مفهوم علم أصول النحو



تعريف عِلم أصول النّحو
أُخذت كلمة (الأصول) في أصلها الّلغويّ من المادّة الّلغويّة (أصل)، وأصلُ الشّيء أسفله، والقصد في أسفل الشّيء هو الأساس الذي يتفرّع منه ومبدؤه الأوّل، وهذا ما ورد في مُعجميّ (لسان العرب) و(القاموس المُحيط)، بالإضافة إلى ما جاء في مُعجم (الوسيط) إذ زيد على ما ورد أنّ مُفردة الأصول المُرتبطة بالعُلوم هي مجموعة القواعد التي تُبنى من خلالها الأحكام المُتعلّقة بالعِلم، أمّا في اصطلاح الّلغة فقد ذكر الفقيه محمّد الخضريّ في كتابيه (أصول الفقه)، و(علم أصول الفقه) أنّ مفهوم عِلم الأصول يتمثّل في كونه عِلماً يبحث في قواعد معيّنة يتمّ فيه استنباط الأحكام الفرعيّة الخاصّة بذلك العِلم، ومن هُنا يُمكن اعتماد تعريف مُصطلح "عِلم أصول النّحو"، تبعاً للأنباريّ الذي قال في كتابه (لمع الأدلّة) بأنّه العِلم الذي يتناول الأدلّة النّحويّة التي تمّ تحليلها من فروع النّحو وفُصوله.

العلاقة بين عِلم النّحو وأصول النّحو
يُمكن توضيح العلاقة بين عِلم النّحو وعِلم أصول النّحو، من خلال معرفة الأمور التي يبحث فيها كلّ واحدٍ منهما، فعِلم النّحو هو العِلم الذي يتناول القواعد والمقاييس التي تمّ استنباطها من الكلام العربيّ الفصيح، كما عرّفه ابن السّرّاج حين قال بأنّه العِلم الذي استخرجه المُتقدِّمون بناءً على دراستهم لكلام العرب، أمّا عِلم أصول النّحو فهو العِلم الذي يبحث في الأدلّة النّحويّة الأساسيّة لاستخراج الأحكام والقواعد الفرعيّة لعلم النّحو، مما يقود إلى فهم العلاقة القائمة بين العلمين، والتي تصنّف على أنّها علاقة مبنيّة على التّكامل، فحتّى يتمّ وضع القواعد والأحكام المتّبعة في علم النحو يلزم اسنادها إلى أدلّة أصوليّة وضعها النُّحاة أثناء دراستهم لفروع النّحو، ومن خلال هذه القواعد الأصوليّة الأساسيّة يتمّ بناء عِلم النّحو العربيّ بفروعه وفصوله، فعلم أصول النحو هو المعيار والميزان القويم الذي يقوم عليه علم النحو.

