أحدهم نفته بريطانيا.. 4 مرشحين نازعوا الملك فيصل حكم العراق
على وقع "ثورة العشرين" العراقية، وجدت بريطانيا نفسها مرغمة على التفكير في إقامة مملكة دستورية في البلاد لتهدئة الأوضاع، ما أفرز جدلاً طويلاً بشأن هوية المُرشح الذي سيُنصّب ملكاً على العراق وسيحكمه ورثته من بعده.
كما هو متوقع لم يكن الحديث عن الملك القادم محلّ إجماع بسبب تعدّد التيارات السياسية وقتها؛ فقد رفع الشيوخ والأعيان شعار "العراق للعراقيين" وطالبوا بتنصيب شخص عراقي ملكاً للبلاد، بينما اعتبر العسكريون الذين خدموا في الجيش العثماني ودعاة القومية العربية أن الأسرة الهاشمية هي الأنسب للزعامة.
بجانب هذين التيارين ظهرت دعوات خجولة لم تحظَ بقبولٍ واسع طالبت باختيار أحد الأمراء العثمانيين من أحفاد السلطان عبد الحميد أو أحد أبناء العائلة المالكة المصرية لتنصيبه ملكا على العراق، فيما اقترح آخرون التخلي عن فكرة الملكية بالكامل وإعلان الجمهورية.
رفضت بريطانيا تماماً إقامة نظام جمهوري في العراق ولم تسمح لدعاته بالحديث عنه في الصحف، بل هاجمت المقترح، فتلاشى مبكراً بسبب اعتقاد الإنجليز أن هذا النظام يشكّل خطراً على نفوذهم في بلاد الرافدين.
نتيجة لهذا التجاذبات تعددت أسماء المرشحين الذين امتلكوا حظوظاً وآمالاً في التربع على عرش العراق. في هذا المقال، سنتحدث عن أبرزهم.
عبد الرحمن الكيلاني النقيب
بعد زوال حُكم العثمانيين اختير عبد الرحمن الكيلاني، نقيب أشراف بغداد، ليكون أول رئيس وزراء في العراق تحت إشراف الإنجليز. وقاد الحكومة التي بذلت جهوداً كبيرة في إنشاء مؤسسات الدولة العراقية في انتظار اختيار الملك الذي سيقودها حال الاستقرار على اسمه.
امتلك النقيب شعبية كبيرة في بغداد، ورغم ميوله العثمانية إلا أنه كان يعلم أن إعادة ربط العراق بالدولة العثمانية مجدداً باتت أمراً مستحيلاً، لذا طرح اسمه في الأوساط المحلية بسبب رفضه التام تنصيب أحد الهاشميين ملكاً.
خلال هذه المساعي، تلقّى الكيلاني دعماً من السياسيَّيْن توفيق الخالدي (عمل وزيرًا للعدلية لاحقاً) وحكمت سليمان (عمل وزيرا ثم رئيسًا للوزراء خلال العهد الملكي) والشاعر معروف الرصافي، الذي روّج لهذه الأفكار عبر قصائده المنشورة بالصحف والمجلات.
لم تلقَ الدعوات قبولاً بسبب كِبَر سنّ النقيب واعتلال صحته وعدم امتلاكه شعبية كافية في المناطق العراقية الأخرى.
وبحسب ما قاله باقر الحسني في كتابه "ذكريات من مسيرة الحكم الوطني الملكي في العراق"، فإن "النقيب لما بلغه نبأ اختيار فيصل ملكاً، أكد لبرسي كوكس رفضه هذا القرار بسبب عدائه الشديد للشريف حسين وأبنائه، فردَّ عليه كوكس بقسوة أجبرته على تقبّل الأمر".
لاحقاً، عمل الكيلاني تحت إمرة فيصل بعدما شكّل أول وزارة خلال العهد الملكي.
طالب النقيب
نقيب البصرة الذي نُظر إليه كأحد وجهاء العراق بفضل علاقاته المتشعبة داخلياً وخارجياً مع الأمراء العرب في نجد والمحمرة والكويت، امتلك طموحاً سياسياً قديماً حتى إنه سعى لإقامة إمارة عربية جنوب البلاد. بعدها، بدأ يدعو لنفسه ملكاً على البلاد.
في حكومة عبدالرحمن الكيلاني الأولى التي شكلها الإنجليز، شغل طالب منصب وزير الداخلية، وحينما بدأ في إعلان رغبته في العرش تلقى دعماً من عددٍ من وجهاء العراق، مثل سالم الخيون شيخ قبيلة بني أسد، وعبد الرزاق الأمير، وعبود الحاج، ومحمود الملاك وغيرهم.
