الهجرة النبوية.. منهج إعداد وتخطيط


الآن، ونحن أفذاذ الإدارة والتخطيط والتنمية البشرية في القرن الواحد والعشرين، وبالتوازي مع أربعمئة وتسع وثلاثين بعد الألف من العام الهجري، نعاود أدراج حادثة الهجرة، متعمقين بالأسباب والتخطيط والنتائج، دارسين أحوالها وآثارها، ومتفهمين المكان والزمان والموارد، ومقارنين بين أحقاب زمنية لها ما لها وعليها ما عليها، ومدركين جيدا مفهوم التطور والعلم الحديث وما يؤول إليه.
لا شكّ بأن التخطيط بحد ذاته منهجا وأسلوب حياة نسير عليه في كلّ شؤوننا، بداية من التخطيط للنوم والصحوّ باكرا، مروراً بالتخطيط لمشروع كبير برأس مال ضخم، وصولا إلى تخطيط على مستوى الفرد والأمة. وهذا ما نلاقيه مثالاً قديما، وواقعا ممتداً عميقا في حادثة الهجرة النبوية الشريفة.
فالتخطيط، كما نفهمه، وكما يعرّفه آباؤه وعلماؤه هو: " توظيف كل الطاقات والإمكانات للوصول إلى أهداف محددة في زمن معين"، مستغلين الموارد المتاحة، والفرص السانحة، للوصول إلى الهدف المنشود، ورسم خارطة سيرٍ توضح أين نحن الآن وما نصبو إليه مستقبلاً.
وبالتفصيل والتحليل للتخطيط الاستراتيجي الذي استخدمه الرسول – صلى الله عليه وسلم- القائد القدوة، والرسول المعلّم، رجل المعجزات، وصاحب الإلهامات، نبيّ الرسالة البشرية المتكاملة حياتيّاً ودينيّاً، وتتبعاً لخطوات التخطيط الاستراتيجي خطوة خطوة، فإننا نجد ما يلي:
1- تحديد الأهداف
الرسول ﷺ لم يُقرّر الهجرة بين ليلة وضحاها، وإنما حاول بداية إصلاح الواقع بمكة المكرّمة ومجاهدة الأعداء والمخاطر ونقاط الضعف المحيطة به من كل صوْب، ومن ثم حدد أهدافه، ورسم لكل هدف خطة سير
فقد قام الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم بالدراسة المُسبقة، والتحليل العميق، لتحديد الأهداف المرجوّ تحقيقها، آخذاً بالأسباب، محلّلا للواقع، متطلّعا للمستقبل، مفصّلا لجميع المناحي والأمور، غير لاهٍ عن أي هدف أو غاية، بدءاً من التحضير والإعداد والاختيار الأمثل للموارد – البشرية والمادية والمعنوية -، مروراً بغرس الثقة واليقين والظن الحسن بمعيّة ونصر الله، وعلى غرار قاعدة " اعقل وتوكّل" وبعيداً عن قضية التواكل أو الدعاء بغير الفعل والإرادة، وصولاً إلى إعداد وتهيئة البيئة المستقبِلة لتحقيق الأهداف وهي – المدينة المنورة- في موضوعنا، فقد أسس له فيها أمة تنصره بعد نصر الله، وتحميه وتقف معه، استقبلته بجيشه وموارده استقبال الفاتح والمخطط العبقريّ، وأعطته الفرصة الأكبر لتحقيق الأهداف المنشودة.
2- رسم الخطط الكفيلة بالوصول
فالرسول – صلى الله عليه وسلم- لم يُقرّر الهجرة بين ليلة وضحاها، وإنما حاول بداية إصلاح الواقع – مكة المكرّمة- ومجاهدة الأعداء والمخاطر ونقاط الضعف المحيطة به من كل صوْب، ومن ثم حدد أهدافه، ورسم لكل هدف خطة سير، وخارطة طريقٍ تجمع كلّ عناصر التخطيط السليم، ليستطيع تجاوزها، مستغلا عناصر القوة فيه وبالجيش الذي يقوده، ومتطلّعا لاستغلال الفرص التي تتراقص له في وجهته – المدينة-.
3- تخصيص الموارد المتاحة
لا يخفى على أحد من المتعمقين في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم- والدارسين لسنته ووقائعه، مدى استغلال الرسول لجميع الموارد المتاحة له، سواء مادية أو بشرية أو معنوية، ولو جعلنا تركيزنا في هذه المدونة على استغلاله الأمثل للموارد البشرية وتخصيصه لكل شخص على حسب قاعدة " الشخص المناسب في المكان المناسب"، وتحليله الصحيح لشخصيات من حوله، لوضعهم في المكان الذي يستطيعون به تنفيذ ما يُناط بهم، وتحقيق الأهداف المشتركة المبتغاة من هذه المشاركة، ولا سيّما إشراكه لشتى الأفراد مع اختلاف الأعمار والأجناس، فلنا في ذلك أمثلة كثيرة:
• اختار – عليه الصلاة والسلام- "عبد الله بن أبي بكر"، ليتسمّع ويتنصّت على الأخبار ويأتيه بها، وفي ذلك توظيف لحنكة وحكمة الشباب ومراوغتهم.
• استفاد – صلى الله عليه وسلم- من مهنة الصحابة وسهولة تحركاتهم، فاختار الصحابي الراعي "عامر بن فهيرة" لمحيِ آثار المشاة للتغطية على الصحابة من باب السرية وأخذ الحيطة.
• لم يتغافل الرسول – صلى الله عليه وسلم- عن دور النساء، فكانت أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها، من تؤمن وتنقل لهم الطعام والزاد.
• وكما أن الحكمة والحنكة مهمتان في أي تخطيط، لكنه – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- يدرك أهمية القوة الجسدية والشجاعة في تحقيق ونجاح ذلك، فقد اختار "علي بن أبي طالب" – رضي الله عنه- أن يبيت في فراشه بدلا منه، مراوغة وسرية، ولاستطاعة عليّ التصرّف في المواقف الطارئة.
• ومن الغريب، استعانة الرسول – صلى الله عليه وسلم- بـ "عبد الله بن أريقط الليثي" بشخص غير مسلم، لخبرته وأمانته ومعرفته بالطرق الغير معتادة.
4- تحليل SWOT
وهو التحليل الرباعي للبيئة الداخلية "مكة المكرمة" والبيئة الخارجية "المدينة المنورة"، فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم – على علم ودراية بالقدر الكافي، ليدرس نقاط القوة ونقاط الضعف التي تعينه أو تهوّن عزائمه ورسالته في مكانه الحالي، ويحلل بنظرة مستقبلية ثاقبة، وتفرّس عميق للبيئة المتوجه لها من فرص أو مخاطر.
وفي هذه النقطة، لا بدّ من التأكيد في أهمية الدراسة التفصيلية الصحيحة للبيئة الخارجية، فالرسول – صلى الله عليه وسلم- هيأ أهل المدينة المنورة لهذا الحدث المهيب، ولم يتجرأ على أخذ هذه الخطوة إلا بعدما تأكد من الإيمان العميق الذي يتمتع به أهل المدينة المنورة، من حب للرسول – صلى الله عليه وسلم-، وإيثارهم للصحابة – رضوان الله عليهم- وعفة أنفسهم، وكرم أرواحهم، وطيب تعاملهم.

