"كأنها تل من الذهب".. كيف رأى الرحالة الغربيون مدينة النجف؟
تقع مدينة النجف في الجزء الجنوبي الغربي من وسط العراق. وتشغل أهمية كبرى في الأوساط الشيعية باعتبارها المكان الذي دُفن فيه جثمان علي بن أبي طالب، الإمام الأول عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
على مر القرون، زار العديد من الرحالة الغربيين هذه البقعة المقدسة، ووصفوا ما فيها في كتاباتهم. من هم هؤلاء الرحالة؟ وما هي أبرز الملاحظات التي سجلوها أثناء مرورهم بتلك المدينة؟
بيدرو تكسيرا
يُعدّ الرحالة البرتغالي، بيدرو تكسيرا، واحدا من أشهر الرحالة في القرن السابع عشر الميلادي، وقد مر تكسيرا بمنطقة الخليج، فزار العديد من المدن الإيرانية، ثم عبر مضيق هرمز وتوجه نحو الأراضي العراقية، فوصل البصرة في شهر أغسطس سنة 1604، والتحق بإحدى القوافل المتوجهة إلى بغداد.
بعد سبعة أيام، وصلت القافلة إلى النجف، وسجل تكسيرا ما شاهده فيها من حقول واسعة للخضراوات، والشعير والحنطة، الأمر الذي يعبّر عن حالة الازدهار الاقتصادي الذي عاشته منطقة النجف في تلك الفترة.
ترك تكسيرا وصفاً دقيقاً لبحيرة النجف، فقال: "تستمد ماءها من الفرات، ولذلك تزداد مقادير الماء في موسم الطغيان، وليس لها شكل معين، لكنها تمتد بطولها حتى يبلغ محيطها خمسة وثلاثين إلى أربعين فرسخاً، وهناك فيما يقرب من منتصفها ممر ضحل تستطيع الحيوانات اجتيازه... والبحيرة شديدة الملوحة، ولذلك يُستخرج منها الملح للاستهلاك في بغداد والمناطق المجاورة".
نزل تكسيرا في أيامه الأولى في النجف ضيفاً على واحد من أهلها يُدعى "الشيخ علاوي"، وبعدها نزل في أحد الخانات الموجودة داخل البلدة. وأتاح له هذا التجول بين مبانيها الدينية العريقة أن يقدم وصفاً للروضة الحيدرية وأن يتحدث عن تطورها وعمرانها وما فيها من التحف والهدايا، كما أشار تكسيرا لأثر الحرب العثمانية الصفوية في تخريب النجف وإبعاد سكانها، فقال إن عدد المنازل المأهولة بالسكان في النجف لا يزيد على الـ600 منزل، في الوقت الذي كانت المدينة تضم فيه ما بين 6000 و7000 منزل حسنة الصنع.
من جهة أخرى، لم ينس تكسيرا أن يشير لطباع وصفات أهل النجف، فقال إنهم بيض الوجوه، وأشار أنهم "يحرمون التعامل مع اليهود والمسيحيين"، كما ذكر أن نشوب الحرب وغياب السلطة عن شوارع المدينة قد تسبب في كثرة الجرائم والمشكلات "فقد كان السكان أحرارا فيما يفعلون، حتى إنهم كانوا يرتكبون الكثير من أعمال العنف والتعدي من دون خوف أو حياء".
جان باتيست تافرنييه
زار الرحالة والتاجر الفرنسي، جان باتيست تافرنييه، النجف في القرن السابع عشر. واهتم تافرنييه بوصف ضريح الإمام علي بن أبي طالب فقال إن "من حوله أربع شمعدانات مضاءة، وقناديل مدلاة من السقف، كما كان هناك قارئان يتلوان القرآن الكريم على الدوام".
وفي سياق حديثه عن المرقد، تحدث تافرنييه عن منع الزوار الإيرانيين من زيارة النجف وغيرها من العتبات المقدسة في العراق من قِبل الشاه عباس الصفوي، وفسر ذلك بأن الزوار كان لا بد لهم من أن يمروا ببغداد قبل الوصول إلى النجف، وهناك كان يترتب على كل منهم أن يدفع رسماً قدره ثمانية قروش، وكان هذا الرسم في نظر الشاه تحدياً وإهانة لرعيته وحكومته، ولذلك عمد إلى تعمير ضريح الإمام علي الرضا في مشهد خراسان ليكتفي الإيرانيون بزيارته وينصرفوا عن زيارة العتبات الأخرى.
من جهة أخرى، تطرق تافرنييه إلى ماء الشرب المستخدم في النجف، فقال إنه ماء غير عذب يستقيه الناس من آبار أربعة موجودة في أنحاء البلدة. أما الطعام، فوصفه الرحالة الفرنسي بأنه كان شحيحاً، وكان أغلبه من التمر والعنب واللوز مما كان يباع بأسعار عالية.
كارستن نيبور
في سنة 1765، وصل الرحالة الألماني الشهير كارستن نيبور إلى النجف الأشرف. تحدث نيبور عما شاهده في مقبرة وادي السلام الشهيرة القريبة من النجف، ووصف وقائع نقل أربعة جثامين للدفن في المقبرة.
