مكتبة قطر الوطنية
في غرفة الاجتماع في مؤسّسةٍ عربيّة في دولةٍ عربيّةٍ كانوا فريقين؛ الفريق الأول مكوّن من العرب ويريد أن يعقد اتفاقا مع إحدى المؤسسات العربية، وفريق المؤسسة المضيفة مكون من العرب أيضا باستثناء مديرة مكتب رئيس المؤسسة؛ وعند البدء أُعلن أنّ لغة الاجتماع هي الإنجليزيّة! قصّة قصيرة ليست من محض الخيال!
الاجتماع الذي يضمّ غالبية عربية من مؤسستين عربيّتين وعلى أرض عربيّة تُفرَضُ عليه لغة أجنبية للتواصل والعمل وإبرام الاتفاقات!
إنّها غربة اللغة؛ التوصيف الأدقّ لهذا المشهد الذي يمثل نموذجا لما تعيشه العربيّة في أوطانها وبين أبنائها؛ غربة اللغة العربية التي قال في وصفها المستشرق الفرنسي أرنست رينان المعروف بشدة عدائه للعرب ولغتهم في كتابه (التاريخ العام للغات السامية ونسقها المقارن): "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حلّ سرّه؛ انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء".
ويتابع "فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسةً أيّة سلاسة، غنيةً أي غنى، كاملةً لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة". وقال أيضا: "ما عهدت قط فتوحا أعظم من الفتوح العربية، ولا أشد سرعة منها؛ فإن العربية -ولا جدال- قد عمت أجزاء كبرى من العالم، ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة، أو لسان فكر ديني أو سياسي".
مظاهر غربة اللغة العربية بين أهلها وأسبابها
إنّ غربة اللغة العربية عن مجتمعاتنا العربية غدت من الظواهر التي لا تخطئها عين متابع، ويتمعّر لها وجه كلّ مخلص لأمته ووطنه ودينه، وتتجلّى هذه الغربة في صور شتى؛ منها عدم استعمالنا للغة العربية الفصيحة في أحاديثنا اليومية وفي ارتباطنا وتواصلنا مع المجتمع من حولنا، وكذلك الأمر في تحصيل المعرفة في بعض المجالات التقنية الحديثة التي تنفرد بها اللغات الأجنبية.
ويعكس هذا الأمر رغبة عالمية بتنحية العرب عن المشاركة في هذه المساقات العلمية، ويترافق ذلك أحيانا بخلق نظرة استصغار لها لدى أبنائها الذين لم يتعرفوا إليها حق المعرفة، وهذا أمر مؤسف حقيقة. أضف إلى ذلك تنمّر المجتمع واستهزاءه بمن يحاول أن يتحدث بالفصحى، ويسعى لممارستها مع أبنائه في البيت وخارجه.
ومن المظاهر أيضا انتشار اللافتات التعريفية بالمحلات التجارية والمؤسسات العاملة باللغات الأجنبية واعتبار ذلك ضربا من الرقي والتحضر، ومن المظاهر والأسباب أيضا انتشار العامية في البرامج الإعلامية والمسلسلات والبرامج المختلفة لا سيما الخاصة بالأطفال.
ومن أسباب هذه الغربة التعليم الذي بدأ يعطي مظلة لانتشار المدارس الأجنبيّة والدولية التي تعتمد اللغة الإنجليزيّة وتنحي العربية عن مناهجها كليا، وتقديمها بوصفها المؤسسات الأكثر مكانةً ورقيًّا في مجال التعليم وبناء الأجيال، بل صار بعض الآباء والأمهات يتفاخرون أمام أقرانهم أنّ أبناءهم لا يعرفون العربية وأنهم لا يتحدثون بينهم إلا باللغة التي يتلقونها في مدارسهم الدولية.
وفي كتابه "اللغة الباسلة" يؤكد المرحوم الدكتور فتحي جمعة أستاذ علم اللغة السابق بكلية دار العلوم أنّ مدارس اللغات من غرس المحتل، وأنها أدّت دورا كبيرا في غياب الفصحى وإبعادها عن الحياة الطلابية.
ويذكر في كتابه أنّ إحدى المدارس الخاصة بالإسكندرية دعت أولياء الأمور إلى الاجتماع، وطلبت منهم منع أطفالهم التلاميذ من الحديث باللغة العربية في المنزل، ومعاقبتهم على ذلك عن طريق الحرمان من المصروف إذا ارتكبوا جريمة التحدث بالعربية، ونطقوا في حياتهم اليومية بغير الإنجليزية!
منهجيات لتدارك غربة العربية بين أبنائها
إن نقطة البدء بمعالجة هذه الغربة هو الشعور بوجودها فعلاً وخطورتها على هوية الأجيال والأوطان، ثم الانعتاق من سطوة الغالب ونفسية المغلوب، وقد أكّد ابن خلدون في مقدمته أن: "غلبة اللغة بغلبة أهلها، وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم".
