شعرية أبي تمام بين ناقدين معاصرين بقلم : المنصف الوهايبي
في الجامعة الحرة في بورتو في البرتغال، اطلعت في مفتتح هذا القرن، وأنا أستكمل رسالة دكتوراه الدولة عن «الطائية في الشعر» (مذهب أبي تمام الطائي) على أطروحة الراحل فهد العكام: «شعرية أبي تمام، مبدع اللامألوف عند العرب». وكان أعياني طلبها في باريس، إذ لم أعثر عليها في أي من مكتباتها الجامعية، حتى أعلمني الشاعر التونسي الطاهر البكري، وأنا في بورتو، أنها موجودة هناك منذ وفاة صاحبها، لسبب لا يدريه. وكنت قد تعرفت إلى فهد العكام صائفة 1989 في ملتقى الشعر العربي الفرنسي، في صنعاء، حيث كان يعمل في جامعتها. وكان أستاذه المشرف المستشرق الفرنسي المعروف أندريه ميكال معنا في الملتقى، وهو الذي حدثني عن رسالة العكام، ونصحني بقراءتها، ثم قدمني إليه عندما جاء إلى زيارته في الفندق. وقد اعتذر الراحل عن مدي بنسخة من الرسالة، متعللا بأنها لا تزال مخطوطة، وأن بإمكاني الاطلاع عليها في مكتبة جامعة السوربون الجديدة، في باريس.
يقارن فهد العكام بين القصيدة التمامية والقصيدة القديمة، ويخلص إلى أن القديمة تبدو أشبه بـ«شبكة من الموضوعات» بسيطة، لا تحرف نهج السنة الشعرية المتعارفة. ويعلل «بساطتها» بما يسميه «الثقافة البدوية الشفوية» التي تنضوي إليها. ويرى أن قيمتها لا تعدو تنظيم تتابع الأقسام وصولا بها إلى خاتمتها. على حين أن قصيدة أبي تمام، في تقديره، ثمرة جهد أساسه بناء متين يوائم «ثقافة كتابية حضرية أكثر منها شفوية بدوية».
ويذهب إلى أن القصيدة التمامية تتكون من أقسام من الموضوعات المتنوعة، يكسب النسق كلا منها وظيفة محددة داخل الكل. على أن ذلك قد صح في أكثر قصائد المديح أو المطولات عامة. وفي ما عداها يصعب الإقرار بذلك. فقصائد الغزل والهجاء والوصف لا تجري كلها في هذا المجرى، وبعضها لا يتعدى ثلاثة أبيات. على أنه يظل من السائغ المقبول القول إن كل قسم لا يمتلك شكله الخاص إلا في سياق التفاعل مع بقية الأقسام، وليس له من قيمة إلا في سياق الدافع الأساس الذي يحكم القصيدة. الأمر الذي يجعل النص يحيا بقوانينه «الخاصة». وهذه عبارة دقيقة تفيد كثيرا في التمييز بين صنفين من القراء:
قارئ يحتكم إلى النص، ويراعيه في سياقه والقوانين التي تنتظمه، وقارئ يقيس القصيدة بمقياس التقليد الذي تنتمي إليه.
والمشكل في هذا النوع من المقارنات بين القديم والمحدث، إنما هو إغفال النص الشعري إغفالا يكاد يكون تاما. فهو لا يرى القصيدة القديمة مثلا في ذاتها، على قدر ما يراها بعين الناقد القديم. فعلى أساس من وصف ابن قتيبة الشهير للقصيدة الأنموذج، وهي قصيدة مثالية لا وجود لها، يمكن له مثلا أن يقرر أن نظام الموضوعات في القديمة، منطقي، أو هكذا ينبغي أن يكون، إذ يذكيه أصل من العقل والمنطق.
ومن ثم يتسنى له أن يقرر أن قصيدة أبي تمام تتميز بطابع شكلي هو ليس مصنوعا من التناظر ضرورة ولا من التسلسل المنطقي، وإنما هي تلوح في مجملها «مفعمة بالحيوية» وكل عناصرها تتضافر عبر جدل خلاق في دفع الفعل الشعري إلى غايته، أو يرى أن القصيدة القديمة موسومة ببساطة في التركيب بحيث ينجم عنها «وضوح عقلي»، فيما بنية الفكر عند أبي تمام ليست بديهية ولا هي واضحة جلية، ذلك أن معنى المفردة عنده»متعدد التكافؤ» أو هو رمزي، والصورة تمتح أحيانا من الخارق والغريب، والتراكيب جد معقدة إلى حد أنها تجعل الأثر يترجح بين الوضوح والغموض، أو يقع في حيز الواضح الغامض معا.
على أن شعر أبي تمام، وهذا مما لم يتنبه إليه العكام، لم يوسمْ بتعقد تراكيبه، إلا في أبيات قليلة لا نخالها تشكل ظاهرة أسلوبية، على نحو ما نجد عند المتنبي أو الفرزدق خاصة، والغموض يرجع في الطائية إلى «الغريب» وبخاصة ذاك الذي ينشأ في حيز المتخيل الإسلامي. وقد تنبه الباحث إلى بعضه. ومثاله:
إن كان ريب الدهر أثكلنيهمُ
فالدهر أيضا ميت مشكولُ
وهو يريد أن الأشياء كلها إلى فناء، وحكمه بأن الموت إذا حصل ميت مشكول مبني على الحديث الذي روى أن الموت إذا حصل وأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، يؤتى به في صورة كبش أملح فيذبح بين النار والجنة. فيجزع أهل النار جزعا شديدا، لأن الموت لهم راحة. فهذه صورة «غامضة» ما لم يضئها النص المأخوذ منه (الحديث النبوي).
