عادات المصريين ومظاهر احتفالهم بشهر رمضان في كتابات الرحّالة والمستشرقين



لوحة بعنوان "وليمة" من أعمال الرسام الإنجليزي جون فريدريك لويس القرن 19.

يحتل شهر رمضان مكانة بارزة في عادات وتقاليد المصريين على مر العصور وقد أصبغوه بمظاهر ومعان جعلته مختلفا عن سائر بلدان الشرق الأخرى فأقاموا من أجله الليالي الاحتفالية العامرة بشتى صنوف اللهو والبذخ، إلى جانب حرصهم في ذات الوقت على التقرب إلى الله خلال أيامه.
لم يغفل الرحّالة والمستشرقون الذين زاروا مصر منذ العصور الوسطى رصد اختلاف حياة عامة الناس في هذا الشهر تحديدا، وأعربوا عن دهشتهم من بزوغ عادات وطبائع بعينها خلال هذه الفترة دون غيرها، تولد بفرح مع استطلاع هلاله وتختفي بحزن مع قرب انتهائه، فجاءت كتاباتهم حافلة بشهادات ورؤى حفظت لنا صورة تاريخية نابضة بالحياة حتى وقتنا هذا، غلبت عليها الدقة وطرافة الوصف في ذات الوقت.
ويمكن تقسيم الرحّالة الذين زاروا مصر إلى قسمين، منهم الرحّالة العرب المسلمون الذين رصدوا عادات وتقاليد المصريين بعين المسلم الذي يألف ما يراه، والعالم ببواطن الأمور الشرقية لغويا ودينيا، من أمثال الرحّالة ابن الحاج، وابن جبير، وناصر خسرو، وابن بطوطة، ومنهم الرحّالة الأجانب الذين نعرض لهم بعض شهادات كتبوها خلال زياراتهم لمصر، حملت في كثير من الأحيان طابع الدهشة لاعتبارات الاغتراب الديني والثقافي، فاجتهدوا في رسم صورة للقاريء الأوروبي لشهر الصيام رغم حاجز الفروق اللغوية وجهل بعض الأحداث في سياقاتها الإسلامية.
كان من أقدم الرحّالة الذين زاروا مصر ورصدوا مظاهر شهر رمضان فيها هو الأب فليكس فابري الذي قدم إلى مصر في رحلة عام 1483 وقدم شهادة تفصيلية في دراسة بعنوان "الرحلة في مصر"، ترجمها إلى اللغة الفرنسية جاك ماسون نقلا عن الأصل الذي كتبه الأب فابري باللغة اللاتينية.
عندما زار الأب فابري القاهرة في 13 أكتوبر/تشرين الأول عام 1483 رأى "في شوارعها الفوانيس بمختلف أشكالها وألوانها، يحملها الكبار والصغار"، وتحدث عن مهنة المسحّر (المسحراتي) الذي يجوب القاهرة ليلا وينادي على الناس ويوقظهم لتناول وجبة السحور ووصفه فابري قائلا: "يمر ليلا في الشوارع ثلاث مرات يدق على طبلة وينادي على الناس كل واحد باسمه".

"رؤية الهلال"