ومن هنا يتبين لنا الدور الكبير الذي يلقى على عاتق الإعلام وبرامجه في تحبيب العربية وتقريبها للناس جميعا، صغارا وكبارا، ففي الآونة الأخيرة انتشرت كثير من برامج الأطفال الكرتونية والبرامج الترفيهية أيضا التي تعتمد اللهجات العامية في الحوارات والأحاديث، والهدف من ذلك التأثير في المتلقي وإشعاره بقرب المقدم منه واستعماله لألفاظه التي يستخدمها في حياته اليومية وتراكيبه اللغوية العامية التي تتميز بها لهجته، فيتلقى المستمع والمشاهد ما يقوله هذا المتحدث بدفء وقبول أكثر.
وينسحب الأمر نفسه نحو المنشورات التي تكتب وتنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يذهب معظم المؤثرين إلى استعمال اللهجات فيما يكتبونه، قد يُعزَى ذلك إلى ضعفهم في التعبير بالفصحى، وقد يُعزَى إلى رغبتهم باستقطاب السواد الأعظم من الناس الذين تبدو لهم العامية أسهل وأقرب، لكن ذلك ليس سببا كافيا ولا يسوغ اعتماد العامية واللهجات وتهميش الفصحى تهميشا كاملا!
وعلى الرغم من أن مثل هذه البرامج لاقت رواجا لدى عامة الناس، فإنها تسيء للغتنا العربية الفصيحة حين تزيد اغترابها عن أبنائها، وتخلق مسافة بينها وبينهم بوصفها لغة الكتب والتحصيل الأكاديمي فحسب! والحل هو أن تكون هذه البرامج بنسبة معينة لا تطغى على وجود العربية الفصحى.
وفي هذا السياق فإن بعض القنوات التلفزيونية والإخبارية -كالجزيرة مثلا- تمثل نموذجا متقدما فيما تبذله من جهود حثيثة لتوثيق العلاقة بين اللغة العربية وأبنائها، لا سيما بعد انتشار ما يؤدي بالضرورة إلى إفقاد الجيل الناشئ حاسة التذوق اللغوي، فيستحسنون ما لا ينبغي استحسانه ويستوحشون مما ينبغي أن تتلقاه أسماعهم بقرب وجمال، وما ينبغي أن تستقبله أذهانهم وقلوبهم بدفء وقبول حسن.
ومن الوسائل المهمة للانعتاق من غربة العربيّة الارتباط بالقرآن الكريم حفظا وترتيلا باللسان وتعلّمه في حلقات التحفيظ، ولنا في قصة الوليد بن المغيرة عبرةً؛ حين سمع آيات من القرآن الكريم فأعجب بما سمعه أيما إعجاب، وكأنه سحر لغوي بديع نزل على قلبه وعقله، وذلك لسلامة ذوقه اللغوي والأدبي، فقال قولته الشهيرة: "والله لقد سمعتُ منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغدِق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر".
لكنه أبى واستكبر ورجح الجهالة والبقاء على دين آبائه للإبقاء على نفسه وجاهه بين قومه وإرضائهم. على أن ما يعنينا من هذه القصة هو حسه اللغوي العالي الذي ما كان ليكتسبه هو وأبناء جيله من العرب آنذاك لولا سلامة العربية وفصاحتها وجريانها على ألسنتهم ودورانها على أسماعهم بأجمل ما يكون من حلل أدبية وشعرية نفيسة.
ولكي يكتسب أبناؤنا هذه الحاسة الذوقية اللغوية يجب أن يبقوا في معرض السمع والاستماع للغة العربية الصحيحة السليمة الفصيحة، ويجب أن يقرؤوا، لا سيما في ظل هذا الغزو الثقافي واللغوي الذي يتعرضون له في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي واقعهم المعاش.
ناهيك بفكرة ميل بعض الباحثين والأكاديميين إلى تدريس اللهجات العربية الحديثة وتأليف كتب حولها، بحجة أنها تفيد غير الناطقين بالعربية في مجالات العمل والتجارة والسياحة، وأرى أن ذلك ليس صائبا، بل إنّ تمكين العربيّة لتكون اللغة الرئيسة في مناهج التدريس كلها في المدارس الحكوميّة والخاصة، وزيادة عدد الحصص الدراسية الخاصة باللغة العربية وإفراد حصص خاصة بالمحادثة والتذوق اللغوي؛ لهو من الأهمية بمكان لمواجهة غربة اللغة عن أبنائها.
وليتنا نتمثل قول مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- في "وحي القلم" عن أهمية اللغة وارتباطها بعزة شعبها، إذ قال: "ما ذَلّت لغةُ شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطَّت إلا كان أمرُهُ في ذهابٍ وإدبارٍ".
و"تحت راية القرآن" يقول فيه "إنما اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة… فكيفما قلَّبتَ أمر اللغة -من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها- وجدتَها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها".