هجرة النَّبيِّ وصاحبه الصِّدِّيق.. رحلةُ مصاعبٍ تكللت باستقبال جماهري مهيب
فشل خطَّة المشركين لاغتيال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:
بعد أن مُنيت قريش بالفشل في منع الصَّحابة رضي الله عنهم من الهجرة إلى المدينة على الرَّغم من أساليبها الشَّنيعة، والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصاديَّة، وكيانهم الاجتماعيِّ القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار النَّدوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدَّعوة، وقد تحدَّث ابن عباس في تفسيره لقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الآنفال: 30]
فقال: تشاورت قريش ليلةً بمكَّة، فقال بعضهم: إذا أصبح؛ فأثبتوه بالوُثُق [خبر اجتماع قريش: ذكره ابن هشام (2/124 – 126) وابن سعد (1/227 – 228) والبيهقي في دلائل النبوة (2/466 – 468) وأبو نعيم في دلائله (63 – 64) والطبري في تاريخه (2/372) والهيثمي في مجمع الزوائد (6/52 – 53)]، يريدون النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع اللهُ نبيَّه على ذلك، فبات عليٌّ على فراش النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم – تلك اللَّيلة [أحمد (10/348) وعبد الرزاق في المصنف (5/389) والطبري في تاريخه (2/372) ومجمع الزوائد (6/52 – 53)] . وخرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلـمَّا أصبحوا؛ ثاروا إليه، فلـمَّا رأوا عليّاً؛ ردَّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري! فاقتصُّوا أثره، فلـمَّا بلغوا الجبل؛ اختلط عليهم الأمر، فصعدوا الجبل، فمرُّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً.
قال سيِّد قطب – رحمه الله – في تفسيره للآيات الَّتي تتحدَّث عن مكر المشركين بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّه التَّذكير بما كان في مكَّة قبل تغيُّر الحال، وتبدلُّ الموقف، وإنَّه ليوحي بالثِّقة واليقين في المستقبل، كما ينبِّه إلى تدبير قدر الله، وحكمته فيما يقضي به ويأمر. ولقد كان المسلمون الَّذين يخاطَبون بهذا القرآن أوَّل مرَّةٍ يعرفون الحالين معرفة الَّذي عاش، ورأى، وذاق، وكان يكفي أن يذكَّروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوفٍ، وقلقٍ في مواجهة الحاضر الواقع، وما فيه من أمنٍ، وطمأنينة، وما كان من تدبير المشركين، ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة ما صار إليه من غلبةٍ عليهم، لا مجرَّد النَّجاة منهم.
لقد كانوا يمكرون؛ ليوثقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبسوه حتَّى يموت؛ أو ليقتلوه، ويتخلَّصوا منه، أو ليخرجوه من مكَّة منفيّاً مطروداً، ولقد ائتمروا بهذا كلِّه، ثمَّ اختاروا قتله، على أنَّ يتولَّى ذلك المنكر فتيةٌ من القبائل جميعاً؛ ليتفرَّق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب جميعاً، فيرضوا بالدِّية، وينتهي الأمر. إنَّها صورةٌ ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، وهي في الوقت ذاته صورةٌ مفزعةٌ؛ فأين هؤلاء البشر الضِّعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبَّار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكلِّ شيءٍ محيط؟!.
التَّرتيب النَّبويُّ للهجرة
عن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكرٍ أحد طرفي النَّهار، إمَّا بُكرةً، وإمَّا عشيَّةً، حتَّى إذا كان اليوم الَّذي أُذِن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، والخروج من مكَّة من بين ظهري قومه؛ أتانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعةٍ كان لا يأتي فيها، قالت: فلـمَّا رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السَّاعة إلا لأمرٍ حَدَث.
