مناحيم دانيال.. العراقي اليهودي الذي أنشأ داراً لأيتام المسلمين
ثري يهودي اشتهر ببذل الأموال في الأعمال الخيرية ومساعدة الفقراء ونال مكانة كبرى في العراق خلال العهدين العثماني والملكي جعلته محطَّ إعجاب المجتمع البغدادي. هو مناحيم دانيال، الذي سكن بغداد وكان صديقاً لأول ملوك العراق.
يقول عبدالحميد الأرط في دراسته "دور الأقليات الدينية في المجتمع العراقي خلال العهد العثماني"، إن أغلب يهود العراق تركزوا في المناطق الشمالية منذ عهد الآشوريين والبابليين، لكن بمرور الوقت بدأت موجات نزوح واسعة لهم تجاه المناطق الجنوبية تحديداً نحو بغداد.
عائلة دانيال
مع حلول القرن العشرين مثّل اليهود قوة ضاربة في بغداد بعدما بلغ عددهم أكثر من ثلث سكانها (53 ألفاً من 150 ألف إجمالي عدد السكان وقتها). اشتهرت منهم عائلات ثرية برعت في التجارة والاقتصاد، وتأتي عائلة دانيال على رأسها.
من قرغيزستان هاجرت أسرة دانيال إلى العراق وأقامت في منطقة السنك جنوب بغداد، وامتهنت التجارة والزراعة وحققت فيهما نجاحاً لافتاً بفضل تعاونها الوثيق مع بعض الولاة العثمانيين.
بحسب الأرط، فإن الوالي العثماني محمد رشيد الكوزلكلي عقد تحالفاً مع أسرة دانيال احتكرت بموجبه الحق في زراعة المحاصيل الأساسية كالأرز والقمح والشعير، حيث "كانوا يخزّنون هذه المحاصيل في مخازنهم ويمنعون غيرهم من زراعتها حتى تحكموا في أسعارها وحققت الأسرة ثراءً فاحشاً".
وكان الولاة الأتراك يوقعون عقوبة على العشائر المتمردة على حُكمهم بمصادرة أراضيهم، عندها كان آل دانيال يتدخلون ويحصلون عليها بأرخص الأثمان. مثل هذه القرارات خلقت بحسب ما ورد في كتاب "الثورة العراقية الكبرى 1920" لعبدالله الفياض، "المُلاك الجدد"، الذين حازوا مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية حتى لو لم يمارسوا الزراعة.
خلال عهد رشيد باشا، بلغ آل دانيال من المكانة حداً جعلهم يجمعون الضرائب لصالح الوالي بدلاً من رجال الحكومة. هذا النجاح وصل ذروته حينما تولّى مناحيم إدارة أعمال العائلة، حيث أضاف مساحات شاسعة من أراضي لواء الناصرية وناحية هور الدخن إلى أملاك أسرته.
مناحيم وظهور للصهيونية
وفقاً لما رواه زيد ناجي في كتابه "أقليات العراق في العهد الملكي"، وُلد مناحيم في بغداد عام 1846، وفيها تلقى تعليماً راقياً ودرس التركية لغة البلاد الرسمية حينذاك.
امتلك مناحيم شخصية ودودة ونجح في أن يقرّب جميع طوائف العراقيين منه، فعندما تطرق إبراهيم الدروبي إلى سيرته في كتابه "البغداديون أخبارهم ومجالسهم" قال عنه "كان مناحيم يتودد إلى الناس وبلطيف كلامه أصبح له كلام عند الحكومة فانتفع منها انتفاعاً منقطع النظير".
كما تمتع بمكانة كبيرة خلال العهد العثماني؛ فعندما أقرَّ السلطان عبد الحميد الثاني دستور 1976 الذي قضى بتشكيل مجلس "المبعوثان- النواب"، عُيّن مناحيم عضواً في المجلس العثماني عام 1877 ممثلاً عن ولاية بغداد.
لم يستمر عمل هذا المجلس أكثر من شهر بعدما تراجع السُلطان عن قراره وألغى عمل "المبعوثان". وعلى وقع الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، انقضى العهد العثماني في العراق، ووقع تحت الاحتلال الريطاني، الذي رعى تأسيس المملكة العراقية عام 1921.
في العهد الملكي لم يكتفِ مناحيم بالحفاظ على مكانته بل زاد عليها بعدما عقد صِلة مباشرة بفيصل الأول ملك العراق آنذاك فكان "كان صديقاً مقرباً له"، على حدِّ وصف الأرط.
بحسب ما أورده مير بصري في كتابه "أعلام السياسة في العراق الحديث"، انتُخب مناحيم عضواً في المجلس التأسيسي للمملكة سنة 1924، بعدها كان أول يهودي يُعيّن عضواً في مجلس الأعيان -ضمن 20 عضواً- لدورتين متتاليتين (1925- 1932)، إذ فضّل عدم استكمال دوره بسبب مرضه، وانتُخب ابنه عزرا بدلاً منه.
