مبدعون في الذاكرة


- بغداد هي رمز الوحدة الوطنية.. وهي النموذج الامثل للتوحد والتألق بين كل الاطياف العراقية ..

يعد المؤرخ والباحث الرائد الاستاذ سالم الالوسي من الشخصيات الفكرية والمعرفية التي ساهمت وبشكل فاعل وكبير في اغناء الحركة الثقافية العراقية عبر ما حققه من منجز ابداعي ثر في شتى المجالات العلمية والتراثية والاثارية .


المؤرخ والباحث سالم الالوسي
قبل سنوات وقبيل رحيله التقيت المؤرخ الاستاذ سالم الالوسي الذيي تشرفت بمعرفته منذ سنوات واعرب عن شكره
حين أخبرته باجراء لقاء صحفي معه خلال تلك الزيارة التي رافقني فيها مشكورا الزميل عادل العرداوي والتي كانت بالنسبة لي فرصة طيبة ورائعة لاتعرف من خلالها على بعض ما تكتنزه ذاكرته من احداث وذكريات مهمة مع شخصيات واعلام بارزين من رموز العراق وقاماته الشامخة الذين زاملهم وتتلمذ على يد بعضهم ممن كانوا وما زالوا محط فخر واعتزاز الجميع .

البدايات الاولى:
سألت الاستاذ الالوسي ان يحدثنا اولاً عن البدايات الأولى لمسيرته العلمية كباحث ومؤرخ عرفته بغداد فقال: ولدت في بغداد عام 1925 في اسرة تنحدر من السلالة الالوسية -الحسنية- العلوية، وفي احدى المحلات البغدادية القديمة، وهي محلة سوق حمادة في منطقة الكرخ وتلقيت التعليم في بداية حياتي عن طريق (الكتاتيب) وعلى يد الملا عواد الجبوري (رحمه الله) وختمت القرآن الكريم عنده وبعدها تم قبولي في الصف الثاني في مدرسة الكرخ الابتدائية لكوني كنت اجيد القراءة والكتابة بفضل تعلمي في الكتاتيب ولازلت اذكر و(الحديث للآلوسي) ان اول كتاب اهدي لي في تلك الفترة اي خلال مرحلة الدراسة الابتدائية تقديراً لتفوقي ونجاحي بامتياز، كان من احد المعلمين وهو الاستاذ حمدي قدوري الناصري وكان عنوانه (مجاني الادب، للأب لويس شيخو) وهو من الكتب المعتبرة في الادب واللغة وما زلت احتفظ به لحد الآن وله الفضل في دراستنا للغة العربية..ولايفوتني ان اشيد بجهود هؤلاء الاساتذة ومنهم مدير مدرستي الاستاذ صالح الكرخي والاستاذ عزت الخوجه اللذين مازلت أدين لهما بالفضل والعرفان. ثم انتقلت الى الدراسة المتوسطة واكملتها في بداية الاربعينيات وبعد دخولي الاعدادية/ الفرع العلمي، واكملتها بنجاح باهر كنت أنوي دخول كلية الطب او الهندسة ولكن ظروفي المعيشية الصعبة حالت دون ذلك مما دفعني للبحث عن وظيفة وترك اكمال الدراسة في الجامعة، فقرأت حينها اعلاناً في صحيفة (البلاد) التي كان يديرها المرحوم روفائيل بطي وفحواه ان دائرة الاثار تطلب تعيين دليل متحف. وبهد تقديمي لها ونجاحي في الامتحان الخاص بها من بين اكثر من اربعين متقدماً تم تعييني في دائرة المتحف العراقي التي كانت في شارع المأمون ضمن (بناية المتحف البغدادي) حالياً, وكانت تسمى مديرية الاثار القديمة وقد استبدل اسمها العلامة الراحل مصطفى جواد الى (مديرية الآثار). وهنا لابد ان اذكر انني تشرفت ان اكون فيما بعد احد تلامذة العلامة جواد اضافة الى كوني امضيت اكثر من عشرين عاماً في مديرية الاثار. وفي عام 1945 أسس مدير الاثار العام حينذاك الدكتور ناجي الاصيل مجلة (سومر) وكانت دائرة الاثار اشبه بالمجمع العلمي، حيث كان يجتمع فيها نخبة خيرة من العلماء الكبار من بينهم العلامة طه باقر وفؤاد سفر ومصطفى جواد واساتذة معروفين مثل ناصر النقشبندي وكوركيس عواد وبشير فرنسيس وفرج بصمچي. وكان لهؤلاء الفضل في تأسيس وترسيخ المدرسة الاثارية العراقية التي كانت حكراً على الاجانب في ما يخص الآثار والتنقيبات..ويسترسل الآلوسي في حديثه قائلاً:وهذه قضية ومسألة مهمة ربمل لم يلتفت اليها احد سابقاً وان كان قد بدأها الاستاذ ساطع الحصري ولكن توسعت على يد هذه الجماعة فبدأت على أثر ذلك الحفريات تأخذ من الاتساع والاهتمام شكلاً آخر في معظم مناطق العراق ومنها في الموصل والاخيضر وسامراء وواسط وغيرها سواء كانت اسلامية او غير اسلامية. وكنا في كل يوم (خميس) وهو يوم عطلة المتاحف، كنا نذهب الى المكتبة الخاصة بالمتحف التي كانت تعد من المكتبات المهمة العامرة والغنية بكتبها ومصادرها التاريخية والاثرية التي كان يتولى ادارتها المرحوم كوركيس عواد وهي في ذات الوقت كانت موئلاً وملجأً ومثابة الى الادباء والشعراء والمؤرخين والباحثين في التاريخ. كما كان من بين الذين يترددون عليها فضلاً عن الذين ذكرتهم الاساتذة: يعقوب سركيس وصادق كمونة وعباس العزاوي والشيخ بهجت الاثري والشيخ جلال الحنفي وفؤاد عباس واحمد حامد الصراف وآخرون غيرهم، فكنا نستمتع لما كان يدور من نقاشات وطروحات فكرية رائعة في هذه المجالس.