قالت: فلـمَّا دخل؛ تأخَّر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبي بكر إلا أنا، وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخْرِجْ عنِّي مَنْ عندك»؛ فقال: يا رسول الله! إنَّما هما ابنتاي، وما ذاك؟ فداك أبي، وأمِّي! فقال: «إنَّه قد أُذن لي في الخروج والهجرة». قالت: فقال أبو بكر رضي الله عنه: الصُّحبة يا رسول الله! قال: «الصُّحبة». قالت: فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم: أنَّ أحداً يبكي من الفرح، حتَّى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ، ثمَّ قال: يا نبيَّ الله! إنَّ هاتين راحلتان، قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأْجَرَا عبد الله بن أريقط – رجلاً من بني الدَّيْل بن بكر، وكانت أمُّه امرأةً من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً – يدلُّهما على الطَّريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. [ابن هشام (2/128 – 129)] .
وروى البخاريُّ عن عائشة رضي الله عنها في حديثٍ طويل، وفيه: «… قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر، في نحر الظَّهيرة؛ قال قائلٌ لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنِّعاً؛ في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداءً له أبي وأمِّي! والله ما جاء به في هذه السَّاعة إلا أمرٌ! قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ رضي الله عنه: «أخْرِجْ من عندك»، فقال أبو بكر: إنَّما هم أهلك. قال: «فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخروج»، فقال أبو بكر: الصُّحبةَ بأبي أنت يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم»، قال أبو بكر رضي الله عنه: فخذ بأبي أنت يا رسول الله! إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بالثَّمن»، قالت عائشة رضي الله عنها: فجهَّزناهما أحثَّ الجهاز (من الحثِّ وهو الإسراع)، وصنعنا لهم سُفرةً في جِرابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قطعةً من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سمِّيت ذات النطاقين، ثمَّ لحق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليالٍ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكرٍ رضي الله عنهما، وهو غلامٌ، شابٌّ، ثَقِفٌ، لَقِنٌ، فيُدلجُ من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريشٍ بمكَّة كبائتٍ، فلا يسمع أمراً يُكتادانِ به إلا وَعَاهُ، حتَّى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظَّلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه منحةً من غَنَم، فيريحها عليهما حين تذهبُ ساعةٌ من العِشاء، فيبتان في رسْلٍ – وهو لَبَنُ مِنْحتِهِما ورَضِيفهما – حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بَغَلسٍيفعل ذلك في كلِّ ليلةٍ من تلك اللَّيالي الثَّلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رجلاً من بني الدَّيْل، وهو من بني عبد بن عديِّ – هادياً خِرِّيتاً – والخرِّيت: الماهر بالهداية، قد غمس حلفاً في ال العاص بن وائل السَّهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمِناهُ، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صُبْحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدَّليل، فأخذ بهم طريق السَّواحل» [البخاري (3905)، وأحمد (6/198 – 199)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/473 – 475)، وعبد الرزاق في المصنف (5/388)، والطبري في تاريخه (2/375 – 378)] .
خروج الرَّسول صلى الله عليه وسلم ووصوله إلى الغار
لم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ حين خرج إلا عليُّ بن أبي طالبٍ، وأبو بكر الصِّدِّيق، وآل أبي بكرٍ. أمَّا عليٌّ رضي الله عنه، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلَّف؛ حتَّى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع؛ الَّتي كانت عنده للنَّاس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بمكَّة أحدٌ عنده شيءٌ يُخشى عليه إلا وضعه عنده؛ لما يعلم من صدقه، وأمانته، وكان الميعاد بين الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ رضي الله عنه، فخرجا من خوخة، لأبي بكر في ظَهْرِ بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء؛ حتَّى لا تتبعهما قريشٌ، وتمنعهما من تلك الرِّحلة المباركة، وقد اتَّعَدا مع اللَّيل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط، في غار ثور، بعد ثلاث ليالٍ.
دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكَّة
وقد دعا النَّبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكَّة إلى المدينة قائلاً: «الحمد لله الَّذي خلقني ولم أَكُ شيئاً! اللَّهمَّ أعنِّي على هول الدُّنيا، وبوائق الدَّهر، ومصائب اللَّيالي والأيام! اللَّهمَّ اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذَلِّلني، وعلى خلقي فقوِّمني، وإليك رب فحبِّبني، وإلى النَّاس فلا تكلْني! ربَّ المستضعفين! وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الَّذي أشرقت له السَّموات، والأرض، وكُشِفت به الظُّلمات، وصلُح عليه أمر الأوَّلين، والآخرين أن تحلَّ عليَّ غضبك، أو تُنزل بي سخطك! أعوذ بك من زوال نعمتك، وَفُجَاءَة نقمتك، وتحوُّل عافيتك، وجميع سخطك، لك العُتْبَى عندي خير ما استطعت، لا حول، ولا قوَّة إلا بك» [عبد الرزاق في المصنف (9234)]. ووقف الرَّسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالحَزْوَرَة في سوق مكَّة، وقال: «والله إنَّكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخْرِجتُ منكِ ما خَرَجْتُ» [الترمذي (3925) وأحمد (4/305) وابن ماجه (3108)] . ثمَّ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه، وقد حفظهما الله من بطش المشركين، وصرفهم عنهما.
روى الإمام أحمد عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ المشركين اقتصُّوا أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلـمَّا بلغوا الجبل – جبل ثور – اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، فمرُّوا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت؛ فقالوا: لو دخل هاهنا، لم يكن نسج العنكبوت على بابه» [أحمد (1/348)]، وهذه من جنود الله – عزَّ وجلَّ – التَّي يخذل بها الباطل، وينصر بها الحق؛ لأنَّ جنود الله – جلَّت قدرته – أعمُّ من أن تكون مادِّيَّةً، أو معنويةً، وإذا كانت مادِّيَّة؛ فإنَّ خطرها لا يتمثَّل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيشٍ ذي لَجَبٍ. قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 31] . أي: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهيةٍ، لأنَّ مقدوراته غير متناهيةٍ، كما أنَّه لا سبيل لأحدٍ إلى حصر الممكنات، والوقوف على حقائقها، وصفاتها، ولو إجمالاً، فضلاً عن الاطِّلاع على تفاصيل أحوالها من كمٍّ، وكَيْفٍ، ونسبةٍ.
عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم
بالرَّغم من كلِّ الأسباب الَّتي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لم يركن إليها مطلقاً؛ وإنَّما كان كاملَ الثِّقة في الله، عظيم الرَّجاء في نصره، وتأييده، دائم الدُّعاء بالصِّيغة الَّتي علَّمه الله إيَّاها. قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 80].وفي هذه الآية الكريمة، «دعاء يعلِّمه الله لنبيِّه ليدعوه به، ولتتعلَّم أمَّته كيف تدعو الله، وكيف تتَّجه إليه؟ دعاء بصدق المُدْخَل، وصدق المُخْرَج، كنايةً عن صدق الرِّحلة كلِّها؛ بدئها، وختامها، أوَّلها، وآخرها، وما بين الأوَّل والآخر، وللصِّدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه؛ ليفتري على الله غيره، وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثَّبات، والاطمئنان والنَّظافة، والإخلاص. ﴿وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيرًا﴾، وهيبةً أستعلي بهما على سلطان الأرض، وقوَّة المشركين، وكلمة تصوِّر ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾، والاتِّصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرةً، واللُّجوء إلى حماه.
وصاحب الدَّعوة لا يمكن أن يستمدَّ السُّلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يُهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظلَّ بحاكمٍ، أو ذي جاهٍ، فينصره، ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدَّعوة قد تغزو قلوب ذوي السُّلطان، والجاه، فيصبحون لها جنداً، وخدماً، فيفلحون، ولكنَّها هي لا تفلح إن كانت من جند السُّلطان، وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السُّلطان، والجاه». وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأيَ العين؛ طمأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم الصِّدِّيق بمعيَّة الله لهما، فعن أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه قال: قلت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أنَّ أحدهم نظر تحت قدميه؛ لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم : «ما ظنُّك يا أبا بكر! باثنين الله ثالثُهما؟» [البخاري (3653) ومسلم (2381)]. وفي روايةٍ: «اسكت يا أبا بكر! اثنان الله ثالثهما» [البخاري (3922)] .