إن التخطيط منهج وأسلوب حياة، طوبى لمن سار عليه واتبع أسسه، وويلات وفشل لمن استغنى عنه في الدنيا والآخرة

وكما أن حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم، حياة شاملة ومتكاملة، على أسس صحيحة، ومبادئ واضحة، فكذلك كانت خطته – صلى الله عليه وسلم- على نسق أسس ومنهاج التخطيط السليم، فاتبع أسس التخطيط الناجح على النحو الآتي:
1- الواقعية: فكانت الهجرة خطة غير مبالغ فيها، أو محض خيال، بل هي في حدود وإمكانيات الرسول وزمرته المسلمة
2- المرونة: فكانت الخطة سلسة التعامل، قابلة للتغير والتبديل حسب الظروف والمواقف الطارئة.
3- الشمولية: راعى الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هجرته شمولية جميع الاحتياجات والأهداف والرغبات والموارد.
4-البساطة والوضوح: السبب والمغزى من الهجرة واضحين كعين الشمس، جميع من حول الرسول من عدو قبل الصاحب يفهم مقصده وغايته من الهجرة.
5- المشاركة في وضع الخطة: لم يستأثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وضع أسس الخطة والسير على هواه فقط، بل أشرك الجميع، وحابى منه البعض بدرجة أكبر للتشاور والعزم على أخذ الرأي.
وبعد هذا كله، نجد الكثيرين ممن ينكرون قدامة علم التخطيط والإدارة والتنمية والتربية البشرية، وينسبونه إلى العلم الحديث، وآخرين كثرٍ يستتفهون هذا العلم ولا يطبقونه في أمورهم عظمت أم صغرت، ولا يجدون إليه حاجة إلا إذا – وقع الفأس بالرأس-، أو يقومون إليه كسالى بعدما يتوجب عليهم أخذ الشهادات العالمية ليُعترف بشركاتهم ومصانعهم، ومن ثم يرمونها لتأخذ الغبار مجراها عليها! التخطيط منهج وأسلوب حياة، طوبى لمن سار عليه واتبع أسسه، وويلات وفشل لمن استغنى عنه في الدنيا والآخرة.. "وعن عمره فيما أفناه".