نشأة وتاريخ ظهور عِلم أصول النّحو
بدأ عِلم أصول النّحو على هيئة غير مُنفصلة عن علوم الّلغة العربيّة الأخرى، فلم يكن هُناك تمييز بينه وبين علوم النّحو، أو البلاغة، أو التّصريف، أو العروض، وغيرها من العلوم، ومع تطوّر عمليات التّأليف لاحقاً بدأتْ العُلوم تُفصّل وتُميّز بشكل مُستقلّ، أمّا بخصوص عِلم أصول النّحو فقد فصّل أبو بكر بن السّرّاج مسائله ومحّص الدّقائق الواردة فيه، وهذا ما جعل لكِتابه (أصول النّحو) دوراً كبيراً في هذا العِلم، بالإضافة إلى إشارته فيه إلى أقسام العِلل النّحويّة، والضّرورة الشِّعريّة، كما أضاف كِتاب (الإيضاح في عِلل النّحو) للزّجاجيّ الكثير لهذا العلم، إذ حوى تفصيلاً للعِلل النّحويّة، كما قَدِم بعدهما أبو الفتح ابن جنّيّ صاحب كِتاب (الخصائص)، والذي يُعتبر أوّل المُشيرين إلى هذا العِلم، والحاثيين على تحريره فبحث فيه وطوّره، وقال في كتابه الخصائص حول هذا: "وذلك أنّا لم نجد أحداً من عُلماء البَلدَين تعرض لعِلم أصول النّحو"، وقصد بالبلدين مدينتيّ البصرة والكوفة، واسترسل مُبدياً رأيهُ في كتاب ابن السّراج قائلاً: "فأمّا كِتاب أبي بكر بن السّرّاج، فلم يُلملِم فيه بما نحن عليه إلّا حرفاً أو حرفيْن في أولّه"، ويجب التّنويه أنّ ابن الجنّيّ كان قد أورد العديد من الأدلّة النّحويّة في أصول النّحو، مِثل القياس، والسّماع، والإجماع، والتّعليل.
تلاحَق العُلماء بعد ابن السرّاج وابن جنّي، فكان منهم الأنباريّ الذي ألّف كِتابيْ (لمع الأدلّة)، و(الإغراب في جدل الإعراب)، ثمّ تلاه بعد عدّة قرون الإمام السّيوطيّ الذي ألّف كِتاب (الاقتراح)، والذي يُعدّ كتاباً جامعاً لأصول النّحو، إذ لم يقتصر الكِتاب على المادّة العِلميّة الخاصّة بأصول النّحو فقط إنّما أضاف إليه العديد من المباحث الدّقيقة التي قام بتحليلها ودراستها، وتجب الإشارة إلى أنّ أصول النّحو بدأت بالظّهور بالتّزامُن مع ظهور النّحو، ويقول فاضل السّمرائيّ بهذا الخصوص أنّ عِلم أصول النّحو قديم حاله حال عِلم النّحو، ويُعلِّل علاقة وجودهما معاً بأنّ القبول، والتّرجيح، والرّفض والقياس للقواعد الخاصّة بالنّحو، كان لا بُدّ لها من أصول مكتوبة، أو أن تكون معلومة لدى عُلماء النّحو، كما ذكر أنّ كِتاب سيبويه المُسمّى (الكتاب)، مليء بالأصول النّحويّة، ويُذكر أنّ الكاتبة خديجة الحديثيّ أشادتْ بالكتاب فقالت أنّه "من أوائل كُتب النّحو تأليفاً، قد بُنيتْ قواعده على هذه الأصول المنهجيّة".