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة بعنوان "صلاة في القاهرة" من أعمال الرسام الفرنسي جان ليون جيروم عام 1865.
رصد المستشرق الإنجليزي إدوارد وليام لين، الذي زار مصر وأقام بها بضع سنوات، عادات المصريين في دراسته الشهيرة بعنوان "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" بين عامي 1833-1835، وقدم صورة تفصيلية مطولة لاستطلاع هلال شهر رمضان.
يقول وليام لين: "بعد أن يصل الخبر اليقين لرؤية القمر (الهلال) إلى محكمة القاضي، ينقسم الجنود والمحتشدون فرقا عديدة، ويعود فريق منهم إلى القلعة بينما تطوف الفرق الأخرى في أحياء مختلفة في المدينة ويهتفون (يا أتباع أفضل خلق الله! صوموا، صوموا)".
ويضيف: "إذا لم يروا القمر في تلك الليلة، يصيح المنادي (غدا شعبان، لا صيام، لا صيام)، ويمضي المصريون وقتا كبيرا في تلك الليلة يأكلون ويشربون ويدخنون، وترتسم البهجة على وجوههم كما لو كانوا تحرروا من شقاء يوم صيام، وتتلألأ الجوامع بالأنوار، كما في الليالي المتعاقبة، وتُعلق المصابيح عند مداخل المآذن وأعلاها".
وكان علماء الحملة الفرنسية في مصر (1798-1801) قد سبقوا وليام لين في تقديم صورة حية لحياة المصريين، من بينهم العالم إدم-فرانسوا جومار في دراسته بعنوان "وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل" التي وردت ضمن مجموعة دراسات موسوعة "وصف مصر"، إذ تحدث عن صورة تفرّد بها عن سائر ما هو مألوف في كتابات الرحّالة أنفسهم.
يقول جومار: "يبدأ شهر رمضان مع ميلاد هلال هذا الشهر، ويعلن عن ذلك موكب احتفالي يسبق بداية الشهر بيومين، ويتكون هذا الموكب من حشد من الرجال يحمل بعضهم مشاعل، وبعضهم يحمل عصي، ويقومون بأداء حركات مختلفة بها. ويفتتح سير الموكب عازفون يمتطون ظهور الجمال ويضربون على طبل معدنية، بينما يمتطي عازفون آخرون ظهور الحمير ويضربون كذلك على طبل أو يعزفون على بعض آلات النفخ الأكثر صخبا".
"مدفع الإفطار"

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة لساحة القلعة بالقاهرة من أعمال الرسام البريطاني ديفيد روبرتس القرن 19.
ارتبط المصريون بفكرة "مدفع الإفطار" وترسخت في عاداتهم وحافظوا عليها لفترة طويلة وأصبح دوي هذا المدفع مع غروب الشمس "الإشارة" التي يجتمع عليها الجميع إيذانا لبدء الإفطار بعد صيام يوم طويل، كما أصبح من السمات المميزة للمظاهر الاحتفالية في مصر طوال شهر رمضان وحده.
تضاربت الآراء التاريخية من حيث نشأة تلك العادة وأجمعت الروايات، رغم اختلافها، على كونها وليدة الصدفة، أبرز تلك الروايات ما يشير إلى أن العادة ترجع إلى عهد "خوش قدم" المملوكي الذي يقال إنه أمر بتجربة مدفع وصادف ذلك الأول من رمضان عام 869 هجريا (1465 ميلاديا)، وتزامن سماع دويه وقت الإفطار فاعتقد الأهالي أنه إعلان لتناول الطعام، وفي اليوم التالي أمر خوش قدم بتكرار العادة طوال شهر رمضان، بعد علمه باستحسان الأهالي لها.
بيد أن رواية أخرى تنسب العادة إلى عهد محمد علي باشا، الذي صادف تجريبه مجموعة من المدافع في لحظة الغروب في يوم من أيام رمضان، فاعتقد الناس أنها إشارة تعلن بدء الإفطار، وطلبوا استمرارها في الشهر، بل وفي وقت الإمساك أيضا، واستمرت العادة واستمر المدفع يدوي بطلقاته من قلعة محمد علي في القاهرة حتى وقت قريب.
ويقول البعض إن العادة تعود إلى الخديو إسماعيل، وأن أحد الجنود كان ينظف مدفعا، فانطلقت قذيفة بالخطأ، وصادف ذلك لحظة الغروب، فاعتقد الأهالي أيضا أنها إعلان ببدء إفطارهم، وترسخت العادة كما حدث مع الراوية السابقة المنسوبة إلى عصر محمد علي باشا.