المحرر الكناني مع الالوسي و الدكتور حسين امين والمهندس هشام المدفعي واخرين
مشوار الاذاعة والتلفزيون
وماذا بعد..؟

- بعد ان امضيت في الآثار فترة طويلة تجاوزت العقدين انتقلت بعدها للعمل كمشرف عام على البرامج الثقافية والادبية في الاذاعة بدرجة معاون مدير عام من الاثار علاوة على انني عملت كسكرتير لمجلة سومر والاشراف عليها في المطبعة ومتابعتها قبل نشرها.. مما منحني الخبرة بالاطلاع على المعلومات التي كان يكتبها العلامتان مصطفى جواد وظه باقر في ما يخص المعلومات الأثارية العراقية السومرية والاكدية والبابلية والاشورية وما جاء بعدها من عصور تاريخية ما قبل الاسلام وما بعده. مما افادني في تمكني من الكتابة في هذه المجالات..وفي عام 1964-1965 تأسست مديرية الثقافة العامة في وزارة الثقافة والارشاد فطلبوا نقلي من الاذاعة الى هذه الدائرة التي كان مديرها العام انذاك الاستاذ المرحوم خالد الشواف الذي كان زميلي في الدراسة الابتدائية فعملت معه، وفي عام 1968 انتقلت الى العمل في دائرة السياحة، ثم عدت الى دائرة الثقافة لأتولى ادارتها فأصدرنا العديد من المجلات ومنها: (المورد والتراث الشعبي) وغيرها الكثير من المطبوعات فضلاً عن المهرجانات الثقافية التي اشرفنا عليها ومن بينها مهرجان المربد الأول في البصرة وقد عاونني في ذلك الاخ الاستاذ خالص عزمي. واذكر من بين الذين تولوا رئاسة تحرير المورد المرحوم عبد الحميد العلوچي..وهنا طلبت من استاذنا الالوسي ان يحدثني عن المركز الوطني لحفظ الوثائق الذي كان اميناً عاماً له فقال:انتقلت من (الثقافة العامة) الى المركز من خلال تأسيس دائرة تهتم بهذه الجوانب المهمة والمباشرة باعمالها بشكل منتطم والفكرة تعود الى الاستاذ عبد العزيز الدوري والدكتور صالح احمد العلي والدكتور ابراهيم شوكت والاستاذ ياسين عبد الكريم، كما ان لهؤلاء الفضل في اقناع الدولة بتأسيس المركز الوطني لحفظ الوثائق كان ذلك في الستينيات، والغريب في الأمر انه كان هناك قانون قد صدر في الاربعينيات باتلاف الاوراق القديمة مما ضيع علينا الحصول والاحتفاظ بالكثير من الوثائق المهمة، التي تعرض قسم منه الى السرقة والتدمير في الاحداث التي جرت بعد سقوط النظام السابق. فعملنا سجلات خاصة بالعهد العثماني والعهد الملكي والعهد الجمهوري. وعملت طوال فترة (8) اشهر بعد تفرغي في مجلس شورى الدولة ووضعنا قانوناًَ جديداً اطلق عليه البعض (قانون سالم الالوسي) فكان ردي عليهم بان هذا هو قانون الدولة العراقية لان العراق له قصب السبق تاريخياً، فأول من أنشأ الوثائق من العهد السومري والاكدي والعهد الاشوري هم العراقيون ولهم الفخر في كونهم هم أول من انشأ هذا العلم، فمكتبة اشور بانيبال لم تكن مكتبة وانما كانت بمثابة ارشيف للامبراطورية الاشورية وقد كتبت عن هذا الموضوع بشكل واسع. فعملت بهذا الاتجاه من خلال التأكيد على احياء التراث العراقي القديم في ميدان الوثائق وقد حققنا نجاحات كبيرة جداً في هذا المجال..فبدلنا صيغة القانون القديم من اتلاف الاوراق الرسمية القديمة الى الحفاظ على الوثائق القديمة. كما قمت بوضع دراسات كثيرة بهذا الخصوص فانجرت اكثر من عشرين كتاباً واكثر من (150) بحثاً في الوثائق وكان ذلك بمثابة اضافة جديدة لعلم المكتبة هي علم الوثائق والارشيف اذ لم تكن هنالك اتجاهات سابقة عن ذلك ثم سعينا بخطوة اخرى، هي قيامنا بتأسيس الفرع الاقليمي العربي للوثائق والذي يعد فرعاً من المجلس الدولي للوثائق الذي اسس في الخمسينيات في اوربا وكان مركزه في باريس ثم تم افتتاح فروع اقليمية له مثلاً في جنوب شرق اسيا وفرع في وسط افريقيا وفي غرب افريقيا واميركا اللاتينية اما العراق فكان الفرع الرابع وقد أسس في المؤتمر العام الذي عقد في موسكو عام 1972 الذي اقر بوجوب تأسيس فرع في العراق للمجلس الدولي للوثائق وتم تعييني يومها اميناً عاماً للفرع وعقدنا في وقتها مؤتمراً برعاية رئيس الجمهورية وكان ذلك عام 1973 وأسسنا مجلة (الوثائق) التي كانت تصدر بأربع لغات وكانت من المجلات المتميزة فضلاً عن اصدار اكثر من (20) كتاباً وضعنا فيه علم الوثائق والارشيف.ويواصل الالوسي حديثه عن الجانب الوثائقي واهميته قائلاً: أعتز وافتخر بكوني وضعت اساساً للدراسة الوثائقية العراقية واكتسبت خبرة كبيرة من خلال عملي السابق اضافة الى الخبرة الدولية التي اكتسبتها من خلال حضوري ومشاركتي في المؤتمرات الدولية مثل مؤتمر لندن وباريس عام 1980 عن الوثائق والارشيف. وفي لندن انتخبت عضواً في لجنة الوثائق غير المنشورة والتي تتعلق بالقرنين الرابع عشر والخامس عشر، كما ان المؤتمرات التي عقدت في الدول العربية وعددها خمسة مؤتمرات. حيث بدأنا بتأسيس فروع في (7) دول عربية ثم وصل عددها الى (21) دولة كاعضاء في المجلس الدولي لحفظ الوثائق..

