الوائلي.. في أوج العلم والثقافة والأخلاق
”أوج“ كلمة قد لا يعرف معناها الكثير ولكنها فُضِّلتْ هنا لأنها كلمة تليق بفخامة ألفاظ الخطيب الكبير والعلامة المفوه والأديب الفحل الشيخ الدكتور أحمد الوائلي رضوان الله عليه الذي نعته أستاذ المراجع والفقهاء السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره الشريف بأنه ”مكتبة متنقلة“ وقيل أنه نعته بـ ”لسان الشيعة الناطق“. وهو الخطيب الكبير الذي أوعز المرجع الأعلى السيد السيستاني دام ظله الوارف لمكتبه بتكريمه على جهوده المباركة في خدمة المنبر الحسيني لمدة خمسين عاماً، خدمةً نقلت المنبر إلى مصاف ما يطرح من بحوثٍ علميةٍ يشار إليها بالبنان، ويمكنك أن ترجع إلى تأبين صديقه وزميل دربه آية الله الشيخ الفضلي رضوان الله عليه له حيث تعرض للمحات من تاريخ المنبر قبل وبعد الشيخ الوائلي رحمه الله. نعم خدمة تميزت بفخامة ألفاظه وعمق بحوثه وسعة ثقافته التي أبداها من خلال تقديم محاضرات في التفسير المقارن إن صح التعبير. لذا بدا للكاتب أنه لا يليق بهذه القامة ”الحوزوية والأكاديمية“ إلا كلمة ”أوج“ التي تعني ”قمَّة، ذروة أو علوّ وارتفاع“ [1] وذلك لما سبق ذكره حيث جسد واقع العالم المثقف الإمامي الذي هيمن على العلم والثقافة بأخلاقه الإسلامية.
الشيخ أبا سمير رضوان الله في غنى عن قلم المادحين ودفاع المحبين، فلقد أشاد بنيانه من عرق جبينه لخدمة آل بيت الطهارة بصورة لو قدمها لحجر لنطق لشكره فكيف بمن أنطقوا الدنيا، بل كل العوالم والوجود بمنِّ الله تبارك وتعالى. ولكن في مقابل بعض الهجمات المجحفة التي تعرض لها ذلك الخطيب الكبير والمميز يستحق أن نجمع بعض النقاط التي ذكرت هنا وهناك من باب الشكر لهذا العالم الجليل الذي تربينا على سماع محاضراتها القيمة وفكره النير الذي يحمل هم الأمة كما يحملها الرساليون الذين يسيرون على هدي الرسل والأوصياء.
العالم المثقف الخلوق
الوائلي قدوة في مستواه العلمي، فقد نقل عن أستاذه العلامة المظفر رضوان الله عليه أنه كان يقدمه بعبارات تشير إلى علمه ومكانته السامية، رغم صغر سنه في تلك الفترة. كما قال عنه صديقه العلامة المحقق البحاثة الشيخ باقر شريف القرشي رضوان الله عليه أنه نابغة من النوابغ كما شهد بذلك المآلف والمخالف ومدرسته الخطابية خير دليل. وقد شهدت كلية الفقه التي أسسها أستاذه المظفر رضوان الله عليه تفوقه وهي نفسها الكلية التي تسنم عمادتها بعد ذلك بفترة. وهذا لا يعني العصمة في العلم التي يظنها بعض الناس في العلماء بحيث يرفعونهم عن مستوى النقد والنقاش وكأن حوزاتنا ليست زاخرة ببحوث التدقيق والتمحيص لأعلم العلماء بدأً من الشيخ المفيد والسيد المرتضى والطوسي إلى أستاذ المراجع والفقهاء السيد الخوئي العظيم وتلاميذه المعاصرين وغيرهم رحم الله الماضين وقدس أرواحهم وحفظ الباقين. وينجر ذلك أيضاً على طريقة معالجة القضايا بكل أنواعها وتشعباتها فالعصمة لأهلها، ولكن الزمان أرانا العجيب بحدٍ يصل فيه من يخالف العالم إلى حد الافتراء والتشهير. فنقول لهم يا من تدعي الولاء للرحمة المحمدية فكر بعقلك ودينك وتدينك لا عاطفتك، من استطاع على مدى خمسين عاماً أن يكون خير ممثل للعلم والخلق الكريم لا نصدق ما يُفترى عليه لأن ما أخفاه الجنان أبداه اللسان فلو كان حقاً ما يُفترى عليه لظهر على فلتات اللسان بينما المشهود به هو نقاء المنبر الوائلي من أي قدح للناس حفاظاً على قداسة المنبر والرسالة الهادفة لتصل حتى للقلوب الغلف. حتى ذكر أنَّ من نقدهم الوائلي نقداً لاذعاً بذكر أسمائهم هم ثلاثة أشخاص فقط لهتكهم حرمة أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم وهذا إنجاز عظيمٌ جداً ونادرٌ لمسيرة امتدت لخمسين عام.. إن كنَّا منصفين. وندعم ذلك بأن ننقل شهادة أديب الطف الكبير وعميد القصيدة الحسينية أبا علي الأستاذ جابر الكاظمي الذي جَالَس الشيخ فقال إن الشيخ كما هو على المنبر هو نفسه في جلساته الخاصة.
