من أهل الدار
تاريخ التسجيل: October-2013
الجنس: ذكر
المشاركات: 82,141 المواضيع: 78,848
مزاجي: الحمد لله
موبايلي: samsung j 7
آخر نشاط: منذ دقيقة واحدة
السنهوري باشا.. الرجل الذي أعدَّ القانون المدني العراقي بالمراسلة
السنهوري باشا.. الرجل الذي أعدَّ القانون المدني العراقي بالمراسلة
لعب الفقيه القانوني المصري عبد الرزاق السنهوري دوراً كبيراً في عمل بنية تشريعية قانونية بالعراق خلال سنوات استقلاله الأولى، فهو الذي قاد أول محاولة لصكِّ قانون مدني عراقي، وهو إن لم يُكملها لظروفٍ خاصة إلا أنه حينما أُتيحت له فرصة ثانية لاستكمال جهوده لم يتردد في إنجاز القانون حتى خرج إلى النور.
الزيارة الأولى
بحسب كتاب "الدكتور عبد الرزاق السنهوري: إسلامية الدولة والمدنية والقانون" للباحث محمد عمارة، فإنه في أعقاب معاهدة 1930 التي منحت العراقيين الحق في تحديث تشريعاتهم القانونية وجّهوا دعوة للسنهوري للمشاركة في هذا الأمر.
وفي 1935 استُقدم لعمادة كلية الحقوق وبذل جهوداً كبيرة في وضع نظامها التعليمي بمعاونة عددٍ من كبار رجال القانون العراقيين وقتها، مثل: ياسين الهاشمي، رشيد الكيلاني، محمد زكي، منير القاضي، وفقاً لما ذُكر في مقدمة كتاب السنهوري "القيود التعاقدية على الحرية الفردية للعمل في القضاء الإنجليزي".
في كلية الحقوق العراقية درّس السنهوري طلابه مادة "أصول القانون"، كما أصدر مجلة "القضاء"، التي امتدح في مقدمتها "النهضة المباركة التي يعيشها العراق، وإذا كان في الماضي مهداً لقانون حمورابي ومنارة لفقه أبي حنيفة فهو اليوم يطمح لأن تكون له مكانة النهضة القانونية التي بدت تباشيرها بالشرق والغرب".
في هذا العام، بدأت أولى محاولات وضع مشروع القانون المدني، لكن السنهوري لم يُكمل المهمة بسبب مرض والدته فاضطر إلى العودة لمصر لمتابعة رحلة علاجها بعدما رشّح بدلاً منه الفقيه القانوني المصري عبد الحميد المتولي ليتولّى عمادة الحقوق من بعده.
عقب عودته إلى مصر اصطحب السنهوري معه العشرة الأوائل من أبناء كلية الحقوق في بغداد وألحقهم بكلية الحقوق بالقاهرة ليستكملوا دراستهم تحت إشرافه.
لاحقاً سيثبت "أبناء السنهوري" العراقيون براعة كبيرة، وقد صار أغلبهم من كبار الأساتذة الذين درّسوا القانون بالعراق لاحقاً.
قانون مدني عراقي شامل
في مذكراته أفسح السنهوري باشا المجال للحديث عن بعض ذكرياته بالعراق، فكتب في 19 يوليو 1943 ملاحظاته بشأن زيارته الثانية له قائلاً: "كلّفتني الحكومة العراقية بوضع مشروعٍ لقانون مدني عراقي، وأنا الآن في طريقي إلى العراق لأعرض على القوم ما أنجزت، هذا هو العمل الذي كنت أطمح إليه منذ عهد الشباب".
خلال هذه الفترة، كان السنهوري يعيش أزمة كبيرة بعدما اضطر لترك منصبه وكيلا لوزارة المعارف المصرية بعد وصول خصومه في حزب الوفد إلى السُلطة في أعقاب حادث فبراير 1942 الذي حاصر فيه الإنجليز قصر عابدين، وأجبروا الملك فاروق على تعيين مصطفى النحاس زعيم الوفد رئيساً للوزراء.
رغم أن السنهوري باشا في هذه السنة كان قد نجح في إنجاز ما اعتبره واحدا من أهم خطواته بالحياة، وهي وضع مشروع أول قانون مدني مصري، لحظة خلّدها شِعراً بقوله: (إذا افتخروا بمالٍ أو بجاهٍ\ فقانوني من الدنيا فخاري)، إلا أن النحاس لم يغفر للسنهوري خلافاته االسياسية معه فأطاح به من منصبه الحكومي.
في أعقاب تركه وظيفته الحكومية، مارس رجل القانون المصري المحاماة لفترة قليلة من الزمن إلا أنه لم يشعر بالراحة، فلم يستكمل العمل بها وعاش فترة عصيبة كتب عنها في شِعره بقوله "أشكو إلى الخمسين ما قاسيته\ في هذه الدنيا من الآلام".
أتى الحل من العراق بعدما تلقّى دعوة في 1943 لإعادة استكمال عمله الذي توقّف عنه منذ عدة سنوات عبر المساهمة في إعداد قانون مدني عراقي، وهي المهمة التي وافق عليها بحماس بسبب أمله في وضع قانون مدني شامل ومتطور ، وهو يقول: "الأمل يملأني أن أقدّم مشروع قانون مدني لا للعراق وحده بل لسائر البلاد العربية على أساس الفقه الإسلامي".
وبحسب عمارة، فإن العراق كان مهيئاً لاستقبال طموحات السنهوري في ابتكار قوانين مدنية مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية أكثر من مصر، لأن بلاد الرافدين لم تتقطع صِلتها بالقوانين الإسلامية بعدما ظلَّت محكومة بقواعد مجلة الأحكام العدلية العثمانية المستمدة من الفقه الحنفي. أما مصر فقد حرمها الإنجليز من هذه الفرصة، فعندما أخضعوها لسيطرتهم أداروا محاكمها وفق قانون مستمد من القانون الفرنسي.
وبحسب ما ذكره السنهوري في مذكراته فإن أول شيء فعله حينما وصل العراق زيارة قبر صديقه محمد زكي رئيس مجلس النواب، ووزير العدل العراقي الراحل. يحكي قائلا: "قليل من الناس أثّر في نفسي فقدهم، والمرحوم محمد زكي من هؤلاء، إنه أقرب إلى نفسي من أهلي".
مع وصوله إلى بغداد انكبَّ السنهوري باشا على دراسة الفقه الحنفي بشكلٍ أكثر تعمقاً ليفهم أكثر بنود المجلة العدلية العثمانية التي كانت تُعتبر القانون الذي يحكم المعاملات المدنية بالعراق. ومنها استوحى فكرته في وضع قانون عربي موحد والتي ظلَّ يُنادي بها طويلاً، إلا أنه لم يتمكن من تحقيقها.
يقول محمد عمارة: "في بغداد لقي السنهوري حفاوة نموذجية لم يجدها في مصر بسبب المضايقات الحزبية. طمع السنهوري أن ينجز عملاً كبيراً يكون أكثر تقدماً من القانون الذي وضعه لمصر".
وفي بغداد دارت الأمور كما تمنّى الخبير القانوني المصري بعدما تشكلت لجنة برئاسته لبحث مواد مشروع القانون ضمّت نوري القاضي (نائباً للرئيس)، حسن سامي تاتار، أنطوان شماس، عبدالجبار التكرلي، كامل السامرائي، حسب ما ورد في الجزء الثالث من كتاب "معجم العراق: سجل تاريخي سياسي اقتصادي اجتماعي".
بدأت اللجنة اجتماعاتها بهدف وضع أول قانون مدني وسطي يتلاقى فيه الفقه الإسلامي مع الحداثة الغربية.
وضع السنهوري فقه أبي حنيفة نُصب عينيه وهو يعدُّ مواد قانونه، معتبراً أنه المذهب الأقرب للبيئة العراقية لأنه نشأ ونمَا في بيئتها. يقول السنهوري: "إن القانون هو نبت البيئة وغرس الأجيال المتعاقبة، من السفه أن نبدّد ثروة الأجداد ونعيش عالةً على غيرنا نتكفف".
خطّط القانوني المصري أن ينجز قانوناً عراقياً أكثر "أسلمة" في مواده من القانون الذي أنجزه في مصر ليكون النموذج الذي تحتذيه الدول العربية والإسلامية في قوانينها العصرية، كما كان يرى.
أزمة دبلوماسية لا تمنع إنهاء القانون
لم يشعر مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر بالرضا عن تعيين خصمه في هذا المنصب القانوني الحساس بالعراق فطلبت الحكومة المصرية من نظيرتها في بغداد طرد السنهوري باشا، فرفض نوري السعيد رئيس الحكومة العراقية وقتها إجابة هذا الطلب، قاستشاط النحاس باشا غضباً وهدّد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر والعراق تماماً.