وسجّل الحقُّ – عزَّ وجلَّ – ذلك في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40] .
وقد تحدَّث الطَّبريُّ في تفسيره عن هذه الآية الكريمة، فقال: هذا إعلامٌ من الله لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم : أنَّه المتكفِّل بنصر رسوله على أعداء دينه، وإظهاره عليهم دونهم؛ أعانوه، أو لم يعينوه، وتذكيرٌ منه لهم بفعل ذلك به، وهو من العدد في قلَّةٍ، والعدوُّ في كثرةٍ، فكيف به؛ وهو من العدد في كثرةٍ؛ والعدوُّ في قلَّة؟! يقول لهم جلَّ ثناؤه: إلا تنفروا – أيُّها المؤمنون – مع رسولي؛ إذا استنصركم فتنصروه؛ فالله ناصره، بالله من قريش، من وطنه، وداره يقول: أخرجوه وهو أحد ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾، وإنَّما عنى جلَّ ثناؤه بقوله: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ الله (ﷺ)، وأبا بكرٍ رضي الله عنه؛ لأنَّهما كانا اللَّذين خرجا هاربين من قريش؛ إذ همُّوا بقتل رسول الله (ﷺ)، واختفيا في الغار، وقوله: (إذ هما في الغار) يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في الغار﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ يقول: إذ يقول الرَّسول لصاحبه أبي بكر: لا تحزن؛ وذلك: أنَّه خاف من الطَّلب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحزن؛ لأنَّ الله معنا، والله ناصرنا، فلن يعلم المشركون بنا، ولن يصلوا إلينا، يقول جلَّ ثناؤه: فقد نصره على عدوِّه وهو بهذه الحال من الخوف، وقلَّة العدد، فكيف يخذله، ويحوجه إليكم وقد كثَّر الله من أنصاره وعدد جنوده. [الطبري في تفسيره (10/135 – 136)] .
وقد تحدَّث الدكتور عبد الكريم زيدان، عن المعيَّة في هذه الآية الكريمة، فقال: «وهذه المعيَّة الرَّبانية المستفادة من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، أعلى من معيَّته للمتَّقين، والمحسنين في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128] ؛ لأنَّ المعيَّة هنا هي لذات الرَّسول، وذات صاحبه، غير مقيَّدةٍ بوصفٍ هو عملٌ لهما، كوصف التَّقوى، والإحسان؛ بل هي خاصَّةٌ برسوله، وصاحبه، مكفولةٌ هذه المعيَّة بالتأييد بالآيات، وخوارق العادات».
وتحدَّث صاحب الظِّلال عن هذه الآيات، فقال: «ذلك حين ضاقت قريش بمحمدٍ ذرعاً، كما تضيق القوَّة الغاشمة دائماً بكلمة الحقِّ، لا تملك لها دفعاً، ولا تطيق عليها صبراً، فائتمرت به، وقرَّرت أن تتخلَّص منه، فأطلعه الله على ما ائتمرت به، وأوحى إليه بالخروج وحيداً، إلا من صاحبه الصِّدِّيق، لا جيش، ولا عدَّة، وأعداؤه كُثُرٌ، وقوَّتهم إلى قوته ظاهرةٌ، ثمَّ ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلُّها من جانبٍ، والرَّسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه منها مجرَّد؟ كان النَّصر المؤزَّر من عند الله بجنود لم يرها النَّاس، وكانت الهزيمة لِلَّذين كفروا والذُّلُّ والصَّغار، ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى﴾، وظلَّت كلمة الله في مكانها العالي منتصرةً قويَّةً نافذةً. ذلك مثلٌ على نصرة الله لرسوله، ولكلمته، والله قادرٌ على أن يعيده على أيدي قومٍ آخرين؛ غير الَّذين يتثاقلون ويتباطؤون وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجةٍ بعد قول الله إلى دليلٍ!».
خيمة أم معبد في طريق الهجرة
وبعد ثلاث ليالٍ من دخول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الغار خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطَّلب، ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قلنا: إنَّ رسول الله (ﷺ) وأبا بكر، قد استأجرا رجلاً من بني الدَّيْل، يُسمَّى عبد الله ابن أريقط، وكان مشركاً، وقد أمِنَاهُ، فدَفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما، وقد جاءهما فعلاً في الموعد المحدَّد، وسلك بهما طريقاً غير معهودةٍ؛ ليخفي أمرهما عمَّن يلحق بهم من كفار قريش.
وفي الطريق إلى المدينة، مرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمِّ مَعْبَد في قُدَيْد حيث مساكن خزاعة، وهي أخت خُنَيْس بن خالدٍ الخزاعيِّ؛ الَّذي روى قصَّتها، وهي قصَّةٌ تناقلها الرُّواة، وأصحاب السِّير، وقال عنها ابن كثير: «وقصَّتها مشهورةٌ مرويَّةٌ من طرقٍ يشدُّ بعضها بعضاً»، فعن خالد بن خُنَيْس الخزاعيِّ رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكَّة، وخرج منها مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر، ومولى أبي بكرٍ عامر بن فهيرة رضي الله عنه، ودليلهما اللَّيثي عبد الله بن أريقط، مرُّوا على خيمة أمِّ معبد الخزاعيَّة، وكانت بَرْزَة، جَلْدَة، تحتبي بفناء القبَّة، ثمَّ تسقي وتطعم، فسألوها لحماً، وتمراً؛ ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مُرْمِلين مُسْنِتين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاةٍ في كَسْر الخيمة، فقال: «ما هذه الشَّاة يا أمَّ معبد؟!» قالت: خلَّفها الجَهْد عن الغنم، قال: «فهل بها من لبنٍ؟» قالت: هي أجهد من ذلك. قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» قالت: بلى بأبي أنت وأمِّي! نعم إن رأيت بها حَلْباً؛ فاحلبها!
فدعا بها رسول الله (ﷺ) فمسح بيده ضرعها، وسمَّى الله عزَّ وجلَّ، ودعا لها في شاتها، فتفاجَّت عليه، ودَرَّت، واجترَّت ودعا بإناءٍ يُرْبِضُ الرَّهط، فحلب فيها ثجّاً؛ حتَّى علاه البهاء، ثمَّ سقاها حتَّى رَوِيت، وسقى أصحابه؛ حتَّى رَوَوْا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم، ثمَّ أراضوا، ثمَّ حلب فيها ثانياً بعد بدءٍ حتَّى ملأ الإناء، ثمَّ غادره عندها، ثمَّ بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلَّما لبثت حتَّى جاء زوجها أبو معبد، يسوق أعنزاً عجافاً، يتساوَكن هُزلاً ضحىً، مخُّهنَّ قليلٌ، فلـمَّا رأى أبو معبد اللبن؛ عجب، وقال: من أين لك هذا اللَّبن يا أمَّ معبد! والشَّاة عازبٌ حِيال، ولا حَلُوبة في البيت؟ قالت: لا والله! إلا أنَّه مرَّ بنا رجلٌ مبارك، من حاله كذا، وكذا. قال: صفيه لي يا أم معبد! قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أَبْلَج الوجه، حسنُ الخَلْقِ، لم تَعِبْه نُحْلَة، ولم تُزْر به صَعْلةٌ، وسيمٌ، في عينيه دَعَجٌ، وفي أشفاره وَطَفٌ، وفي صوته صَهَلٌ، وفي عنقه سَطَع، وفي لحيته كثاثةٌ، أزجُّ، أقرن، إن صمت؛ فعليه الوقار، وإن تكلَّم سما وعلاه البهاء، أجمل النَّاس، وأبهاهم من بعيدٍ، وأحلاهم وأحسنهم من قريبٍ، حُلْوُ المنطق، فَصْلٌ، لا هذر، ولا نزر كأنَّ منطقه خرزات نظمٍ يتحدَّرن، رَبْعٌ، لابأس من طولٍ، ولا تقتحمه العين من قصرٍ، غُصْنٌ بين غصنين، فهو أنضر الثَّلاثـة منظراً، وأحسنهم قـدراً، لـه رفقـاء يحفُّون به؛ إن قال؛ استمعوا لقوله، وإن أمر؛ تبادروا إلى أمره، محْفُودٌ، محشودٌ، لا عابسٌ، ولا مُفنَّدٌ.