ومن النقاط اللامعة هي أن الشيخ رضوان الله عليه من أهل الخبرة في مخاطبة الجماهير والمدارس الأخرى فكان ينبغي تقديم رأيه وتجربته على غيره بحكم احتكاكه اللصيق بالساحات المختلفة بالصورة التي جعلت خطابه ينفذ إلى أبناء المذاهب الأخرى لا مهاجمته ومحاولة تسقيطه من اعتبار الجمهور. فقد تحدث الشيخ رحمه الله بحكمة وبالمقدار الذي يسمح به زمانه وخير دليل على ذلك أنه كانت له محاضرات لم يسمح بتسجيلها لأن وعي ذلك الزمن لا يتسع لها. رأينا عجباً من ضيِّقي الأفق الذين يفشون أسرار آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم بالصورة التي تُنفر الآخر لأنها تقدم بأسلوبٍ فظٍ غليظٍ خلافاً للدعوة القرآنية {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: آية 159]. ومن المناسب أن نقول إنهم وضعوا أنفسهم بمقام أن يصح عليه القول بأنهم ”ملائكيون أكثر من الملك“ فلو كانوا مع أمير المؤمنين (ع) حين دخوله على بقايا تلك الكنيسة على طريق صفين لقالوا ”لطالما أُشْرِكَ بالله هنا“ ولرد عليهم أمير المؤمنين قائلاً ”لطالما عُبِدَ الله هنا“ [2] . فلو كنت في زمن الشيخ رضوان الله عليه وتصديت للخطابة لجلست القرفصاء بين يديه لأتعلم منه كيف ينبغي أن نخاطب الجماهير في زمن طغت فيه العصبية المذهبية وغيرها من مزلزلات العلاقات الدينية والإنسانية.
من الأمور الأخرى المهمة هو اعتزاز أبيه به الذي كان يراه جوهرة نادرة كما هي أبناء الشواهين التي تكن فريدة، كما نقل عن نجله المرحوم علي الوائلي [3] .
وجانب آخر نقل عنه حين حصوله على درجة الدكتوراه طلب منه أحد المسؤولين الأكاديميين التدريس في الجامعات، إلا أن الشيخ رضوان الله عليه طلب أن يعفيه من التدريس في الجامعات ليتفرغ لخدمة المنبر الحسيني [4] الذي كان يراه القناة الإعلامية الوحيدة المتاحة لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك الزمن العصيب وكان الكفء لهذه المهمة الذي رقى بها إلى مقام سامي يتربع تحتها الأكاديميون باختلاف تخصصاتهم ومراتبهم العلمية.
وننقل أمراً آخر من صفاته الحميدة وهو اكتفاؤه ببعض ما يقدمه أصحاب المجالس من أموال بعد نهاية الموسم شكراً لمجهوداته في خدمة الإمام الحسين (ع) مع أنه كان يرسل بعض ذلك المال ليتصدق على الفقراء من أهله وجيرانه في وطنه الجريح فلو أخذه كله فذلك حقه إلا أنها ملكة تهذيب النفس والزهد في الدنيا الدنية طمعاً بما عند الله عز وجل. هذان الموقفان يعكسان زهد الشيخ في المكانة العلمية في الجامعات من أجل خدمة دين محمد وآل محمد (عليهم السلام) وزهده في المال الذي تميل له القلوب لأنه ملك نفسه ولم تملكه. لذلك لا أستبعد أن من ترك التدريس في الجامعات لسد الفراغ في خدمة المنبر الحسيني أنه ترك ساحات أخرى لنفس لوجود الأكفأ، كيف لا وهو المشهود له بذكائه ونبوغه واتساعه علومه وفحولته الشعرية التي تعكس عن استعداد تام للارتقاء أعلى وأعلى.
ختاماً، أهم الأوسمة هي التي تقلدها العلامة الوائلي رضوان الله عليه كانت بكف المعصومين:
أولاها: من كف الإمام الكاظم (ع) في قصة كريمته بتلك المعجزة التي نقلها بنفسه من على المنبر الحسيني وهي دليل على معاجز أهل البيت (عليهم السلام) إذا تُوُسِّل بهم.
ثانيها: بكف الإمام الرضا (ع) الذي ألبسه ثوب الصحة والعافية بإذن الباري تبارك وتعالى وذلك حين أصيب بمرض عضال فتوسل إلى الإمام الرؤوف بقصيدة أرسلها مع إحدى المؤمنات ليشفا من مرضه.
ثالثها: بكف الحسين (ع) {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: آية 26] وهو عند قبض روحه الطيبة التي نقلها الشيخ باقر شريف القرشي رضوان الله عليهما.
رحم الله شيخنا الجليل وجزاه خير الجزاء على ما قدَّم وما استفدناه من محاضراته القيمة والنيرة التي لا زالت مواكبة لكل عصر ولها مكانة لتجسد بحق أنه الغائب الحاضر.
همسة روائية
قال الإمام الصادق (ع): «إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة».