نشأة علم البلاغة



تعريف البلاغة
تُعرّف البلاغة لغةً حسب ما ورد في المعاجم اللغويّة بأنّها مصدرٌ مشتق من الجذر الثلاثي (بلغَ) بمعنى وصل، وهي تعني أيضاً التحدث بلغةٍ تتصف بالفصاحة والقوة بما يتلاءم مع واقع الحال، أمّا معناها الاصطلاحيّ فهي مجموعة من القيّم الجماليّة، والقواعد الفنيّة التي يُمكن من خلالها الحكم على النصوص الأدبيّة من ناحية التميّز والجودة أو الضعف والرداءة، ولقد وردت عن علماء اللغة أقوالٌ متنوّعة في تعريف البلاغة، وكان من أبرزها قول الجاحظ الذي عرّف البلاغة في كتابه (البيان والتّبيين) بأنّها: "الإيجاز في غير عَجْز، والإطناب في غيْر خَطّل.."، وقال أيضاً: "إنّ الكلام لا يستحق اسم البلاغة حتى يسبق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى السمع أسبق من معناه إلى القلب"، وإشارة أبي هلال العسكري في كتابه "الصناعتيْن" إلى ضرورة معرفة علم البلاغة حتى يتمكّن الكاتب من فهم إعجاز القرآن الكريم الذي امتاز بخصائص فنيّة عدّة كان من أهمها: قوة التراكيب، وجماليّة التأليف، أضف إلى ذلك ما خصّه الله تعالى به من فن الإيجاز.

لمعرفة المزيد من التفاصيل عن علم البلاغة يرجى قراءة المقال الآتي: ما_هو_علم_البلاغة.

نشأة علم البلاغة
استقرّ علم البلاغة على يديّ أبي يعقوب السكاكي ومدرسته، ولم يطرأ أي تغيير أو تطوّر عليه منذ بداية القرن السابع الهجري، وقد شمل هذا الاستقرار العلوم الثلاثة التي كانت مرتبطة به، وهي: علم البيان، وعلم البديع، وعلم المعاني، وأيضاً الفنون الأخرى التي تفرّعت عن هذه العلوم، إضافة إلى مناهج البحث البلاغي والأساليب البلاغيّة التي كانت تنهج النهج نفسه الذي أسسه السكاكي وسار عليه تلاميذه من بعده، ومن الجدير بالذكر أنّ التطوّر الوحيد الذي طرأ على علوم البلاغة في تلك الفترة هو استحداث فنون أخرى من الفنون التي تنتمي إلى علوم البلاغة الثلاثة، وخاصة علم البديع الذي نتجّ عنه فروع عدّة.
كانت البلاغة العربية قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه من حالة الثبات والاستقرار قد مرّت بفترة زمنيّة طويلة استغرقت أربعة قرون، فقد نشأت في بداية القرن الثالث الهجري، وكانت ملامحها في البداية بسيطة ومتواضعة وفي الوقت نفسه تابعة للعلوم الأخرى، وفي نهاية الأمر تبلّورت هذه الملامح واتّضحت معالمها وأصبحت تشكّل عِلماً مستقلاً له مؤلفاته التي تتبنى القضايا الخاصة به، وقد مرّت البلاغة خلال هذه الفترة بثلاث مراحل لكن كان من الصعوبة تحديد بداية ونهاية كل مرحلة بشكل دقيق؛ مما أدّى إلى تداخلها مع بعضها بعضاً إلى الحدّ الذي جعل بداية مرحلة من المراحل تختلط بنهاية المرحلة التي سبقتها، وأحياناً نجد في واحدة منها بعض المؤلفات التي تندرح في سماتّ المرحلة التي سبقتها، ورغم هذا يبقى لكل مرحلة خصائصها العامة الرئيسية ونتاجها العلمي الواسع، ونوجز هذه المراحل كالتالي:

