاكرتها.

استمتعا بما أفاضت لهما، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، والذي جعل هذه الليلة تتشح بالمأساة، حيث أغمي على الجدة عندما قامت لإحضار دفتر مذكراتها كي تريهما إياه.

اعتلت الصرخات، فقامت إيمان بالاتصال على خالها أحمد، والذي أخبرها بأنه بعيد، ويستغرق الوقت، ليصل لهما قرابة الساعة، وطلب منها الاتصال إلى المستشفى وإحضار الإسعاف.


فور وصولهم المستشفى، وبعد الفحوصات الأولية، تم إدخال الجدة العناية المركزة، الوقت قاسٍ، عينان جاحظتان، تترقبان بأمل أن يحفظ الله لهما الجدة.

أطرقت إيمان برأسها، وضعت كلتا يديها على وجهها، ذرفت دموعها بصمت، النحيب في أعماقها يضعفها، احتضنتها أريج، امتزجت الدموع على خديهما، حدقتا في الممر، أبصرتا والديهما، وخالهما أحمد يتقدمون نحوهما في وجل، وما هي ألا بضع دقائق حتى انفرج الباب، خرجت الدكتورة، وأخبرتهم برحيل الجدة عن هذا العالم.

الكل مذهول من وقع الخبر، كلٌ يحدق في الآخر، الانكسار يعلو ملامحهم، الصراخ يخترق قسم العناية المركزة، هذا القسم الهادئ، والذي لا تسمع فيه إلا أصوات الأجهزة الطبية.

ما أقسى أن تفقد عزيزًا، كان الأنس والمأوى إليك، من تشكل في ذاتك؛ ليشعرك بوجودك، بقيمة هذه الحياة.


رحلت الجدة، وخلفت وراءها حسرة، لا تطفئ الأيام اشتعالها.

رحلت الجدة التي كانت لهما النبع في كل شيء.

رحلت الجدة، وتركت لهما عطاياها وذكرياتها، وكلماتها النابضة بالحب.

رحلت الجدة، وقد توسدت التراب الآن.