وأشار الرحالة الألماني إلى المكانة الكبيرة التي احتلتها مقبرة وادي السلام بين الشيعة العراقيين في القرن الثامن عشر الميلادي، وقال إن "الذين كانوا يريدون الدفن بالقرب من مرقد الإمام علي كان عليهم أن يدفعوا مبالغ كبيرة من المال، وأن الذين يدفعون مبالغ معتدلة كان يُسمح لهم بالدفن في داخل أسوار البلدة، أما الذين كانوا يدفعون مبالغ زهيدة فقد كانوا يدفنون موتاهم خارج السور".
أشار نيبور في وصفه للنجف لصعوبة الحصول على مياه الشرب، لأن البلدة تقع في منطقة مجدبة لا يتيسر فيها الماء بسهولة، وذكر أن الناس اعتادت أن تحصل على الماء الخاص بالشرب والاغتسال من قنوات خاصة تمتد في باطن الأرض، فيما كانوا يأتون بالماء الصالح للشرب محملاً على ظهور الحمير من مسافة ثلاث ساعات.
تطرق الرحالة الألماني أيضاً لبعض التقاليد المذهبية المعروفة في النجف، منها -على سبيل المثال- العلاقة بين أهل السنة والشيعة في النجف وكربلاء واصفا إياها بالحسنة.
وقال إن الشيعة اعتادوا على زيارة النجف في أوقات مخصوصة خلال السنة، ومنها أيام شهر رمضان، والعاشر من محرم، والسابع والعشرون من رجب. وذكر أن السبب في ذلك يعود إلى اعتقاد الشيعة بأن الله يستجيب الدعاء في تلك الأيام بالذات!.
بيلي فريزر
في سنة 1834، زار الرحالة الإنجليزي المستر بيلي فريزر النجف، وصادفت زيارته انتشار الطاعون في النجف، وفي مناطق أخرى من العراق.
قدم فريزر وصفاً دقيقاً لآثار الخراب المنتشرة في الكثير من الأماكن، وتحدث عن الفوضى التي أصابت طرق السفر بين المدن، وكيف أن المسافرين صاروا يتعرضون للسلب والنهب بكثرة وبصورة مؤسفة. يقول إن الكثيرين منهم كانوا يجازفون بالسفر إليها فيعودون إلى بغداد بعد أيام معدودة وقد سلبوا إلى حد العري، ومن دون أن يتسنى لهم الوصول إلى العتبات.
في السياق نفسه، أشار الرحالة الإنجليزي إلى الاضطراب الذي أصاب النجف في أيام الوالي العثماني داود باشا، وذكر أن بعض العصاة تجرأوا على التمرد على الحكم التركي، لدرجة أن الوالي قام باستدعاء الجيش إلى النجف للقضاء على التمرد.
لوفتس
في سنة 1853، زار النجف رحالة إنجليزي يدعى لوفتس، وكان عضواً من أعضاء لجنة الحدود التي تجولت في منطقة الحدود العراقية الإيرانية. اهتم لوفتس كثيراً بالروايات الفلكلورية الشائعة بين أهالي النجف.
في هذا السياق روى عدداً من الروايات التي سمعها من النجفيين الذين التقى بهم في رحلته، ومنها أن موقع الكوفة كان هو الموضع الذي نزل فيه جبريل إلى الأرض للمرة الأولى، وأن النجف هي المكان الذي انبثقت منه مياه الطوفان العظيم في عهد النبي نوح!.
اهتم الرحالة الإنجليزي أيضاً ببعض الأخبار التاريخية المرتبطة بتاريخ النجف. ومن ذلك قوله إن: المدينة أُسست على أنقاض مدينة الحيرة القديمة، والتي حكمت منها مملكة المناذرة ذات الشهرة الواسعة.
وصف لوفتس كذلك موقع النجف الجيولوجي وشكلها العام فقال إنها تقع فوق هضبة من الحجر الرملي الميال إلى اللون الأحمر، وترتفع إلى أربعين قدماً فوق السهول المحيطة بها، وأن أسوارها عامرة ممتازة، يحيط بها خندق عميق خال من الماء.
وتطرق إلى وصف بحر النجف فقال إنه يمتد نحو الجنوب الشرقي إلى مسافة أربعين ميلاً، وينشأ من نهايته السفلى نهران يقال لهما شط الخفيف وشط العطشان.
من جهة أخرى، اهتم لوفتس بوصف مرقد الإمام علي بن أبي طالب، فقال إنه لا يمكن أن يصف الشعور الذي يخالج الناظر إلى جميع ما كان في داخل الجامع من زينة في البناء وتناسق في الألوان، لأن ما يراه كان لا بد من أن يولد انطباعاً خالداً في نفسه.
وصف الرحالة الإنجليزي شكل الصحن والضريح الموجود في وسطه، وأشار إلى زينة القاشاني المحتوية على الرسوم المتناسقة للطيور والأوراق النباتية والكتابات المذهبة، كما وصف القبة الكبرى المكسوة بالذهب والتي تتوهج في نور الشمس حتى "تبدو للرائي من بعيد وكأنها تل من الذهب".