عاصَر مناحيم إصدار وعد بلفور 1917 الذي تعهّد بـ"إقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين"، اعتقد الإنجليز أن وقع هذا التصريح سيكون جيداً على يهود العراق.
يحكي مير بصري أن السير أرنولد ولسن، وكيل الحاكم الملكي في العراق وقتها، استدعى عدداً من وجهاء الطائفة اليهودية – بينهم مناحيم- وأخطرهم بالأمر فرآهم واجمين بعدما أكدوا له أن العراق هو وطنهم الذي لا يرون له بديلاً.
اشتهر مناحيم بموقفه المعارض للحركة الصهيونية، وعندما تلقى رسالة من المنظمة الصهيونية العالمية في 1922 تطالبه بدعم الحركة، اعتبر أن تأييدها سيجلب الوبال على يهود العراق ويدفعهم إلى "وضعٍ لا يُحسدون عليه" في إشارة مبكرة للثمن الباهظ الذي دفعته الطائفة على أثر إقامة دولة إسرائيل.
هذا الموقف شاركه به عددٌ من قيادات يهود العراق وقتها مثل يعقوب نوح رئيس اليهود في البصرة، ويعقوب موشي رئيس الطائفة اليهودية في خانقين، والمحامي اليهودي يوسف الكبير الذي اعتبر وعد بلفور "صيغة خطيرة جداً للبهلوانيات السياسية"، وفقاً لما أوردته دكتورة خيرية قاسمية في كتابها "يهود البلاد العربية".
رجل الخير والإحسان
أحسن مناحيم إدارة أملاك أسرته حتى باتت من أغنى عائلات العراق بأسره، وفي 1910 قُدرت قيمة ما تمتلكه الأسرة من أراضٍ بـ400 ألف ليرة تركية، فيما بلغ إجمالي مساحة أراضي العائلة الزراعية نحو 4560 دونماً.
في 1908 نفّذ مناحيم أول محاولة عراقية لإدخال الطرق الحديثة في الزراعة بعدما استقدم مهندساً زراعية نمساوياً واستورد آلات زراعية حديثة لإنشاء مزرعة نموذجية على قطعة من أرضه في قضاء الهندية بلواء الحلة.
وفي 1929 اشترى خان "خغان" القديم الذي تأسس عام 1590، فهدمه وأعاد بناءه من جديد ليحوّله إلى سوقٍ عامرة لا تزال موجودة في بغداد حتى اليوم وتُعرف بِاسم "سوق دانيال"، كما ذكر عباس العزاوي في كتابه "موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين".
استغلَّ مناحيم جانباً من هذه الثروة في أعمال الخير وتحسين حياة اليهود العراقيين؛ يقول عبد الحميد الأرط "بذل الرجل جهوداً كبيرة لمساعدة أبناء طائفته وانتشالهم من الفقر والجهل والمرض".
وشكّل في منزله الواقع قُرب نهر دجلة في بغداد مجلساً اعتاد فيه استضافة أبناء طائفته لمناقشة أحوالهم، كما كان مناحيم من كبار داعمي صندوق المجلس الخاص بالطائفة اليهودية الذي خصّص اعتمادات مالية لمساعدة الفقراء.
أيضاً أسّس المدارس لرفع المستوى التعليمي للنساء والأطفال اليهود. في 1904 أهدى مناحيم مدرسة "الإليانس" اليهودية بناية بغرض توسيعها وزيادة عدد طلابها، وفي 1910 أسّس مدرسة "الأطفال المختلطة" التي التحق بها 248 طالباً فور افتتاحها زاد عددهم إلى 300 خلال 3 سنوات.
خلال العهد الملكي أنشأ مناحيم مدرسة ابتدائية للبنات حملت اسمه أوقف عليها بعض أملاكه للإنفاق عليها وفي 1950 بلغ عدد طلابها 460 طالبة.
بحسب مير بصري، جرى تأميم هذه المدارس سنة 1967 بأمر من الحكومة العراقية ضمن قرارات تأميم طالت عدداً من المدارس والمعاهد.
أعمال مناحيم الخيرية لم تتوقف على أبناء طائفته فحسب، إنما موّل إنشاء دار الميتم الإسلامي سنة 1928، فمدحه الشاعر معروف الرصافي بالقول "رجل علمنا اليوم من إحسانه.. أن ليس للإحسان دين في الدنى".
في عام 1940 تُوفي مناحيم دانيال متأثراً بمرضه فدُفن في مقابر عائلته بلواء الحلة، ورثاه الشاعر البغدادي عبدالرحمن البناء قائلاً "لم يمت من كان عزرا شبله.. والفتى حسقيل عنوان الكمال".