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة لساحة جامع أحمد بن طولون للرسام الفرنسي باسكال كوست عام 1839.
والأرجح أن العادة أقدم من الخديو إسماعيل بدليل أن الرحالة الإيرلندي ريتشارد بيرتون، الذي زار مصر عام 1853 في أواخر عهد عباس باشا الأول (1848-1854)، ذكرها في مذكرات رحلته المنشورة بعنوان "رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز" قائلا :"بعد نصف ساعة من منتصف الليل ينطلق مدفع السحور منبها المسلمين بوجوب الاستعداد لتناول طعام السحور وهو بمثابة إفطار مبكر. وبمجرد سماع المدفع يوقظني خادمي إذا كنت نائما ... ويضيع أمامي بقايا وجبة المساء (الإفطار)".
ويضيف بيرتون: "أظل أدخن بوهن وضعف كما لو كنت أودع صديقا حميما حتى ينطلق المدفع الثاني في حوالي الساعة الثانية والنصف معلنا الإمساك، ثم أنتظر أذان الفجر الذي يُرفع في شهر رمضان مبكرا شيئا ما عن المعتاد"، ويبدو من مشاهدات بيرتون أن العادة كانت في الإمساك تقضي بإطلاق المدفع مرتين وليس مرة واحدة.
ويواصل بيرتون مشاهداته: "تبدو القاهرة عند اقتراب موعد المغرب (ساعة الإفطار)، وما أبطأ حلوله، وكأنها أفاقت من غشيتها، فيطل الناس من النوافذ والشرفات ليرقبوا اقتراب ساعة خلاصهم، وبعض الناس يصلون ويبتهلون وآخرون يسبحون بينما آخرون يتجمعون في جماعات أو يتبادلون الزيارات لقتل الوقت حتى يحين موعد الإفطار".
ويضيف: "يا للسعادة! أخيرا انطلق مدفع الإفطار من القلعة. وفي الحال يجلجل المؤذن بأذانه الجميل داعيا الناس للصلاة، وينطلق صوت المدفع الثاني من قصر العباسية (نسبة لعباس باشا الأول). ويصيح الناس (الإفطار الإفطار) وتعم همهمة الفرح في أنحاء القاهرة الصامتة".
"الكنافة" معشوقة المصريين

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة لصانع الكنافة من أعمال الرسام والعالم الفرنسي كونتيه من كتاب وصف مصر لوحات الدولة الحديثة القرن 19.
احتلت الكنافة أهمية وأصبحت وثيقة الصلة بمائدة المصريين في شهر رمضان، وكان يُطلق عليها اسم "زينة موائد الملوك"، واختلفت الروايات التاريخية بشأن ارتباطها بهذا الشهر تحديدا، اشهر تلك الروايات ما يُنسب إلى "معاوية بن ابي سفيان" (608-680 ميلاديا) أنه أول من قُدمت له الكنافة من العرب كطعام للسحور، أثناء ولايته على الشام، حسبما ذُكر في كتاب "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لابن فضل الله العمري.
كما أشارت روايات إلى أن المصريين صنعوها لاستقبال المعز لدين الله الفاطمي (932-975 ميلاديا) كنوع من مظاهر الاحتفال به، صادف بعد الإفطار في شهر رمضان، فأصبحت عادة منذ ذلك الوقت، وثمة رواية أخرى تقول إن أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، المعروفة بلقب "قطر الندى"، أول من أدخلها إلى مصر من بلاد الشام من خلال رحلاتها العديدة.
بلغ اهتمام المصريين بالكنافة إلى حد جذب انتباه الرحالة الأوروبيين الذين زاروا مصر في القرن 18 و19، وتحدثوا عنها وعن طرق إعدادها، وتحدث عنها علماء الحلمة الفرنسية في موسوعة "وصف مصر" في الجزء الثاني من لوحات الدولة الحديثة، وقدم العالم كونتيه رسما دقيقا لورشة صانع الكنافة، وخصص لها العالم بوديه مقالا استهله بعبارة "فن صناعة الكنافة".
ويقول: "يمسك شيخ الكنفانية في يديه إناء تخترق قاعه ثقوب عديدة ... ويملأ هذا الإناء بخليط من سائل يتكون من دقيق القمح التركي أو الذرة البيضاء والبيض والماء، وعن طريق حركة دائرية يقوم بها الحرفي باليد التي تحمل الإناء تنبسط المادة متسربة عن طريق الثقوب على سطح صينية محماة، لتنضج في وقت قصير ثم تنفصل من تلقاء نفسها".
ويضيف: "المصريون شرهون للغاية لهذا النوع من الطعام، ويأكلونه وهو شديد السخونة، وفي معظم الأحيان في المكان الذي أعد فيه (أي في المحل نفسه)".
كما قدم وليم لين وصفا موجزا لماهية الكنافة وطريقة إعدادها كما رآها في دراسته قائلا: "تقدم أحيانا أنواع عديدة من الحلويات لا دخل لها هنا بأنواع اللحوم، منها (الكنافة) وهي من أطباق الحلويات المفضلة عند المصريين، وهي تصنع من دقيق القمح وفتائل العجين الدقيقة وتُقلى بقليل من الزبد المخفف ثم تحلى بالسكر أو العسل".
"صور من عادات المصريين"

