TODAY - December 05, 2010
معرض مكرس لبغداد: الأصالة واكتساب الهوية
على قاعة أكد للفنون، قدم الفنانان مهدي الاسدي وستار لقمان معرضهما الزيتية والاكريلك على القماش،وبقياسات مختلفة،بيد أن هناك مشتركات ونقاط تلاقي عديدة تجمع الفنانين ضمن منهج رؤيوي واحد،فكما يعرف اغلب المتابعين للشأن التشكيلي في العراق بان هذين الفنانين يحرصان على بلورة مفاهيم جماعة بغداد للفن الحديث ويعملان بلا ملل كي يرسخا مبادئ الأصالة ويبحثان في السبل التي تكفل حق الاستفادة من الموروث الوطني واكتساب الهوية .
إننا وفي آلية التلقي للفنون نستطيع الكشف عن نقاط التباين، في عناصر العمل الفني، بدءا من المواد الخام الداخلة في بنى اللوحات مرورا بمسوغات الشكل والبحث في القيم المضمونية، ومؤكدا لنا بان الفنانين مهدي الاسدي وستار لقمان لابد أن يبتكرا عناصر الجوهر من خلال السمات الخاصة لكل منهما،وذلك لن يتأت إلا من محفزات المشترك،الذي انطوى على أكثر من خمسين لوحة منفذة بالألوان المختلفة .
لقد استلهم الفنانان موضوعا مشتركا،مجترحا من ذاكرة مدينة بغداد،لافي عصورها السحيقة،وأزمنتها المخملية الباذخة ولكن، بغداد في منتصف القرن العشرين، أيام كانت تطرب على غناء المقام العراقي وتشنف أذانها للأخبار السياسية المقلقة،لاسيما في الأوضاع المضطربة بعد الحرب العالمية الثانية .
إن الذاكرة لدى ستار لقمان، تتدفق بحيوية سردية وكأنها لحظة تنبه وظفر بملمح اجتماعي أو اصطياد مشهد يكاد إن ينسى،هكذا تجيء اغلب لوحاته لتعبر عن أهمية التفاصيل والأجزاء ضمن الوحدات الصورية والاشارية والرمزية، فالفنان وكأنه يحكي قصة، إما مهدي الاسدي فقد ركز على القيم الروحانية في الحياة البغدادية وقدم خلاصته وكأنها ضرب من التداعي الشعري أو الموسيقي،ولذا اختار إن يموه بالألوان والتراكيب ساعيا وراء رغبات حريته في حركة الألوان والخطوط وصولا بما يشبه الرسومات التعبيرية المتدانية من التجريد.
_ فكيف يتسنى لنا الاحتكام ووضع التقدير؟
_ من المؤكد إن الفنانين لصيقين يبعضهما البعض منذ فترة طويلة، تربو على الأربعين عاما وان بينهما زاد وملح كما يقال فالبدايات لكليهما كانت مطلع العقد السابع من القرن الماضي، ففي تلك السنوات كانت انتباه ستار لقمان للاتجاهات التجريدية بمعناها المطلق في حين كان مهدي الاسدي، يحث خطاه كي يلتحق برعيل الفنانين خضير الشكرجي وناجي السنجري وذلك برسم الوجوه العراقية والأزقة والشناشيل وسوى ذلك من الموضوعات العراقية.
ولكن، وبعد مضي أربعين سنة وجدنا ستار لقمان يشتغل على أساس إنكار ضروب الإعمال التجريدية متخليا عن حريته في المعالجات الأدائية للخطوط والألوان ولغة التعبير العصرية فهل يمكن عد هذا ترجع مقهقري؟
حين قلنا بان الفنان ستار لقمان كانت بداياته مع التجريد، فلأنه كان فنانا تقنيا وعارفا جيدا بتحولات الألوان ولأنه كان مخططا بارعا ويجيد صناعة الإشكال فمجموعة اللوحات الكبيرة التي كان يشارك بها في معارض الفن العراقي المعاصر، تشف عن عميق تصوره للوجود،وتوحي بممكنات فنية مؤهلة تماما لسبر أغوار عالم الحداثة،فحركة الفرشاة العريضة يمكنها إن تطبع انفعالاته وهواجسه بطريقة مدهشة حقا، غير إن اهتمامه الأخير برسم مشخصات عبارة عن موتيفات أو صور إيضاحية تزدان ببريق لوني وزخرف محبب لذاكرة التلقي ومفردات ووحدات صورية مبسطة للغاية تتيح مقروئية مباشرة وتشجع على إجراء التأويل في وضع مقارنات سهلة التلميح والتأشير، سنكرر السؤال هل هذا يمثل تراجعا؟
_إن الفنان ستار لقمان ذكي ولماح، كما انه واقع تحت نير الضغوط الموضوعية وحين رفع رايته البيضاء ليس ارضاءا لذائقة التلقي والمحاولة لاستدرار حنينه للماضي وشغفه بالألوان العديدة التي تعطي طابعا زخر فيا أو تزويقا، إنما لإرضاء حياته الشخصية وطموحه كي يبقى مستمرا ومتواصلا مع الفن في أزمنة الانتهاكات والجور والتعسف، فستار لقمان أسوة بالكثير من الفنانين داخل العراق تحمل وزر الحقب التاريخية المريبة مؤاثرا البقاء في الداخل وبذا يجب دفع ثمن البقاء حيا في عالم الأموات، فبمجرد إن نفهم سبل العروض الفنية.