ويتساءل الباحث: كيف تسنى للشاعر أن يقطع «عقبتين» كان لهما أثر غير يسير في «رتابة» القصيدة القديمة، وهما «سعة الرسالة» و«سريرة المتكلم». فالقصيدة من حيث هي فضاء زمني طويل تراوح بين خمسين ومئة بيت مقفاة وأكثر أحيانا.
ومرد ذلك إلى أن القصيدة الجاهلية ترتبط بالنشيد وتنضوي إلى ثقافة شفوية. وما يعنينا هنا أن الشاعر القديم، استطاع، في تقدير الباحث، أن يتخطى هاتين «العقبتين» وأن يحد من أثرهما، بواسطة تنوع الموضوعات من جهة، أي الأشياء المستدعاة في المقدمة مثل، المرأة والرحلة اللذين يجسدان مركز الدائرة في مفهوم الحب عند البدوي، وبساطة التسلسل الموضوعي (تسلسل الموضوعات) من جهة أخرى. وقد أصبح هذا الطابع، بمرور الزمن، إكراها من خارج القول. وعليه فإن صورة الشاعر المعذب وقساوة الطبيعة وهجران المحبوب، تداخل صورة الممدوح أو «راعي الفنون» من أكثر من جهة من جهات القول، وقد تكون صورة بديلة أو تعويضا عن حرمان عاطفي. وهذا تفسير غير دقيق تماما، فالنسيب حصيلة قواعد شعرية أو سنة شعرية، وكان الممدوح هو الذي يرغب فيه، ويمليه ضمنا على الشاعر.
وقد يكون المقترب الذي يقترحه جمال الدين بن الشيخ هو الأحدث من بين كل هذه المقاربات التمامية. فقصيدة أبي تمام في تقديره، صورة «للشعر العربي الوسيط». والقصيدة عنده «عرض شبه رتبي للموضوع» «يوجه الإبداع» ولكن «بدون أن يحتويه»، ذلك أن بناءها حسب القوانين الموضوعة «لا تصنع أثرا شعريا» وإنما تحد الحيز اللغوي ومحتواه ، أي ذاك الذي يتحرك فيه الشاعر. من ذلك أن الشاعر لا يقول «الخاص» في الحب أو هو يحاوله، وإنما «المشترك»، والمشاعر لا تتعلق بالتعبير، وإنما بالمبذول.
المآخذ على مقترب كهذا ترتد إلى ناحية في الشعرية مفادها أن مقول القول أو إنتاج الدلالة أمر يخص القارئ، وإنما الشأن للأساليب وطرائق التعبير. وهي لا تتعلق بالشكل الصوتي والإيقاعي والنحوي وحسب، وإنما بشكل المحتوى أو بنيته. وصحيح أن أبا تمام يستدعي موضوعات (المنازل المهجورة والرحيل والفراق…) وأن هذه الموضوعات»مناسبات»، ولكنها ليست مجرد مناسبات لاستعراض اللغة الجديدة، وإنما للتعبير عن «رؤية للعالم جديدة «فالنسيب»التقليدي» في مدحته:
قف بالطلول الدارسات علاثا
أمست حبال قطينهن رثاثا
يشرع على تشبيه قديم للغزالة حسب ابن الشيخ. ويتحول، عند العكام، إلى «صورة سينمائية» أساسها «قفز في الزمن»، يوحي بعجز الزمن الذي يفسد كل شيء، عن النيل من المحبوب أو من جماله. وهذا عند الباحث «اكتشاف»، من الشاعر، مثير. وهي في الحقيقة المعنى مطروق في الشعر قبل أبي تمام، وبخاصة عند العذريين. ومثاله قول جميل:
صغيران مربعنا واحد
فكيف كبرت ولم تكبري
قد يظل، بإمكان الشاعر، أن يبلغ معنى مشتركا، بأدوات جديدة. ولكن يظل، بالإمكان أيضا، القول إن محتوى جديدا يستدعي في الأعم الأغلب أساليب جديدة، ويستولد صورا غير متوقعة، أو لغة جديدة، بعبارة أخرى من شأنها أن تغير مضمونا قديما، أو أن تنظر إليه، من زاوية مختلفة. وما يصنع الأثر الشعري عند جمال الدين بن الشيخ إنما هي الكتابة أو الخطاب الحي الذي يتكون من المادة الخاصة بالشاعر، ويحل محل الواقع الموصوف. ولهذا يعيد الباحث قول جون كوهين «الشاعر ليس شاعرا من خلال ما فكر فيه أو استشعره، وإنما من خلال ما قاله. إنه خالق كلمات لا أفكارا، وكل عبقريته في الإبداع اللغوي».
إن الكلمة وحدها، حسب الباحث، هي التي تشحذ أدوات الكتابة، وتحد طريقة الصياغة وتحقق الأثر. وبنية القصيدة عنده عبارة عن «متوالية من التجارب اللغوية» التي ينهض لها تنظيم الأبيات الصوتي. وتدور هذه المتوالية حول دوافع يفيض عليها الشاعر، ثم يقصيها أو ينقلها إلى مستوى أدنى». وتتعزز هذه التجارب، بحركة تنفخ الحياة في القصيدة، وتتجلى من حيث هي «متتالية من فترات (أطول) صاعدة ونازلة تحوي كل منها أبياتا كثيرة».