في الطريق الى شمال مدينة (عين سفنىَ) مركز قضاء شيخان(40 كم شرق دهوك) تقودنا طرق متعرجة في واد جبلي كي نصل الى جبل شيخ (ئادي) حيث شق كبير يتوسطه طريق معبد فيه الكثير من المتعرجات ينتهي بمدخل جبل لالش.. ومع دخولنا الى الجبل تضيق مساحة السماء، فنرى انفسنا في مكان مختلف، نستنشق هواء عذبا ونقيا، مصدره رياح خفيفة لا تنقطع على مدى ايام السنة انها رياح تختلف عن غيرها من اشكال الرياح، المكان هنا يخيم عليه الصمت، وشموخ رؤوس قباب المصلحين واولياء الايزيدية، انه معبد «لالش» المعبد الرئيس لأقدم ديانة كردية هي الايزيدية التي تعرف في المصادر العربية بـ(اليزيدية).. يؤمه الايزيديون من كل انحاء العالم، انه بقعة فريدة من نوعها، حيث الصمت والهدوء والهواء النقي والخضرة والاشجار والقباب التي تعلو مرتفعات تمتد على جانبي الوادي المقدس، تتوزع بينها صور ومشاهد تتحدث وتنقل لنا قصصاً متنوعة ولكل قصة خلفية تاريخية ودينية لها صلة بالديانة الايزيدية.
موقع الملائكة
معبد لالش اول موقع استقرت فيه الملائكة وهو بمثابة خميرة الكون، ذلك حسب الميثولوجيا الايزيدية ونصوصهم الدينية المقدسة المدونة باللغة الكردية حيث يشير احد النصوص الدينية اليه (لالش كر كنياته – وجعل من لالش الاساس).
التجوال في اروقة وازقة المعبد الداخلية يأخذنا الى اعماق التاريخ ويحكي عراقة هذا الجبل وكم من مراحل ومواقف قد مرت عليه..فاغلب الرحالة والكتاب الذين كتبوا تاريخ هذا المعبد قدموا الكثير من التفسيرات عن اصله واساسه، فنجد الباحث الاثاري عبد الرقيب يوسف يصف المعبد بأنه اقدم موقع قائم في كوردستان حيث يرجع تاريخه الى الالف الثاني قبل الميلاد، وهو امتداد للتراث والديانة الميثرائية التي كانت قائمة ومنتشرة في كوردستان.. ويستند الباحث في هذا القول الى وجود العديد من رموز الديانة الميثرائية فيه كما ان هذا القول يؤكده بعض الباحثين الايزيديين اذ يعدون الديانة الايزيدية امتدادا للديانة الميثرائية كونها تتكون من اعراق وتقاليد دينية شبيهة بما كانت موجودة في الديانة الميثرائية.
في حين يقول الكاتب الايزيدي بير خدر سليمان: (ان لالش كلمة كردية متكونة من «لا - ولاش « بمعنى في مكان الهدوء «هش من لاش» كما يشير اليه، الايزيدية بمعنى «الموقع المقدس – لا له لش»..).
افعى النبي نوح
قبل الدخول الى الوادي تصادفنا الى يمين الطريق (برا عنزل – قنطرة او معبر عنزل) الذي يعبر عليه كل شخص ايزيدي ينهي مراسيم زيارته للمعبد، وعندما نتقدم قليلا تبدو امامنا القباب وزوايا وجوانب المعبد وهي تظهر للعيان بصورة تدريجية.
عند مدخل المبعد الرئيس المبني من حجارة مربعة الشكل وبمقاسات متقاربة يرتفع جدار الى اكثر من اربعة امتار وبوابة كبيرة مصنوعة من خشب الزان يرجع عمرها لاكثر من اربعين عاما بحسب القائمين على المعبد..والى الجانب الايمن من باب المعبد الرئيس، حيث مدخل المعبد تعلو صورة الحية السوداء التي يقدسها الايزيديون معتقدين بانها انقذت البشرية عندما لفت نفسها في الثقب الذي اصاب سفينة نوح عندما اصطدمت بصخرة اثناء الطوفان.. ولهذا السبب نرى ان للحية السوداء في الموروث الديني الايزيدي مكانة كبيرة فهي موجودة في اغلب معابدهم الصغيرة الاخرى ومزاراتهم المختلفة.