علاقة عِلم أصول النّحو بعِلم أصول الفقه
يُمكن توضيح العلاقة بين عِلميّ أصول الفقه، وأصول النّحو من خلال الرّجوع إلى تعريف كلّ واحدٍ منهما، فعِلم أصول الفقه هو العِلم الذي يبحث في القواعد التي يتمّ من خلالها استخراج الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة من الأدلّة، وهذا ما يجعل الأصوليّ يبحث في الأدلّة الكُليّة، أمّا الفقيه فهو الباحث في الأدلّة التّفصيليّة، أمّا أصول النّحو -كما ذُكِر سابقاً- تُعنى بأدلّة النّحو الكُليّة التي جاءت منها فروعه، وبالنّظر إلى التّعريفيْن يُمكن الاستنتاج أنّ المبدأ واحد لكليهما، فكلمة الأصول إذ اتّصلت بعلم ما عَنت البحث في الأدلّة العامّة للعِلم التي يتمّ من خلالها التّوصل إلى العِلم الأصليّ وفروعه، ثمّ يأتي العِلم ليُفصّل في أدلّته الجزئيّة، وهذا هو موضع التّشابه بينهما، أمّا موضع الاختلاف فيكمُن في طبيعة المواضيع التي يتناولها كلّ عِلم، وتجب الإشارة إلى وجود رابطة اللغة العربية رغم اختلاف المواضيع، فالعالِم بأصول الفقه وجب أن يكون مُلمّاً في قواعد الّلغة العربيّة، وقد أكّد الإمام (ابن حزم) ذلك بقوله: "لا بُدّ للفقيه أن يكون نحويّاً لغويّاً، وإلّا فهو ناقص"، فعلى الفقيه أن يكون ملمّاً بما يعينه على فهم خطابات النّاس، ومعرفة عاداتهم وما تعارفوا عليه من الكلام ليستطيع التمييز بين ظاهر الكلام وباطنه، والابتعاد بذلك عن مواطن الزّلل.
أشار السّبكيّ علي بن عبد الكافي في كتابه (الإبهاج في شرح المنهاج) إلى أنّ الأصوليّين من أهل الفقه تفوّقوا على عُلماء النّحو والّلغة في دراستهم لأصول النّحو في بعض الأحيان، حيث توسّعوا في دراستهم لكلام العرب وتحليلهم للمعاني الدّقيقة للألفاظ، فكُتب الّلغة جاءت تضبط المُفردات مع معانيها الظّاهرة فقط، أمّا أهل أصول الفقه فقد كانوا بحاجة إلى دراسة ما هو أبعد من الظّاهر الّلغويّ لفهم النص بكل تفاصيله، ومن الشّواهد على هذا دلالة الوزن الصّرفيّ (أفعل) على حُكم "الوُجوب"، ودلالة (لا تفعل) على حُكم "التّحريم" على سبيل المثال لا الحصر، كما يجب التّنويه أنّ الأصوليّين من أهل النّحو وضعوا العديد من القواعد الأصوليّة التي وضعها أهل أصول الفقه مِثل السّماع، والقياس، والاجتهاد، والحال، والاستصحاب، وغيرها، وبالنّظر إلى العِلمين يُلاحظ تأثُّر كلّ واحدٍ منهما بالآخر، فمن الأمثلة الواضحة على هذه العلاقة التّبادليّة أنّ التّقسيمات والتّعريفات والمُصطلحات الواردة في أصول النّحو تُظهر تأثراً كبيراً في عِلم أصول الفقه، والأمرُ ذاته في الدّراسات النّحويّة والّلغويّة المُختلفة التي أخذتْ منها الدّاراسات الفقهيّة، ويجب التّنويه إلى أنّ اعتناء الأصوليّين من أهل الفقه بالنّصوص، من خلال الجمع والبحث والتّحليل الذي جاء لاهتمامهم في سلامتها جعل عُلماء النّحو يتتبّعون هذا المنهج، وذلك تحت عنوان "الجمع بين الرّواية والدِّراية".

أقسام أصول النّحو
قسّم الأصوليّيون من أهل النّحو أصول النّحو إلى قسمين، هما:

أصول النّحو الغالبة
يُقال عن الأصول التي غلب على الأصوليّين الأخذ بها بأنّها أصول النحو الغالبة، إذ يتمّ اعتمادها لضبط قواعد الّلغة العربيّة، وهي أربعة كالآتي:

  • السّماع: يُسمّى السّماع عند بعض أهل أصول النّحو بالنّقل، والمقصود فيه الكلام الذي لا اختلاف فيه، ولا شّك في فصاحته، ويتمثّل هذا الكلام بالقرآن الكريم، والحديث النّبويّ، والشِّعر، كذلك النّثر، والأمثال العربيّة، وغيرها، ويُؤكّد السّيوطيّ في كتابه (الاقتراح) مفهوم السّماع بقوله: "وأعني به ما ثبتَ في كلام من يُوثق بفصحاته"، ويجب الإشارة إلى أنّ الأصوليّيون قد اتّفقوا على القرآن الكريم في كونه الأفصح في الكلام، ولكونه محفوظ عن التّحريف بالزّيادة أو النّقصان، إلّا أنّهم اختلفوا في البقيّة.
  • القياس: يشار إلى استخراج حُكم للفرع قياساً على الأصل بشرط وجود عِلة مُشتركة بينهما يتمّ الأخذ به على أساسها بالقياس، وهذه الأركان الثّلاثة (الفرع، والأصل، والعِلّة) هي أركان القياس المُعتمدة، والجدير بالذِّكر أنّ ابن حزم وابن مضاء وغيرهما لم يأخذوا بالقياس، إلّا أنّ الأدلّة التي دفعت العُلماء للأخذ به أقوى من أدلّة من لا يأخذون له.
  • الإجماع: يقتضي الإجماع اتّفاق عُلماء النّحو البصريّين والكوفيّين في مسألة مُعيّنة، أمّا في حالة كان الإجماع على شيء يُخالف النّقل أو القياس لا يُؤخذ به، ولا يكون حينها حُجّة أصوليّة تبعاً لما قاله ابن جنّي.
  • استصحاب الحال: يعني استصحاب الحال احتفاظ اللفظ بأصله ما لم يدّل على غير ذلك دليل، مِثل القاعدة التي تقول: "الأصل في الأشياء الإباحة".