  • مرحلة النشأة على هامش العلوم الأخرى: في هذه المرحلة لم تكن ملامح البلاغة واضحة تماماً، ولم يكن لها القدرة على تبني مسائل وقضايا كاملة، إنما كانت عبارة عن ملاحظات وأفكار منتشرة داخل مصنفات العلوم الأخرى التي سبقتها في النشأة.
  • مرحلة التكامل المشترك: في هذه المرحلة أخذت البلاغة شكلاً آخر حيث أصبحت الأفكار والملاحظات التي رافقت المرحلة الأولى تنضجّ وتنمو وتتعمّق في ثنايا كتب العلوم الأخرى، لتتحوّل بعد ذلك إلى فصول كاملة، لكنها لا زالت مختلطة بهذه المؤلفات ولم يكن لها كتبٌ خاصة بها.
  • مرحلة الاستقرار والتفرّد: هي المرحلة الأخيرة وفيها اتخذت البلاغة صيغة محددّة اتسمّت بوضوح المعالم وبشكل نهائي؛ حيث أصبحت عِلّماً مستقلاً له مؤلفاته الخاصّة، وبهذا استطاعت البلاغة التحرّر والانفكاك من ثنايا مؤلفات العلوم الأخرى.

البلاغة عند العرب في الجاهليّة
اشتهر العرب في العصر الجاهلي بفصاحة اللسان وبلاغته في التعبير، والقدرة العالية في اختيار الألفاظ الدقيقة البعيدة عن التعّقيد، ولم يكتسب العرب هذه الفنون من علم تعلّموه وإنما جاءت هذه الفنون الأدبيّة من الفطرة التي نشأوا عليها، وقد اتصفت هذه الفطرة بذائقة فنيّة كان لها القدرة على تمييز ونقد جيّد الكلام من رديئه؛ مما أوجد عندهم ملاحظات نقديّة على البعض من الشعراء، وقد ورد في كتب الأدب نماذجٌ متنوعة من هذه الملاحظات، وقد كان سوق عكاظ خير موقعٍ لتجمع الشعراء وعرض نتاجهم الأدبيّ، وكان الحكم على تلك الأشعار الشاعر النابغة الذّبياني الذي كان ينصب له في السوق قبّة حمراء بحيث يتوافد إليه الشعراء، وينشدون أشعارهم بين يديه، فيحكم ويقول كلمته الفصل فيها، ثمّ ينتشر حكمه بين الناس ولا يستطيع أحدٌ بعد ذلك من معارضته، وقيل إنّ الأعشى جاءه مرةً فأنشد عليه أشعاره فقضى له بحسنها، ثمّ أتى من بعده شعراء آخرون، وكان منهم حسان بن ثابت والخنساء التي أنشدت قصيدة في رثاء أخيها، فأُعجب النابغة بشعرها وامتدحه بقوله إنّها أفضل شعراء العرب؛ مما أثار غضب حسان بن الثابت، وردّ على النابغة بأنّه أشعر منه ومن أبيه، ودار جدالٌ بينهما استشهد خلاله حسان بن ثابت ببيتيْن من شعره قائلاً:
لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يلمعنَ بالضُّحى
وَأَسْيَاقُنَا يَقْطُرن مِنْ نجْدّةٍ دَما
وَلَدْنا بَني الْعَنْقاءِ وَابْنَيْ مُحَرِّقٍ
فَأَكْرِمْ بِنَا خَالاً وَاكْرِمْ بِنَا أبْنَمَا
عند ذلك أقرّ له النابغة بشاعريّته، لكنّه انتقد قوله: "يلمعن بالضحى" وبيّن له لو أنّه قال: "يبرقن بالدجى" لكان ذلك أكثر بلاغةٍ، كما انتقد قوله: "يقطرن من نجدة دماً" ووضّح له لو كان قوله: "يجرين" لكان أفضل في تبيان انصباب الدم، وهذا يدلّ على أنّ الشعراء الجاهليين كانوا يراعون في نقدّهم القصيدة كاملةً، ويراعون أيضاً النتاج الشعري الكامل للشاعر، وما يرتبط به من مقام وما يلائمه من كلامٍ، إضافةً إلى الانسجام التام في الوزن وصحة المعنى.