امام باب المعبد ينبسط ايوان واسع بارضية مفتوحة تم رصفها بالحجر الحلان وبمقاسات واحدة، والى اليمين موقع او ( دكة – بابا شيخ - الزعيم الروحي الديني للايزيدية حيث يجلس عنده في الاعياد التي تقام في لالش وهو يستقبل زائريه) ثم الى اليسار مقام بابا جاويش الذي يقوم بمقام الارشاد الديني في المعبد.
مدخل وايوان المعبد تتوسطه سبعة اعمدة مبنية من الحجر الجبلي وبارتفاع خمسة امتار حيث يمثل كل عمود، واحدا من الملائكة السبعة، في تسلسل القداسة للملائكة في الديانة الايزيدية، وليس بعيدا عن المدخل تقع بركة ماء تسمى (بركة ناسر دين – احد اولياء الايزيدية) وحول كل عمود يمكن للزائر ان يشد قطعة قماش ويفك عقدة اخرى، دلالة على ان تفتح واحدة من العقد لاخرين يتمنون ذلك.
على جانبي المدخل تتوزع مواقع عدة (لفتايل – قناديل) تشعل كل اربعاء من ايام الاسبوع (وهو اليوم المقدس لدى الايزيدية) ثم قبر الشيخ ئادي كما يعرفه الايزيدية (الشيخ عدي بن مسافر الهكاري الكوردي المصلح الديني الرئيس للايزيدية وهو الذي وضع العديد من المقررات الجديدة في الديانة الايزيدية بعد ان انزوى بينهم في معبد لالش وتوفى في 555 هـ) ثم تتشعب الزوايا وعين الماء الذي يصب في مجرى رئيس داخل كهف عميق ينزل اليه الشخص لسبع درجات بنحو مترين.
والى الجانب الاعلى يقع اقدم موقع في المعبد يعرف بـ(خانا ده نا – خل الدنان) حيث كان الزيت المستخدم في اشعال القناديل يحفظ فيه، ولايزال بعض من هذه القناديل موجوداً ويعود تاريخه لاكثر من ثلاثمائة سنة بحسب القائمين على العبد.
علامات ورموز قديمة
معبد لالش طراز فني نادر في العمارة والبناء، يمتزج فيه الفن السلجوقي وكذلك الشرقي القديم المرتبط بالتراث الكردي من حيث الابنية الواسعة فضلا عن وجود بقايا علامات ورموز قديمة جدا تعود للقرون الاولى قبل الميلاد وهي مرسومة على الجدار الخارجي ويمكن ملاحظتها (عين الشمس، الحلقة المفتوحة، علامات اخرى لايمكن ملاحظتها الا بالتمعن فيها جيدا).
والى ذلك تنتشر على جانبي الوادي الجبلي قباب ومزارات عديدة لاولياء الايزيدية ولكل واحدة حجمها الخاص من البناء مع شكل موحد فبعضها مخرطوية تضم اثني عشر مفصلاً دلالة على عدد اشهر السنة في حين تستند اخرى الى قاعدة مربعة دلالة على الجهات الاربع، وهي تتجه نحو الشمس لما لها من مكانة مقدسة في الديانة الايزيدية، كما تنتشر في الاطراف الدكات والمواقع التي يجلس عليها الزائرون، متوزعة بين كل زاوية وخطوة باتجاه القناديل.
يقول بابا جاويش الذي يعمل في المعبد بمهمة الارشاد الديني والاشراف عليه هناك اكثر من 365 موقعاً يتم فيه اشعال الفتايل (قناديل – جرا) مساء كل اربعاء.. ويضيف بابا جاويش الذي يعمل في المكان منذ سبع عشرة سنة « يوجد في لالش ست قباب كبيرة ابرزها قبة مزار شيخ عادي، شيخ شمس، شيخو بكر وكانيا سبي، واكثر من اربعين موقعا ومقاما مقدسا لاوليائنا العظام، ولكل واحد موقعه ومقامه لدى الايزيدية».. ويصف بابا جاويش المكان بأنه( لامثيل له في المعمورة حيث تشعر النفس فيه بالاطمئنان والرهبة لأنه مقدس في كل شيء)
ويضيف «في ليلة الثلاثاء -الاربعاء بداية كل سنة جديدة يتحول المعبد الى شعلة من الضياء حيث يتم اشعال قناديل بعدد ايام السنة دلالة على استقبال الايزيدية للسنة الجديدة بالنور».