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش؛ الَّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكَّة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلنَّ إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. فأصبح صوتٌ بمكَّة عالياً، يسمعون الصوت، ولا يدرون مَنْ صاحبه، وهو يقول:
جَزَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جزائهِ رَفِيْقَيْنِ قالا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ هُمَا نَزَلا بالبِرِّ ثُمَّ تروَّحا فَقَدْ فازَ مَنْ أَمْسَى رَفِيْقَ مُحَمَّدِ فيا لَقُصَيٍّ ما زَوَى الله عَنْكُمُ بهِ مِنْ فِعَالٍ لا تُجَارَى وسُؤدُدِ لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَان فَتَاتِهِمْ ومَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنينِ بِمَرْصَدِ سَلُوا أختَكمْ عنْ شاتِهَا وإنَائِهَا فإنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَد دَهَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبتْ عَلَيْهِ صَرِيْحاً ضَرَّةُ الشَّاةِ مُزْبِدِ
"فغَادَرَهَا رَهْناً لَدَيْهَا لِحَالبٍ يُرَدِّدُهَا في مَصْدِرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ
سراقة بن مالك يلاحق رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعلنت قريش في نوادي مكَّة: أنَّه من يأتِ بالنَّبيِّ (ﷺ)، حيَّاً، أو ميتاً، فله مئة ناقةٍ، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب، الَّذين في ضواحي مكَّة، وطمع سراقة بن مالك بن جُعْشُم في نيل الكسب، الَّذي أعدَّته قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته الَّتي لا يغلبها غالب جعله يرجع مدافعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كان جاهداً عليه.
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرَّحمن بن مالك المُدْلِجيُّ – وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ -: أنَّ أباه أخبره، أنَّه سمع سراقة بن جُعْشُم يقول: جاءنا رُسُلُ كفَّار قريش، يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ ديةَ كلِّ واحدٍ منهما، لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلسٍ من مجالس قومي بني مُدْلِج؛ إذ أقبل رجلٌ منهم حتَّى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة! إنِّي قد رأيت آنفاً أَسْوِدةًبالسَّاحل، أراها محمَّداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفتُ: أنَّهم هم، فقلت له: إنَّهم ليسوا بهم، ولكنَّك رأيتَ فلاناً، وفلاناً، انطلَقوا بأعيننا، ثمَّ لبثتُ في المجلس ساعةً، ثمَّ قمتُ، فدخلتُ، فأمرتُ جاريتي أن تَخْرُجَ بفرسي – وهو من وراء أكمةٍ- فتَحْبِسَهَا عليَّ، وأخذت رُمْحي، فخرجت به من ظَهْر البيت، فخططت بِزُجِّهِ الأرضَ، وخَفَضْت عاليه، حتَّى أتيتُ فرسي فركبتُها، فرفعتُها (أي: أسرعت بها السَّير) تُقَرِّب بي، حتَّى دنوت منهم، فَعَثَرت بي فرسي، فخررتُ عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضُرُّهم، أم لا؟ فخرج الَّذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تُقرِّب بي، حتَّى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفتُ، وأبو بكر يكثر الالتفات، سَاخَتْ يدا فرسي في الأرض؛ حتَّى بلغتا الرُّكبتين، فخررتُ عنها، ثُمَّ زجرتها، فنهضتْ، فلم تكد تُخْرِجُ يديها، فلمَّا استوت قائمةً؛ إذا لأثر يديها عُثانساطعٌ في السَّماء مثلُ الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الَّذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي؛ حتَّى جئتُهم، ووقع في نفسي حين لَقِيتُ ما لَقِيتُ من الحبس عنهم، أن سَيظهرُ أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إنَّ قومك قد جعلوا فيك الدِّية، وأخبرتهم أخبار ما يريد النَّاس بهم، وعرضت عليهم الزَّاد والمتاع، فلم يَرْزاني، ولم يسألاني، إلا أن قال: أخْفِ عنا، فسألته أن يكتب لي كتابَ أمنٍ، فأمرَ عامرَ بن فهيرة، فكتب في رقعةٍ من أدَمٍ، ثُمَّ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم . [البخاري (3906) ومسلم (2009/91)] .
وكان ممَّا اشتهر عند النَّاس من أمر سراقة، ما ذكره ابن عبد البرِّ، وابن حجر، وغيرهما. قال ابن عبد البرِّ: روى سفيان بن عيينة عن أبي موسى، عن الحسن: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبستَ سواري كسرى؟!» قال: فلـمَّا أُتِيَ عمرُ بسواري كسرى، ومِنْطَقَته وتاجه؛ دعا سراقة بن مالكٍ، فألبسه إيَّاها، وكان سراقة رجلاً أزَبَّ كثير شعر السَّاعدين، وقال له: ارفع يديك، فقال: الله أكبر، الحمد للهِ الَّذي سلبهما كسرى بن هُرْمز، الَّذي كان يقول: أنا ربُّ النَّاس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ أعرابيَّاً من بني مُدْلِج، ورفع بها عمر صوته، ثمَّ أركب سُراقة، وطوَّف به المدينة، والنَّاس حوله، وهو يرفع عقيرته مردداً قول الفاروق: الله أكبر، الحمد للهِ الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جُعْشُمٍ أعرابيّاً من بني مُدْلِج.
سبحان مقلِّب القلوب
كان سراقة في بداية أمره يريد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسليمه لزعماء مكَّة؛ لينال مئة ناقة، وإذا بالأمور تنقلب رأساً على عَقِب، ويصبح يردُّ الطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يلقى أحداً من الطَّلب إلا ردَّه، قائلاً: كُفيتم هذا الوجه، فلـمَّا اطمأنَّ إلى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وصل إلى المدينة المنوَّرة، جعل سراقة يقصُّ ما كان من قصَّته، وقصَّة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة؛ حتَّى امتلأت به نوادي مكَّة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سبباً لإسلام بعض أهل مكَّة، وكان سراقة أمير بني مُدْلِج، ورئيسهم، فكتب أبو جهل إليهم:
بني مُدْلِجٍ إنِّي أخاف سَفيهَكُمْ سراقةَ مستغوٍ لِنَصْرِ مُحَمَّدِ عَلَيْكُمْ به ألاَّ يُفَرِّقَ جَمْعَكُمْ فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عِزٍّ وسُؤْدُدِ
فقال سراقة يردُّ على أبي جهلٍ:
أبا حَكَمِ الَّلاتِ لوْ كنتَ شاهداً لأَمرِ جَوَادِي إذْ تسيخُ قَوائِمُهْ عَجِبْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بأنَّ مُحَمَّداً رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ عَلَيْكَ فكُفَّ القَوْمَ عَنْهُ فإنَّنِي أَرَى أَمْرَهُ يَوْماً سَتَبْدُو مَعالِمُهْ بأَمْرٍ تَوَدُّ النَّاسُ فِيْهِ بأَسْرِهِمْ بأنَّ جَمِيْعَ النَّاسِ طُرّاً مُسَالِمُهْ
استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم
«ولـمَّا سمع المسلمون بالمدينة مَخْرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكَّةَ، فكانوا يغدون كلَّ غداةٍ إلى الحَرَّة فينتظرونه، حتَّى يردَّهم حرُّ الظَّهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، فلـمَّا أَوَوْا إلى بيوتهم؛ أوفى رجلٌ من يهود على أُطُمٍ من آطامهم، لأمرٍ ينظر إليه، فبصُرَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضين، يزولُ بهم السَّرابُ، فلم يملكِ اليهوديُّ أن قال بأعلى صوته: يا معاشرَ العرب! هذا جَدُّكم الَّذي تنتظرونَ، فثار المسلمون إلى السِّلاح، فتلقَّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحَرَّة، فعدل بهم ذات اليمين، حتَّى نَزَل بِهِم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأوَّل، فقام أبو بكر للنَّاس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار – ممَّن لم يَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم – يُحَيِّي أبا بكرٍ، حتَّى أصابت الشَّمْسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتَّى ظلَّلَ عليه بردائه، فعرف النَّاس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضعَ عَشْرَةَ ليلةً، وأُسِّسَ المسجدُ الذي أُسِّسَ على التَّقوى، وصلَّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ركب راحلته» [البخاري (3906)] .
وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم المدَّة الَّتي مكثها بقُباء، وأراد أن يدخل المدينة؛ «بعث إلى الأنصار» فجاؤوا إلى نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فسلَّموا عليهما، وقالوا: اركبا آمِنَيْن مُطَاعَيْن، فركب نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وحَفُّوا دونَهما بالسِّلاح». وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قيل في المدينة: «جاء نبيُّ الله، جاء نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فأشرفوا ينظرون، ويقولون: جاء نبيُّ الله» [البخاري (3911)].
فكان يوم فرحٍ وابتهاجٍ، لم ترَ المدينة يوماً مثله، ولبس النَّاس أحسن ملابسهم، كأنَّهم في يوم عيدٍ، ولقد كان حقّاً يوم عيدٍ؛ لأنَّه اليوم الَّذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيِّز الضَّيِّق في مكَّة، إلى رحابة الانطلاق والانتشار، بهذه البقعة المباركة (المدينة)، ومنها إلى سائر بقاع الأرض، لقد أحسَّ أهل المدينة بالفضل الَّذي حباهم الله به، وبالشَّرف الَّذي اختصَّهم به أيضاً، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام، كما أصبحت موطناً للنِّظام الإسلاميِّ العامِّ، والتَّفصيليِّ بكلِّ مقوِّماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهلِّلون في فرحٍ وابتهاجٍ، ويقولون: يا رسول الله! يا محمد! يا رسول الله! روى الإمام مسلمٍ بسنده، قال: «عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ صعد الرِّجال، والنِّساء فوق البيوت، وتفرَّق الغِلْمَان، والخدم في الطُّرق، ينادون: يا محمد! يا رسول الله! يا محمَّد! يا رسول الله!!» [مسلم (3014/م)] .
وبعد هذا الاستقبال الجماهيريِّ العظيم؛ الَّذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانيَّة سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى نزل في دار أبي أيوبٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه، فعن أنسٍ رضي الله عنه في حديث الهجرة الطَّويل: «فأقبل يسيرُ حتَّى نزل جانب دار أبي أيوب، فإنَّه ليُحَدِّثُ أهلَه؛ إذ سمع به عبد الله بن سَلاَم، وهو في نخلٍ لأهله يَخْتَرِف لهم، فعجَّل أن يضع الَّذي يَخْتَرِف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ رجع إلى أهله، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ بيوتِ أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبيَّ الله! هذه داري، وهذا بابي، قال: فانَطَلِقْ فهيىءْ لنا مقيلاً….» [البخاري (3911)]، ثمَّ نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوبٍ حتَّى بنى مسجده، ومساكنه.
وبهذا قد تمَّت هجرته صلى الله عليه وسلم، وهجرة أصحابه رضي الله عنهم؛ ولم تنته الهجرة بأهدافها، وغاياتها، بل بدأت بعد وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً إلى المدينة، وبدأت معها رحلة المتاعب، والمصاعب، والتَّحدِّيات، فتغلَّب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم للوصول للمستقبل الباهر للأمَّة، والدَّولة الإسلاميَّة؛ الَّتي استطاعت أن تصنع حضارةً إنسانيَّةً رائعةً، على أسس من الإيمان، والتَّقوى، والإحسان، والعدل بعد أن تغلَّبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان العالم، وهما: دولة الفرس، ودولة الرُّوم.