إن الفن ليس ترفا ولألهوا ولارتفعا،ولعله يمثل موقفا ونظرة مستشرفة أو انه فهما معمقا لفلسفة الوجود، لأنه لغة بوح كاملة فالنصوص البصرية قد ترقى فوق اللغات الأدبية على وفق سياقاتها المعتادة وينبغي على أي فنان تفهم مغزى الفنون الحداثية وما بعدها ليس بإجراء التغيير وتدمير الإشكال أو التيه في ملغزات المقصود والمرموزات أو التأكيد على التخطيات التقنية وسوى ذلك، فعملية فهم الفنون هي ذاتها عملية ممكنات إجراء التحاور الحضاري ومسايرة العالم المتمدن ومواكبة التطلعات الجديدة باستمرار في بغداد وبقية مدن العراق والكيفيان التي تتم بها عمليات اقتناء الأعمال الفنية،فتلك مشكلة حقيقية كابد محنتها كل الفنانين المتواجدين داخل العراق، فقد مرت الفنون بأزمات عديدة وانحسار مدمر، كلف الفنانين غاليا وستار لقمان كي يوازن في اشتراطات حياته الأسرية والاقتصادية كان عليه إن يبتكر فضاءاته وعوالمه الخاصة بمنأى عن الاستسلام ورسم صور شخصية لذوي الأوسمة والأنواط، وحين أخذته العزة برسم أشياء بسيطة ومحببة وتنتسب لأهواء ورغائب التلقي فانه بذلك كمن وضع حجر أساس لمخططه المستقبلي،فراح يقنن ويؤدلج أفكاره ويبحث عن بدائل رؤيوية تسوغ له أعماله الفنية وتفعلها بالشكل الذي يسمح بالمرور المعاصر لا الحداثي فالمعاصرة تعني مسايرة المناهج السائدة أما الحداثة فتعني لحظة ابتكار الذات بالاستناد لفكرة تدمير المقدس ونبذ الماضي والإتيان بجديد حقا، إننا وفي أزمنة الحروب المدمرة نرضى أن نبقى أحياءا نرزق فحسب وكما قال احد أصدقاؤنا الشعراء :شكرا للحرب لأنني بقيت حيا .
إما مهدي الاسدي فانه حافظ بالقدر المستطاع كي يلبي احتياجات دواخله ويكون أمينا على منهجه ورؤيته،بل انه وفي هذا المعرض زاول اللعب التجريدي أكثر مما كان عليه مسبقا .
والفنان مهدي الاسدي، فانه هو الآخر وقع تحت تأثير الضغوط المهلكة، وكابد ضروبا من العيش العسير، ولكننا في الفن دوما لانقبل المهادنة أو لانجد ضرورة لوضع التبريرات فالفن هو الفن على الدوام، ومهدي الاسدي،دأب لكي يتحلى بهدوئه والسير باستقامة على خط مستقيم ونهج واضح فمنذ بداياته المبكرة كان مغرما بالألوان ومستوياتها وتداخلاتها ويعرف أسرار المواد الخام التي يتعامل معها كما يحدس تلقائيا حجوم اللوحات ومديات استيعابها للإنشاءات التصويرية،ولأنه فنان عقلاني فانه حافظ على اتجاه اللوحة،ولم يعمل بمبدأ المغامرة لأفي تخطي مواد الرسم ولا في صياغات الأفكار المشاكسة وبهذه الحالة يكون الرسم حتى وان بدا متحررا بعض الشيء من الجوانب الأدائية والتقنية إلا انه مؤسس على قواعد الضبط المدرسية الصارمة فتبدو اللوحة آخذة لكفايتها ومكتملة وكانها إيقونة ثابتة، هكذا منظر طبيعي من بغداد،يحفى بحركة العربات والمارة وتلوح البيوت في الأفق المموه وحدود جرأة الفنان لاتخرج عن احتمالات وضع الألوان المتباينة والمتضادة وخلق جو من الانسجام الغريب بينها والمدهش حقا أو والشجاعة حقا أن نبصر لحسن التالف بين الأحمر والأزرق وهذا سياق من العمل تميز به مهدي الاسدي عن سواه.
إن الفنان مهدي الاسدي في أعماله الأخيرة انسحب إلى الاتجاه التجريدي أكثر مما كان عليه مسبقا وكأنه يريد التلميح بمنعطف آخر جديد سيشتغل عليه لاحقا، ولم لا؟
اعتقد إن إحدى غايات الفنون التجريدية تكمن في لحظة الشعور بوطاة الزمن الهارب رغما فالشعور بالزوال وتبدل الملامح والسير في عجلة العد التنازلي سيجعل الفنان يعيش شعورا آخرا وإحساسا بالا جدوى أو انه في التفسير المعنوي شعور بالعزلة والاغتراب ولعله يكون عنوانا لتلاقح الألوان وتحولاتها مع الإيقاعات النغمية التي ترنو في الذاكرة المشوشة فبغداد في هذه الحالة يستدل عليها من خط لوني أو من كتلة تتمحور في جانب من اللوحة الجديدة،فقد نبصر وجودا معينا أو نلمح صيغة لجماليات المكان ولكننا سنكتشف أيضا وجودا آخر مختلف .
انه الوجود الروحي المبتهل وذلك موضوعا آخر سابق لأوانه.
إن أهمية هذا المعرض تتأتى من كونه بحوث لونية لمدينة بغداد واحتفال بهيبتها ووقارها،ربما يمثل انعطافة جديدة في تاريخ الفن العراقي المعاصر ولكنه يرمز للحضور الشخصي المميز وإشارة معلنة بأننا هنا .