وبحسب ما ذكر المؤرخ العراقي عبدالرزاق الهلالي في كتابه "قال لي هؤلاء"، فإن هذه الأزمة انعكست على عمل وزارات أخرى مثلما جرى مع مديرية التربية والتعليم العراقية حين رغبت في تشكيل وفد من الطلاب العراقيين للعب مباريات رياضية مع نظرائهم في مصر.
رفضت القاهرة استقبال الوفد العراقي اعتراضاً على تصرفات "نوري باشا رئيس الوزراء الذي كان له ضلع في تهريب الدكتور السنهوري وتسفيره إلى العراق"، حسب ما نُقل إلى المسؤولين العراقيين وقتها.
بناءً على طلب نوري السعيد تدخّل سعد الله الجبري رئيس وزراء سوريا حينها لحلِّ هذه المشكلة فاقترح السماح للسنهوري باشا بالإقامة في دمشق، وبالفعل عاش بها بضعة أشهر، وواصَل اجتماعاته لوضع القانون المدني العراقي، بالإضافة لقانون مدني سوري أيضاً.
لم يرضَ النحاس بهذا الحل وأمر بمنع الأساتذة المصريين من السفر إلى العراق وبعث تهديداً مماثلاً إلى سوريا بضرورة طرده من دمشق، ولم تنتهِ هذه الأزمة إلا بعودة السنهوري إلى مصر ، ومنها أكمل كتابة مواد القانون العراقي سواء بزيارات قام بها بعض أعضاء لجنته إليه أم التراسل معه بشأنها بالبريد.
رغم الانتهاء من الصياغة الأولى للقانون في 1946 إلا أن تكرار حل مجلس النواب العراقي أعاق مناقشتها وإقرارها حتى صدر القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 مكوناً من 1383 مادة شملت جميع المعاملات القانونية المدنية عدا الوقف والأحوال الشخصية، وبعد مرور سنتين على نشره في الجريدة الرسمية أصبح هذا القانون ساري المفعول بالعراق.
الانتقام من النحاس بعد ثورة يوليو
لم يستمر الغضب الحكومي على السنهوري باشا طويلاً، فسرعان ما أُطيح بحكومة عدوّه اللدود مصطفى النحاس.
بعدها استعان مَن خلفوا النحاس في منصب رئاسة الحكومة بالسنهوري لشغل منصب وزارة المعارف عدة مرات خلال سنوات قليلة، ومع صعود حليفه النقراشي باشا إلى السُلطة ازداد الاعتماد عليه فترأّس وفد مصر في الأمم المتحدة لعرض قضيتها بمجلس الأمن حتى عُيّن رئيساً لمجلس الدولة في 1949 إلى أن قامت ثورة يوليو التي دعّمها وقد أعدَّ بنفسه وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش لابنه أحمد فؤاد.
من خلال قُربه من الضباط الأحرار وضع السنهوري للثورة المسوغات القانونية التي اعتمدت عليها لحلِّ مجلس النواب وحظر حزب الوفد ومنع أغلب زعماء البلاد السياسيين من ممارسة العمل العام، وعلى رأسهم النحاس باشا، إلا أن شهر العسل بينه وبين الضباط لم يطل كثيرًا.
عندما وقعت أزمة مارس بين نجيب وعبد الناصر عام 1954 دعّم السنهوري -ومجلس الدولة من خلفه- نجيب ومطالبه بعودة الديمقراطية فدبّر عبد الناصر تظاهرات اقتحمت مجلس الدولة واعتدت على السنهوري وانتهت الأزمة بعزله من منصبه وانتهاء دوره في السياسة المحلية.
وبعيدًا عن مصر، واصَل الفقيه القانوني نشاطه في الدول العربية فأعدَّ حزمة من القوانين المدنية في سوريا وليبيا والبحرين والكويت حتى آثر اعتزال الحياة العامة ومات عام 1971.
بحسب شهادة ضياء شيت خطاب، القاضي العراقي البارز، فلقد أحدثت وفاة السنهوري "هزة عنيفة" بالعراق،. وكتبت عنه الصحف، وتناقل الراديو والتلفزيون الخبر، ونعاه وزير العدل العراقي وأرسل برقية عزاء لنظيره المصري، كما أُقيمت حفلة تأبين له تُليت بحقه كلمات الرثاء الطويلة.
وبعث الوزير خطاب رسالة إلى زوجة السنهوري يخطرها فيها بأنه ينوي تأليف كتابٍ عن حياته ويطلب مساعدتها لتزويده بما تملكه من مواد تعينه على إتمام هذا العمل.