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة بعنوان "سوق النحاسين" في القاهرة من أعمال الرسام البريطاني ديفيد روبرتس في القرن 19.
زار الفرنسي دي فيلامون مصر في القرن السادس عشر عام 1589، وتطرق في تفاصيل رحلته التي نشرها بعنوان "رحلات السير دي فيلامون" إلى المواكب الدينية وحلقات قراءة القرآن في رمضان، وزينة المساجد وعمارتها، وتحدث عن ظاهرة أشبه بما يُعرف حاليا باسم "موائد الرحمن" الخيرية التي عرفتها مصر على مدار عصورها الإسلامية حتى الآن.
يقول دي فيلامون: "يجلس (المصريون) على الأرض يتناولون الطعام في الفناء المكشوف أو أمام منازلهم، ولديهم عادة دعوة عابري السبيل إلى مشاركتهم الطعام بصدق وحفاوة".
أما الفرنسي جومار فيتحدث بإيجاز شديد عن صور وطبائع المصريين في هذا الشهر قائلا: "تُقام الأعياد الدينية في القاهرة ببذخ شديد. فالناس جميعا يعلمون أن رمضان هو شهر الصيام وحينئذ لا يمكنهم الأكل أو الشرب أو التدخين أو الاستمتاع بأية تسلية بين شروق الشمس وغروبها. لكن هذا الحرمان، الذي يطول أو يقصر حسب الفصل (من عشر إلى 14 ساعة في القاهرة)، يتبعه استمتاع كاف يساعد على نسيان هذا الحرمان".
ويضيف جومار: "الفرق بين صوم المسلمين وصوم المسيحيين هو أن المسلمين يحيون ليالي رمضان باحتفالات، بينما يحضرون في النهار، في جمع كبير، دروس الوعظ في المساجد بورع شديد أو يشغلون أنفسهم بالعمل أو بالنوم في أغلب الأحوال. أما في المساء فتبدو الشوارع مضاءة وصاخبة ويجتمعون في أبهى ملابس، ويأكلون بلذة الحلوى وينغمسون في كل أنواع التسلية".

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة لسوق الحرير في القاهرة من أعمال الرسام البريطاني ديفيد روبرتس القرن 19.
ويتحدث الفرنسي دو شابرول في دراسته المستفيضة بعنوان "دراسة في عادات وتقاليد سكان مصر المحدثين" ضمن دراسات كتاب "وصف مصر" عن كيفية قضاء فئات المصريين نهار رمضان وتعاملهم مع فترة الصيام الشاقة.
يقول دو شابرول: "يسعى كل شخص في النهار قدر طاقته كي ينهي عمله في أسرع وقت، ليخصص بضع ساعات للنوم، فترى الفلاح راقدا تحت نخلة بعد أن أنهى في فترة الصباح عمله، وترى التاجر يرقد في دكانه، والعامة ممدين في الشوارع بجوار جدران مساكنهم، بينما الغني راقدا بالمثل، نعسان ينتظر على أريكته الفاخرة الفترة التي تسبق غروب الشمس، وأخيرا تأتي الساعة التي طال انتظارها، فينهضون على عجل ويهرع كل شخص للحصول على مكانه".
ويضيف: "تتجمع النساء في شرفات منازلهن لرؤية غروب الشمس... وتعلن الأغنيات حلول وقت المسرات ووقت الطعام، وتدوي كل المساجد بأصوات المؤذنين الجادة تنادي الناس للصلاة، وتحدث همهمة واضطراب عام، فيتفرق الناس على الفور، وتنفض الجماعات ويتبعثر الجمع إما إلى المقاهي وإما إلى البيوت والمساجد والميادين العامة، ويأكل كل شخص بشراهة".
وبعد الإفطار يقول دو شابرول: "يعقب الطعام الاحتفالات والألعاب، وتسيطر الخلاعة الجامحة على ضروب اللهو... بينما تظل المساجد مضاءة حتى بزوغ النهار، ويقضي أفاضل الناس ليلهم في حديث نافع، لكن الجمهور يذهب إلى المقاهي حيث الرواة يقصون بحماسة ملتهبة مغامرات عجيبة تخلب الألباب بطريقة فريدة".

