ربما من حيث لاتدري غزة ودماء أهلها فانها أعطت الشباب في هذا العالم ماكانوا يبحثون عنه .. الا وهي الرسالة والمهمة والطريق الى الثورة والتغيير .. والمهمة المحملة بالأخلاق .. فأنا على يقين ان كل من مر بمرحلة الشباب يدرك ان أصعب لحظة في الشباب هي لحظة اختيار مسار الحياة .. واختيار التحدي واختيار الرسالة في هذا العمر الذي نزور فيه هذه الدنيا .. ويبقى الشباب قلقا الى أن يمسك بيده جمرا وبرقا واحساسا انه يضيف للحياة نكهة تغيير وثورة .. وأنه أضاف للوجود .. وأضاء قيمة عليا للبشر .. ورسالة عظيمة تحركه وتفجر هذا السكون الاخلاقي والظلام في القيم .. ففي أعماق الانسان رغبة مكبوتة في أن يحب .. وأن يغير العالم .. وهذه الرغبة تكون مثل الاعصار الحبيس في قارورة العمر التي يكسرها حدث كبير .. فالشباب الاسلامي مثلا اختطفه الاميريكيون وسرقوه وأعطوه مهمة مقدسة لتغيير واقعه بثورة دينية .. انساق خلفها وهو يظن أنه وجد ضالته ورسالته .. أخذته الى جبال افغانستان والربيع العربي .. ومن يفوز بالشباب فقد حرك العالم .. ولذلك فان الحركات الكبرى التي غيرت العالم هي حركات مهما حشدت لها من فلاسفة ونظريات فانها بلا طاقة الشباب لن تنجح ..
الراسمالية والعولمة التي تقودها النخب الامريكية لم تترك للشباب مهمة جليلة .. وحرمتهم من أية قضية أخلاقية تستحق ان يعيش لأجلها أو يقينا يتعلق به ويدافع عنه .. فأعظم قضية تدفع بها النخب الامريكية للشباب الغربي هي الشذوذ الجنسي .. والارهاب .. والاسلاموفوبيا والنظريات العنصرية .. لكن هذه قضايا لايمكن ان يكون لها حامل أخلاقي يعطيها نكهة الرسالة طالما أنها تفتقر الى أخلاقية حقيقية في المضمون .. فهي أخذتهم الى مهمات الثورة الجنسية وتغيير الجنس والشذوذ والكراهية للروس والعرب والمسلمين .. ولكنها ثورات بلا أساس لأنها خاوية من المعاني العظيمة التي يبحث عنها الشباب في كل زمن وجيل على شكل رسالة مقدسة باهرة من أجل الانسان .. رسالة تخطف الابصار لطالما كان الشباب يبحث عن قضية وعن رمز وعن رسالة ويقين وضوء ينير عين العالم ويصل الى قلبه .. ففي قضية العبودية والتمييز العنصري هناك معنى انساني .. وفي قضية الحريات والمساواة قضية تستحق ان يسير الشاب من أجلها ..
مايحدث اليوم من ثورة الشباب في العالم بسبب أحداث غزة هو ان الشباب في العالم بدأ يجد ضالته في القضية المقدسة الانسانية التي تعطيه معنى لحياته وتجعله يحس انه وجد مايبحث عنه من مهمة وجودية خاصة أنه تم تمييع وجوده بالتفاهة والثورات الجنسية والاباحية ..
اليوم غزة يراها العالم لأول مرة كما لم يرها من قبل .. شعب أعزل تجتمع عليه قوات الناتو النووية .. وتحاول ابادته على شاشات التلفزيون .. وتتوقع زعامات العالم الغربي انها تعرض برنامجا علميا عن عالم الحيوان حيث تفترس فيه الضباع والكلاب البرية الايائل والظباء .. وهي حية .. وتطحن فكوك التماسيح عظام الغزلان الصغيرة التي وردت لتشرب الماء وهي ظمأى .. أطفال غزة تلك الغزلان الصغيرة التي يريد زعماء الغرب ان يقولوا للشباب انها الطبيعة وانه عالم الحيوان .. حيث يجب ان نقبل بقسوته وألا نتدخل فيه .. لأنه تدخل في الطبيعة .. ولنعد لاحياء الطبيعة الشاذة للانسان في اختيار جنسه وتغييره ضد الطبيعة .. فهنا ثورة ضد الطبيعة لتغيير الطبيعة .. وتلك في غزة طبيعة يجب ألا نغيرها .. والا نتدخل بها ..
ولكن مالم يدركه الساسة الغربيون أن طبيعة البشر في عمر الشباب هي من أعقد الطبائع لأنها مرحلة انتقاء القيم العليا ومناعة العقل الفطري لاتقبل ان تدخل عليه قيم غير طبيعية بل القيم الطبيعية وهي قيم الخير .. ومرحلة تطعيم النفس بالتحدي الحياتي ..
فلسطين هي اليوم القضية الاخلاقية العليا التي تجذب الشباب .. وهي التي تعطي الشباب نكهة التحدي والخوض في معركة من أجل قضية عادلة لاتشوبها شائبة ولايختلف عليها منطق او عقل او حس انساني .. سقطت القضية اليهودية بالتدريج وتأكلت قصة الهولوكوست لأن الشباب الجديد لم يعشها ولايكترث بها الا كقصة لاتؤثر على ضميره كثيرا كما تؤثر على ضميره المشاهد الحقيقية والبث المباشر للمجزرة والابادة في غزة التي تستند في شرعيتها الى الهولوكوست حيث ان أبناء الهولوكوست يحاولون ان يدافعوا عن وجودهم بارتكاب هولوكوست في بث حي ومباشر ..
في هذا الامر ربما وقع مالم يتوقعه العقل الصهيوني والامريكي وهي ان فلسطين تحولت الى أيقونة وألم عام .. وتحولت الى رسالة يعتز بها الشباب ويحس انها تعطي لوجوده معنى كفاحيا ونزقا ثوريا .. وربما كنا نتحسر ان ايران لم تدخل الحرب .. واليوم نجد ان عدم دخول ايران الحرب كان في صالح قضية فلسطين .. فربما لو دخلت ايران فانها كانت ستحمي الفلسطينيين من بضعة مجازر ولكنها كانت ستنزع عن فلسطين طبيعتها وقيمتها الثورية والقيمية وستتحول الى حرب بين دول مثل جرب اوكرانيا حيث لايهتم شباب العالم بما يحدث من اوكرانيا رغم كل الحقن الاعلامي عن وحشية الروس وبوتين .. ولو أن ايران دخلت الحرب لقال العالم انها حرب ايران واسرائيل .. ولن يراها الشباب قضية أخلاقية او تغويهم بتذوقها ..
الشيء الوحيد الذي تفتقده ثورة الشباب في العالم هي ثورة الشباب العربي وأنا لاأجد أي عذر وأي تفسير سوى ان الامة ماتت أطرافها بعد أن أنهكت في الثورات الدينية وحروب الجيل الرابع والديمقراطيات الزائفة .. وبقي فيها قلبها فقط .. الذي يسمى محور المقاومة .. وربما تعود الحياة للأطراف .. فالقلب لايزال يضخ الدم .. والدم سيصل الى كل مكان .. ويحي العظام وهي رميم ..
نارام سرجون