وكان على رأس داعميه من السياسيين البريطانيين جون فيليبي المستشار في وزارة الخارجية البريطانية، الذي لعب دوراً كبيراً كحلقة وصل بين لندن وبين أمراء الخليج، كما ذكر حيدر العكيلي في بحثه "موقف جريدة العراق من ترشيح الأمير فيصل".
وبحسب علي الوردي، فقد أنفق طالب أموالاً كثيرة للدعاية لنفسه وللترويج لنسبه الممتد حتى الإمام علي، وقضى وقتاً في السفر بين الأقاليم والمحافظات المختلفة يتعهد بتطبيق مبادئ "ثورة العشرين" والإفراج عن معتقليها، كما زار النجف وألقى فيها خطبة حاشدة تعهّد خلالها بتحسين أوضاع رجال الدين وتعلية شأنهم في إدارة الدولة.
استشعرت بريطانيا القلق من تزايد دعوات تأييد طالب النقيب فأمر المندوب السامي البريطاني بالتحفظ عليه ونقله إلى جزيرة سيلان. أثارت هذه الخطوة غضب فيليبي الذي استقال من منصبه وغادر العراق.
لم يُطلق سراح طالب النقيب إلا بعد 4 سنوات من تنصيب فيصل ملكاً واستقرار نظام حُكمه بشكلٍ لا رجعة فيه.
الشيخ خزعل أمير المحمرة
امتلك الشيخ خزعل نفوذاً كبيراً بين العشائر في جنوب العراق، وكان من أكثر المتحمسين لتأييده الشيخ عبد الكريم الجزائري صاحب المواقف المعارضة للاحتلال الإنجليزي.
بذل خزعل جهوداً كبيرة في التقرب لشتّى طوائف العراقيين حتى إنه أمر بطبع كتاب يتضمن قصائد مدح له في مصر ثم وزّعه على العراقيين مجاناً، وأنفق عشرات الآلاف من الليرات الذهبية على بعض رجال الدين في النجف على سبيل الدعاية لنفسه.
بعد التعاون الكبير بينه وبين للبريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى، تمنّى الشيخ خزعل أن ينتهي الأمر تنصيبه ملكاً للعراق، حتى إنه بعث برقية لكوكس أخطره فيها أنه "مرشح لائق" متعهداً باستمرار التعاون مع البريطانيين.
رفضت بريطانيا ترشيح خزعل بسبب رغبتها في تنصيب شخص "محايد من خارج البلاد". أيضاً، اعتقد كوكس أن تنصيب أمير شيعي على العراق سيغضب أهل السنة الذين يمتلكون نفوذاً عظيماً في البلاد آنذاك.
عندما يئس الشيخ خزعل من إمكانية نيله العرش، تراجع عن موقفه ودعم الأمير فيصل عن طريق نشر بيان في الصحف جاء فيه: "إنني أتنازل عن ترشيح نفسي لأني أرى في شخص الأمير فيصل جميع الصفات والمواهب التي تؤهله لأن يتولى العرش، وإني أقابل ترشيح سموه بكل ابتهاج".
الأمير عبد الله بن الحسين
لم يكن الأمير فيصل هو المرشح الهاشمي الأول لحُكم العراق وإنما أخوه الأمير عبد الله الذي سبق أن رشحه المؤتمر العراقي الذي عُقد في دمشق (آذار 1920) ليكون ملكاً على العراق.
لذا، حينما علم الأمير عبد الله بأن الإنجليز لن ينصّبوه على عرش العراق ثار ثورة عارمة بسبب رغبته عدم الاكتفاء بمنطقة شرق الأردن ضعيفة الموارد قليلة السكان التي عُيّن عليها أميراً.
يقول الوردي: "هاج الأمير عبد الله وماج، وقذف الشرر على فيصل الذي وافق على الترشيح، وأكد لمعاونيه أن العرش عرشه ولا يسمح بالتنازل عنه".
الشاعر السوري خير الدين الزركلي الذي تمتّع بصلات صداقة مع الأسرة الهاشمية حضر هذه الواقعة وشهد حجم غضب الأمير عبد الله على أخيه حتى إنه خاف أن يقع قتال بينهما ويشهد العراق حرباً أخوية مثل التي جرت بين الأمين والمأمون ابني الخليفة العباسي هارون الرشيد.