الالوسي والتلفزيون..
وهنا قلت للاستاذ الالوسي عرفك الكثير من الناس بعد ظهورك في التلفزيون مع العلامة مصطفى جواد من خلال برنامج ثقافي كان يقدم في بداية الستينيات فماذا عن ذكرياتكم عن تلك الفترة فقال: في عام 1960 اتصل بي المرحوم العلامة مصطفى جواد اذ سافرنا معاً في عام 1959 الى الهند مع ثلاثة وزراء من تلك الفترة وكانت بمثابة سفرة ثقافية وكان على ما اذكر ان احد الوزراء كان الاستاذ فيصل السامر. وبعد عودتنا من الهند لم انقطع من التواصل من اللقاء بالعلامة جواد فقال لي حينها: عندنا برنامج يديره الاستاذ حسين امين وانت تمتلك خبرة جيدة بالآثار فَلِمَ لاتشارك معنا فيه فبدأنا نقدم (ثقافة الاسبوع) وكان التلفزيون يومها بالاسود والابيض وقد خصص للبرنامج (30) دقيقة وعلى الهواء مباشرة، وبعد سفر الاستاذ حسين امين الى القاهرة للحصول على شهادة الدكتوراه بدأت حينها بادارة البرنامج وتم الاتفاق على تسميته بالندوة الثقافية وقد تواصل عرضه لمدة عشر سنوات. ولابد لي ان اذكر هنا بان اعظم من خدم بغداد اطلاقاً هو الدكتور مصطفى جواد.

الملا عبود الكرخي والگاري..!
وعندما طلبت من الباحث والمؤرخ الالوسي ان يحدثني عن ذكرياته عن ايام بغداد وكرخها وشاعر النقد اللاذع والساخر المرحوم ملا عبود الكرخي، توقف قليلاً لتعلو وجهه ابتسامة كمن أثرنا في نفسه صدى تلك الايام الماضية التي طواها النسيان فبادرني قائلاً: كان اديبنا وشاعرنا المعروف الملا عبود الكرخي رحمه الله ممن سكن بكرخ بغداد واقترن اسمه بها رغم ان اصله من مدينة (الحلة) فهو من عشيرة (البو سلطان). وقد اصدر حينذاك جريدة (الكرخ) التي ذكر فيها مرة ابياتاً من الشعر انتقد فيها السلطة الحاكمة انذاك عندما أقدمت على عزل امين العاصمة ويقصد به المرحوم ارشد العمري الذي كان اميناً لها في ذلك الوقت.ويستطرد الالوسي في حديثه عن (الترامواي) أو عربة (الكاري) والملا عبود فيقول:كانت من وسائط النقل المعروفة في بغداد ايام زمان عربة (الكاري) التي كانت تسير على سكة خاصة أشبه بسكة القطار وكانت تستخدم لنقل الاهالي من منطقة سوق الجديد في الكرخ الى مدينة الكاظمية ذهاباً واياباً. وفي ذلك الوقت كنت ما ازال طالباً في مرحلة الدراسة الابتدائية فكنا نرى الملآ عبود الكرخي الذي كان غالباً ما يجلس في مقدمة (الكاري) وعندما يلحظه اصدقاؤه ومحبوه الجالسون في المقاهي التي يمر عليها الكاري وهو في طريقه الى الكاظمية يقفون له تحية وهو بدوره يرد عليهم وهو يومئ لهم بسدارته التي كان يعتمرها برأسه وخلال وجودي في متوسطة الكرخ اتصلت بحفيده الاستاذ المرحوم حسين حاتم الكرخي لتتوثق علاقتي به خلال تلك الفترة عندما كنا نطالع كتبنا المدرسية سوية قرب جامع القمرية المطل على نهر دجلة واحياناً نذهب للمطالعة في بيت المرحوم حسين الكرخي الذي يقع في الصالحية مقابل الاذاعة والتلفزيون وعندما كان يمر علينا الملا عبود الكرخي يقول لنا بلهجته الشعبية المعروفة.. (عفية ولدي دتچالشون) ويقصد منهمكين بالقراءة (بارك الله فيكم.. بارك الله فيكم) وكان الكرخي محط اعجاب وتقدير الجميع واحترامهم لما تميز به من مكانة عندهم. ولم يدع الكرخي جانباً من جوانب الحياة البغدادية الشعبية إلاّ وثقه من خلال شعره وكتاباته الادبية بنكهتها الشعبية المعروفة.
ختام لقائنا الذي استمتعنا به بصحبة هذا الباحث والمؤرخ الكبير سألته كيف يرى الآلوسي بغداد الآن فاجاب قائلاً: بغداد هي رمز الوحدة الوطنية.. وهي رمز الوحدة العراقية وهي النموذج الامثل للتوحد والتألق بين كل الاطياف العراقية.

الشاعر الملا عبود الكرخي