أصول النّحو غير الغالبة
يُشار إلى الأصول النّحويّة التي اختلف الأصوليّيون فيها بمسمّى أصول النحو غير الغالبة، فمنهم من يرى ضرورة إلحاقها بالأصول الغالبة، وهذا ما فعله الإمام ابن الأنباريّ الذي ألحق كل من الاستدلال بالأولى، والنّظير، والعِلّة، والاستحسان، والعكس وغيرها بالاستدلال بالقياس، وتكمن أهميّة الأدلّة الأصوليّة غير الغالبة في عدم إلمام الأدلّة الغالبة بالمطلوب دائماً، فالأدلّة غير الغالبة تزيد من آفاق أصول النّحو حيث يتمّ الرّجوع إليها في حالة عدم القدرة على إيجاد القاعدة الّلغويّة أو ضبطها.
وفيما يلي بعض الأدلّة الأصوليّة غير غالبة:

  • الاستقراء.
  • الاستحسان.
  • عدم الدليل على نفيه.
  • الدليل المسمّى بالباقي.
  • السِّبر والتّقسيم.
  • الاستدلال بالعكس.
  • الاستدلال ببيان العِلّة.
  • عدم النظير.

أهميّة عِلم أصول النّحو
تتمثّل أهميّة عِلم أصول النّحو في في كونه الأساس الذي بُني عليه عِلم النّحو، فالنّحو منذ بداية نشأته كان قد وُضع بناءً على قواعد وأسس اعتمدها العُلماء بعد دراستها وتحليلها، ثمّ ساروا عليها وألزموا من بعدهم بها، فالعالِم بأصول النّحو المُتمثّل بأدلّته التّفصيليّة سيكون عالِماً بالضّرورة بالأحكام النّحويّة الفرعيّة، وما كان عِلم أصول النّحو موجوداً إلّا ليقوم بتهذيب عِلم النّحو وفروعه وأصوله، والحُكم على صحّة ما يجوز من الأحكام الفرعيّة بالاستعانة بمرجع أصليّ أساسيّ، فهذا العلم يُمكّن العالم فيه من إصدار الأحكام بناء على بصيرة ودلائل راسخة.
تجب الإشارة إلى أنّ عِلم أصول النّحو يتّصل اتّصالاً وثيقاً بالعلوم الشّرعيّة والّلغويّة، وهذا ما يزيد من أهميّته، فالعِلم بأصول النّحو واجبٌ على الفقيه، بل شرط أساسيّ لتمكّنه من الفقه، كما تظهر أهميّته في الفقه من خِلال توجيه أصول الفقه، ومسائله، بالإضافة إلى وجود علاقة تربط بين علم أصول النّحو وعِلم أصول المنطق رغم وجود بعض المُعاصرين من عُلماء الّلسانيّات الوصفيّين الّذين شككوا بذلك، وكذلك الصّلة بين أصول النّحو وأصول الفقه أيضاً.

مؤلّفات تخصّ عِلم أصول النّحو
فيما يلي مجموعة من المراجع التي يُمكن الاستعانة بها لمعرفة المزيد عن عِلم أصول النّحو:
اسم المرجع المؤلّف
الجُمل في النّحو. الخليل بن أحمد الفراهيديّ.
الكتاب. سيبويه.
كتاب المقتضب محمد بن يزيد المبرّد.
الأصول في النّحو. أبو بكر محمد بن السّرّاج.
عِلل النّحو. محمد بن عبد الله بن الورّاق.
تداخل الأصول الّلغوية وأثره في بناء المعجم. عبد الرّزاق بن فراج الصّاعديّ.
الاقتراح في أصول النّحو. جلال الدّين السّيوطيّ.
الخصائص. أبو الفتح عثمان بن جنّيّ.