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة للجامع الأزهر من أعمال الرسام الفرنسي جوزيف فيليبرت جيرو دي برانجي عام 1843.
ولم يفت وليام لين أن يتحدث عن مزاج المصريين خلال أيام الصيام، مشيرا إلى اضطراب الحالة المزاجية بحسب توقيت اليوم قائلا: "يكون المسلمون طوال صومهم في النهار نكدي المزاج، ويتحولون في المساء بعد الإفطار إلى ودودين محبين بشكل غير عادي... ويتناول المسلمون فطورهم عامة في منازلهم ويمضون بعده بساعة أو ساعتين أحيانا إلى منزل صديق، ويرتاد بعضهم، لاسيما أبناء الطبقات الدنيا، المقاهي في المساء، فيعقدون لقاءات اجتماعية أو يستمعون إلى رواة القصص الشعبية ... ويقيم بعض علماء الدين في القاهرة حلقات ذكر في منازلهم كل ليلة طوال هذا الشهر".
وعن تناقض عادات المصريين في هذا الشهر، يرصد دو شابرول تضاربا يراه غريبا يبرزه قائلا: "شهر رمضان هو أهم الأوقات التي ينغمس فيها المصريون في المسرات ومختلف ضروب اللهو، فهو شهر صيام وشهر مهرجانات. وقد يبدو من الغريب أن يختاروا (المصريون) مثل هذا التوقيت للقيام بممارسات متناقضة: التوبة وتطهير النفس من ناحية، وممارسة الملذات من ناحية أخرى".
ولم تغب المرأة المصرية عن المشهد بطبيعة الحال، وتحدث عنها في الطبقة العليا قائلا: "تصل مباهج رمضان إلى معاقل النساء، ففي رمضان يسمح للسيدات باستدعاء العوالم وبعض الموسيقيين، ويجلس الزوج باسترخاء ولا مبالاة على أريكته ومبسم نارجيلته في فمه، وإلى جانبه أحب زوجاته إلى قلبه، ليستمعا معا بمتعة شديدة إلى أغنيات العوالم وصوت الموسيقى".
"المسحراتي"

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة للجامع الأزهر من أعمال الرسام الفرنسي أدريان دواز عام 1831.
وكما في الكثير من بلدان الشرق، تتميز مصر بمهنة "المسحّر أو (المسحراتي)" الذي يتولى إيقاظ الناس من النوم لتناول وجبة السحور قبل صلاة الفجر استعدادا ليوم صيام جديد، ويقدم العالم الفرنسي جيوم أندريه فيوتو تعريفا بالغ الدقة لهذه المهنة في دراسة بالغة الأهمية تناول فيها بالفحص الدقيق "الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين" منشورة ضمن دراسات "وصف مصر".
ويقول: "هم نفر لا يسمع الناس غناءهم إلا خلال شهر رمضان، ويسمون بالمسحّرين، ويوصف بهذا الاسم أولئك الذين يعلنون كل يوم طيلة شهر رمضان، عن اللحظة التي يوشك فيها نور النهار الجديد أن ينبلج من ظلام اليوم المنصرم، وهي تسمى في اللغة العربية بوقت السحور، وهي أيضا الفترة التي ينبغي أن تتم فيها آخر وجبات الليل، لذلك يطلق على هذه الوجبة (السحور) وبعد انتهاء الوجبة لا يسمح للمسلمين أن يشربوا ولا أن يأكلوا، حتى مغرب الشمس، وهم ملزمون بمراعاة هذه الفترة بعفة صارمة".
ويستفيض وليام لين في وصف آخر لنشاط المسحّر وطريقة أداء عمله في فقرات مطولة نورد مقتطفات منها قائلا: "يدور المسحرّون كل ليلة في شهر رمضان يطلقون المدائح أمام منزل كل مسلم قادر على مجازاتهم، ويعلنون في ساعة متأخرة فترة السحور. ولكل منطقة في القاهرة مسحّرها الخاص الذي يبدأ جولته بعد ساعتين تقريبا من المغيب، ويحمل في يده اليسرى ما يعرف بطبلة المسحّر، وفي يده اليمنى عصا صغيرة أو سوطا يضرب به عليها. ويرافقه صبي يحمل قنديلين في إطار من أعواد النخيل، ويتوقفان أمام منزل كل مسلم إلا الفقراء".

