القُشلة ذاكـرة بغــدادية تنازع البقاء
في بغداد بناية تحوي بين طيات جدرانها تاريخ مدينة بأكملها حيث شهدت أزقتها وعرصاتها صراعات ولاتها وعصيان أهلها وتذمر جنودها.
وتحملت دروبها وقع أقدام جنود الوالي العثماني الإنكشارية، واحتضنت جنباتها أول حكومة وطنية للدولة العراقية الحديثة.
إنها بناية القشلة بوسط بغداد التي تعد بمثابة ذاكرة المدينة وحافظة تاريخها بأفراحه وأتراحه.
وتزخر شرفات القشلة الغربية المطلة على نهر دجلة بامتداد مئتين وخمسين مترا تقريبا مقابل كرخ بغداد, بحكايات عن الواليين العثمانيين مدحت باشا وناظم باشا مثلما تحتفظ جدرانها الشرقية بذكريات النشأة الأولى للصحافة العراقية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
وقد شهدت الأزقة القريبة من البناية التي تتفرع لتتصل مع شارع الكتب, أو شارع المتنبي, تلك البدايات الأولى لصحافة بغداد.
وتتكون البناية من طابقين يمتدان بشكل أسطواني تتوسطهما حديقة.
ويروي الحاج خليل العبيدي من سكان محلة الحيدر خانة المجاورة لمبنى السراي الحكومي السابق أو القشلة العثمانية القديمة شهادات عن المبنى التاريخي قائلا "من يريد أن يتعرف على بغداد خلال ثلاثة قرون من تأريخها القديم لا بد أن يستعرض تأريخ هذه البناية التي تتعرج منها الأزقة التي كان يمر منها الوالي العثماني وحاشيته من الجنود الانكشارية وهو يحكم العراق من الشمال إلى الجنوب".
عبق الماضي
ويردف قائلا "حتى أن مدحت باشا الذي أمر ببناء الساعة وسط مبنى القشلة أراد أن يسمع رنين أجراسها كل أهل بغداد وأن يسمع وهو داخل السراي الحكومي أصوات باعة صحيفة الزوراء, أول صحيفة عراقية، وهم يقطعون الطريق من سوق السراي حتى مبنى المدرسة المستنصرية القريب منها".
يضيف الحاج العبيدي "لا ينظر إلى القشلة على أنها مجرد بناية قديمة تتوسط العاصمة العراقية بل لكونها حاملة لتأريخ بغداد وشاهدة على صراعات ولاتها وعصيان أهلها ثم على اجتياحها من قبل الجنود الإنجليز في العام 1915, قبل أن تحتضن أول حكومة عراقية عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة في مارس/آذار من العام 1920.
ورغم أن أحوال البلاد تغيرت من حال إلى حال عبر العقود التسعة الماضية، والحديث ما يزال للعبيدي, فإن عبق الثقافة ما فتئ يفوح من أبنية مطابع صحيفتي الزمان والبلاد وغيرهما من صحف عقود الثلاثينيات والأربعينيات والتي تقف القشلة بكل شموخها شاهدة عليها.
ويمتلك عبد الرحمن حسون (88 عاما) ذاكرة متقدة عن يوميات عمله في مطبعة صحيفة حبزبوز المتخصصة بالفكاهة التي أصدرها ثابت نوري مطلع ثلاثينيات القرن الماضي في الزقاق الثاني الذي يواجه بناية القشلة.
حكاية رجل أعمى
ويروي عبر ذاكرته حكاية رجل أعمى اسمه صبحي كان يقرأ القرآن الكريم عند الساعات الأولى من صباح كل يوم وهو متكئ على جدار بناية القشلة.
وما أن يبدأ الرجل التلاوة بصوته الرخيم مخترقا جدران القشلة حتى يخرج عليه وزير الخارجية نوري باشا السعيد -الذي اتخذ من البناية مقرا لوزارته نهاية أربعينيات القرن الماضي- فيطلب منه أن لا ينقطع عن التلاوة اليومية وهو يفترش رصيف الشارع العام.
ويمضي حسون قائلا "عندما تحولت البناية مقرا لوزارة المالية قرر الوزير مطلع عام 1950 تخصيص راتب لصبحي قارئ القرآن ونقله ليصبح قارئا في دار الإذاعة العراقية".
ويقول المهندس ناظم عبد الرزاق من أمانة مدينة بغداد عن بناية القشلة إن عمليات الترميم التي تجرى دائما على البناية تأخذ بنظر الاعتبار إعادة الشيء إلى مكانه وعلى هذا الأساس فإن أي قالب طوب قديم يرفع من البناية يوضع مكانه قالب آخر بنفس المواصفات حفاظا على شكل المبنى واحتراما لتأريخه الذي هو جزء من تأريخ العاصمة العراقية.