البلاغة عند العرب بعد الإسلام
عندما جاء الإسلام ظهرت عوامل عديدة أدّت إلى الاعتناء بصياغة الكلام، وإظهار المعاني والتراكيب بصورة جميلة وجذّابة، وكان أهم هذه العوامل: نزول القرآن الكريم على سيدنا محمد (عليه السلام) الذي بدأ بتلاوة آياته على مسامع الصحابة الكرام الذين أخذوا يحفظونها عن ظهر قلب، وكان لهذه الآيات الأثر البالغ في نفوسهم، ورقّة أحاسيسهم، وتسامي أذواقهم، وكانوا قد انبهروا ببلاغة القرآن الكريم ووجدوا أنفسهم عاجزين عن الإتيان بمثله، فأخذوا يتعرّفون على جماليات خصائصه ومظاهر نظمه، أمّا كفار قريش فقد أنكروه وادّعوا تارةً أنّه شعر، وتارةً أخرى بأنّه سحر رغم وقعه الكبير في قلوبهم، وكان أيضاً لأحاديث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- التي كانت تتردد على مسامع الناس دور عظيم في صياغة الكلام وجماليّته، كما اتصف الخلفاء الراشدون بقوة الخطابة، وكانت لهم ملاحظات في نقد صياغة الكلام وبلاغته، أضف إلى ذلك الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار على الخلافة، والنزاع بين علي ومعاوية من أبرز الأمور التي أدّت إلى الاهتمام ببلاغة الكلام وفصاحته.
عندما جاء الأمويون زادت الملاحظات البلاغيّة بسبب تطوّر الخطابة وتنوّع أساليبها، كما ساهم انتقال العرب للإقامة في المدن إلى وجود أسواق أدبيّة، كسوق عكاظ في الجاهليّة، وفي العصر العباسي بدأ تدوين علم الدراسات البلاغيّة التي قامت على أسس الملاحظات النقديّة، وكان أوّل من بدأ بالتأليف أبو عبيدة بن المثنى في كتابه "مجاز القرآن"، ثمّ سار على دربه علماء البلاغة الآخرين في تأليف كتب في صور الاستعارة والتشبيه والكناية. أمّا علم المعاني فقد كتب في مسائله مؤلفون عدّة، كان أبرزهم: سيبويه.، والجاحظ في كتابه "البيان والتبيين"، وأبو هلال العسكري في كتابه "الصناعتيْن"، وعبدالقادر الجرجاني، الذي كان له كتابان، وهما: "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، أمّا علم البديع فكان أول من كتب فيه عبدالله بن المعتز، ثم قدامة بن جعفر، وابن رشيق في كتابه "العمدة".
بحث المفكر المغربي محمد عابد الجابري في نشأة علم البلاغة، وذكر أنّ المتعارف عليه تاريخياً أنّ الدراسات البيانيّة كانت لها الأسبقية في المؤلفات العلميّة والتي تحوّلت فيما بعد من ثقافة المخاطبة والرواية إلى ثقافة الكتابة والمعرفة والفكر، ولقد أكّدت الدلائل التاريخيّة على أنّ هذه الأبحاث تمّ تدشينها بشكل منظم في العلوم اللغويّة والنحويّة والكلام والفقه، وكان الاهتمام الأولي لهذه العلوم هو تفسير المصطلحات والنصوص القرآنيّة التي كان يجد القارئ صعوبة وغموض في فهمها، ثمّ تطوّر هذا الأسلوب في التفسير وأصبحت النصوص القرآنيّة خاضعة للدراسات البيانيّة واللغويّة والنحويّة إلى أن ربط علماء الكلام هذا المنهج اللغوي الجامع بالمنهج الكلامي