لم يُهدِّئ غضب ابن الحسين إلا وينستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني وقتها الذي قابله في القدس وأقنعه بالتخلي عن العراق مقابل الاكتفاء بالأردن على وعدٍ بأن يضمَّ له سوريا بأكملها وأن تكون دمشق عاصمته وليست عمان، وهو وعدٌ لم يتحقق.
لاحقًا، أظهر الأمير عبد الله ألماً كبيراً لضياع العراق وصرّح في مجالسه الخاصة بأن عرشه كان من حقه وهو ما لم يتسامح بشأنه قط حتى إنه عندما سمع شاعراً يقول بحقه "تنازل عن عرش العراق تكرماً/ وأكرم من عرش العراق تنازله"، ردَّ عليه غاضباً "لم أتنازل ولن أتنازل"، حسبما نقل عنه الوردي.
الأمير فيصل
كانت لندن تعلم أن العراق بحاجة إلى حاكم قوي ينحدر من نسل عائلة لا يختلف عليها أحد في العراق؛ لذا اعتبرت أن الأسرة الهاشمية هي الوحيدة التي تصلح لهذا الدور.
واعتقدت أيضاً أن تنصيب أحد أبناء الشريف حسين ملكاً على العراق سيجعل الملك الجديد أكثر ضعفاً خلال تعامله مع بريطانيا ويزيد من حجم تعاونه معها في قضايا المنطقة.
وقع اختيار لندن على فيصل بدلاً من عبد الله وأخطرت فرنسا بهذه الرغبة. وبحسب كتاب "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" لعلي الوردي، فإن باريس اعترضت بشدة على اختيار الأمير فيصل إلا أن السير كوكس المندوب السامي البرطاني ارتأى المضي في دعم فيصل على أن يجري امتصاص غضب فرنسا بأي شكلٍ لاحقاً.
هذا الترشيح صادف قبولاً لدى قطاعات واسعة من الأعيان والمثقفين أبرزهم الأخوَان الصحفيان رشيد ومحمد الهاشمي، اللذان قادا حملات إعلانية واسعة تأييداً لفيصل وتمجيداً لأدواره القومية وصلاحيته لعرش العراق.
أيضاً أظهر الضباط العراقيون العائدون للتو من خدمة الأمير في سوريا حماساً له مثل جعفر العسكري ونوري السعيد، باعتباره "أفضل مرشح يقود العراق".
تلقّى فيصل دعماً مباشراً من الميس بيل سكرتيرة المندوب السامي البريطاني التي أعجبت بالشهور القليلة التي قضاها فيصل ملكاً على سوريا، معتبرة أنه خلالها أظهر "شخصية محترمة ومهيبة" في ذات الوقت.
كذلك أبدى فيصل للبريطانيين حنكة خلال الاجتماعات التي شارك بها خلال مؤتمر الصلح بباريس عام 1920 مندوباً عن أبيه، وفقاً لما ذكره دكتور بشير الغزالي في كتابه "المعارضة النيابية في العراق خلال العهد الملكي".
بجانب هذه الانطباعات، فإن بريطانيا كانت تعتقد أن الأمير فيصل خرج من تجربته القاسية في سوريا ضعيفاً بشكل يجعله يعتمد على الحكومة البريطانية بشكلٍ أساسي في إدارة بلاده.
خلال مرحلة التفضيل بين المرشحين أيّد فيصل عددٌ من كبار رجال الدين الشيعي مثل السيد محمد الصدر والقاضي يوسف السويدي والشيخ مهدي الخالصي، كلاهما شاركا في "ثورة العشرين".
وأصدر الخالصي فتوى بالموافقة على تعيين الأمير فيصل ملكاً بشرط إقامة حياة نيابية سليمة.
خلال مؤتمر القاهرة الذي عُقد لحسم الاختيار، انحازت الشخصيتان اللتان مثلتا العراق فيه، وهما جعفر العسكري وزير الدفاع، وساسوس حزقيل وزير المالية، للأمير فيصل باعتباره مقبولا دينياً من السنة والشيعة كما أنه مقبول اجتماعياً من العرب والكرد.
أظهر تشرشل دعماً كبيراً لفيصل بسبب قناعته بأنه سيكون المرشح الأمثل بين صفوف القوميين بسبب تاريخه في خدمة القضية العربية وقيادة قوات الثورة العربية وانتخابه كأول ملكٍ عربي على الشام في تاريخه الحديث.
في النهاية، انتهى المؤتمر بالمصادقة على تعيين فيصل ملكاً على عرش العراق.