عين الماء المقدسة
الى الجانب الاخر من الوادي الجبلي الذي يمتد لاكثر من خمسمائة متر في ارتفاع باتجاه الغرب حيث مدخله الذي يبدأ من الشرق نرى موقع (كانيا سبي – العين البيضاء) الذي يعده الايزيديون اقدس موقع في المعبد وهي بركة ماء زلال تنزل في حوض عبر مدخل بوابة العين وعلى اليمين منها موقع السادن الذي يشرف عليها، وهنا يتوجب على كل شخص ايزيدي ان يرش الماء عليه في هذا المكان خاصة اؤلئك الذين لم يسبق لهم زيارة المعبد، وهذا الامر بمثابة التعميد الموجود لدى المسيحية، وفي لحظة وصولنا لهذا المكان وجدنا عائلة قادمة من قضاء سنجار تقوم بهذه المراسيم وهي رش الماء على كل الذين لم يسبق لهم زيارة المعبد، فتحدث الينا احد افرادها واسمه سليم جمو 46 سنة قائلا «انا فرح جدا لانني استطعت ان ازور المعبد لاطهر واعمد اطفالي حديثي الولادة، كونه من الاركان الرئيسي للفرد الايزيدي، وعين ماء (كانيا سبي) هو اقدس مكان هنا بحسب تصوري».. ويضيف جمو «ان مياه هذه العين تستخدم لعلاج الامراض لأنها في مكان مقدس وتنبع من عمق الارض».
استمرت جولتنا في المعبد، بعد ان تركنا جمو وعائلته. لنرى من بعيد قبة الشيخ شمس وهو من الاولياء الرئيسين للديانة الايزيدية وهي ترتفع الى السماء لاكثر من عشرة امتار وتحتها مرقد صغير وكهف يقال عنه انه كهف (صخري جن)..
المعبد كما يراه الاخرون
التجوال في معبد لالش يأخذك الى عالم من الهدوء والهواء النقي، عالم من السكينة الروحية نادرة الوجود، فقد وصفه الكثير من الكتاب بأجل الاوصاف ولايمكن ان يستجمع كاتب كل مزاياه مرة واحدة، فالاشجار المختلفة التي تنتشر على جانبي الوادي الجبلي من شجر البلوط و الزيتون وهما الاكثر ثم اشجار التوت التي يرجع عمر بعضها الى مئات السنين فضلا عن اشجار الحبة الخضرة كلها تمتزج في الربيع بالوانها الزاهية لتعطي للزائر لوحة فنية نادرة.
يقول الكاتب داود ختاري الذي يعد ببلوغرافيا، عن معبد لالش ان وصف الباحثين للمعبد كان شيئا مثيرا، لأن كل واحد منهم كان يركز على شكل او جانب او موقع منه.. داود الذي يأمل ان ينهي ببلوغرافيا معبد لالش في فترة قريبة يستطرد شارحا العديد من المواقف والمواقع البارزة التي طمست نتيجة اعمال البناء غير السليمة والمخططة لها.
وفي كتابه معبد لالش الصادر باللغة الكوردية في دهوك سنة 2000 يشير الكتاب والاعلامي الايزيدي حسو هورمي الى ان معبد لالش كان معبدا دينيا للايزيدية قبل مجيء الشيخ عدي بن مسافر الهكاري اليه لأن فيه مواقع لشخصيات تاريخية تعود لازمنة قديمة لها مكانة في الموروث الديني الايزيدي.
وعن ابرز الكهوف الموجودة في لالش يشير حسو الى ثمانية ابرزها (كهف – شكفتا مير براهيم، شكفتا جنا، شكفتا جلةخانى، شكفتا هسن جناري وشكفتا ئومرخالا). وكل هذه الاسماء تعود لتاريخ قديم للايزيدية قبل الفي سنة وبعضها لالف وخمسمائة عام.
رحالة ومستشرقون كثر زاروا المعبد وبعضهم رسم صورته بدقة مثلما فعل الباحث الاثاري هنري لايارد الذي عاش في نينوى بين العامين 1842 – 1845 فضلا عن العديد من الكتاب عربا واجانب وكورداً الذين كتبوا عن الايزيدية من دون ان يغفلوا دور معبد لالش في هذه الديانة، اذ يعد اقدم معبد قائم في كوردستان ويعتبره الايزيدية اقدس موقع على الارض، لذلك تعمل المديرية العامة لشؤون الايزيدية في اقليم كوردستان العراق بالتعاون مع حكومة الاقليم وشركة المانية متخصصة في التخطيط لوضع التصاميم الاساسية لترميمه وصيانته، كما تعده مدير الاثار في دهوك افضــل موقع مرشح ليصبح ضمن قائمة التراث العالمي.
شبكة الاعلام العراقي