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة لجامع السلطان حسن من أعمال الرسام البريطاني ديفيد روبرتس القرن 19.
ويضيف: "يتجول المسحّر قبل الإمساك بساعة ونصف تقريبا ليوقظ الناس أو يذكرهم بتناول الطعام في المنازل التي أُمر بإيقاظها، فيقرع الأبواب وينادي حتى يسمع سكان المنزل نداءه، ويفعل بواب كل حي الشيء نفسه في كل منزل في الحي. ولا يفرط بعضهم في الطعام عند الإفطار، ويتركون اللذائذ والأطايب الدسمة لفترة السحور، وقد يقلب بعضهم هذه القاعدة أو يساون بين الوجبتين".
ويصف أندريه فيوتو أنه "لا يجوب أي من المسحّرين سوى الشوارع الداخلة في نطاق حيّه هو، ولذلك فلكي يسمح له بالقيام بهذه المهمة، فإنه ملزم بدفع رسوم (إتاوة) إلى الشخصية المنوطة بحراسة الحي... وبعد أن يتلو المسحّر بعض الأدعية الدينية، يبدأ بإنشاد بعض الأشعار، ويقص حكايات شعرية، ويتمنى أمنيات سعيدة لرب البيت، مستصحبا في ذلك كله طبلته الصغيرة، التي يدقها على شكل فاصلات تتكون الواحدة منها من أربع دقات متعاقبة".
بيد أن وليام لين ينفرد في تقديم مشهد نسائي لم يتحدث عنه الفرنسيون، أو ربما لم يسعفهم الوقت لرؤيته قائلا: "تضع المرأة في العديد من منازل الطبقة المتوسطة في القاهرة قطعة معدنية صغيرة (أو خمس فضات أو قرشا أو أكثر) في قطعة من الورق، ويقذفونها من النافذة إلى المسحّر بعد أن تكون أضرمت النار في الورقة حتى يرى مكان سقوطها. فيتلو المسحّر حسب رغبتها أو بملء إرادته سورة الفاتحة، وقصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها كقصة (الضرتّين) وشجارهما. وتبعد بعض قصصه عن باب اللياقة والاحتشام، ومع ذلك تسمعها النساء القاطنات في المنازل ذات السمعة الطيبة".
"ليلة القدر"

صدر الصورة،GETTY IMAGES
التعليق على الصورة،
لوحة بعنوان بوابة المتولي في القاهرة من أعمال الرسم البريطاني ديفيد روبرتس القرن 19.
يبدأ المصريون في الثُلث الأخير من شهر رمضان الاستعداد لاستقبال عيد الفطر بعادات خاصة تتداخل مع عادات الناس في رمضان، فضلا عن إحياء الأيام العشر الأواخر من شهر رمضان لرصد ليلة القدر، وعن هذه الأيام أفرد وليام لين جانبا مميزا قدم فيه صورة عن عادة المصريين خلالها، قائلا:
"يحيي الأتقياء المتدينون آخر عشرة أيام من رمضان في نهاره ولياليه في جامع الحسين وجامع السيدة زينب (في القاهرة)، وتُعرف إحدى هذه الليالي وهي ليلة السابع والعشرين منه عامة بليلة القدر...ويقضي هذه الليالي بخشوع كبير بعض الأتقياء الذين لا يستطيعون التأكد أي من الليالي العشر في رمضان هي ليلة القدر، ويجعلون أمامهم وعاء فيه ماء مالح يذوقون طعمه ليروا إن بات حلو المذاق فيتأكدون أن تلك الليلة هي ليلة القدر".
ويظل شهر رمضان سنويا دافعا لتجلي الكثير من المعاني في الذاكرة المصرية من عبادات وفروض دينية، باعثا للكثير من الإبداعات الفنية والمظاهر الاحتفالية، التي أصبحت وثيقة الصلة بروح الشهر وعلامته الدالة عليه في مصر وشوارعها، وإقامة الولائم وترديد الأغنيات وانتشار موائد الإفطار الجماعية وإحياء الأمسيات الدينية والفنية.