قلعة أربيل.. سجل حافل لتاريخ يمتد لأكثر من 6 آلاف سنة
واحدة من 4 مواقع في العراق مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي
بعد إدراجها من قبل منظمة اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي ما زال العمل جاريًا في إعادة إحياء قلعة أربيل الأثرية رغم الأزمة الاقتصادية التي يشهدها إقليم كردستان العراق منذ نحو عامين.
«الشرق الأوسط» تجولت في أحياء القلعة وأزقتها التاريخية مسلطة الضوء على أبرز معالمها التي تحمل كل واحدة منها سمات عصر من العصور التاريخية التي مرت بها، والتي تعد واحدة من أقدم المستوطنات البشرية على سطح الأرض.
تمثل قلعة أربيل كيانًا حضاريًا متميزًا مطلاً على مدينة أربيل الحديثة عاصمة إقليم كردستان، حافظت القلعة على نسيجها الحضري وطابعها المعماري على مدى آلاف السنين الماضية، فتاريخ وجودها يعود إلى أكثر من ستة آلاف عام من الآن، فهي واحدة من أقدم المستوطنات الآهلة بالسكان بصورة مستمرة في العالم بدليل الطبقات المتعاقبة للحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والفارسية والإغريقية والإسلامية والعثمانية.
تقع القلعة على قمة تلة ترابية تبلغ ارتفاعها ما بين 28 و32 مترًا، وهي ذات شكل بيضاوي يبلغ قطره الكبير 430 مترًا، أما قطره الصغير فيبلغ 340 مترًا، أما مساحتها فتبلغ أحد عشر هكتارًا، ويعد الطابوق اليدوي المادة الأساسية للبناء في القلعة، أما النسيج الحضري للقلعة فهو عبارة عن شبكة من الأزقة الضيقة المتعرجة والدور التقليدية المتراصة ذات الفناء الوسطي.
وتشهد القلعة حاليًا تنفيذ مشروع واسع لإعادة تأهيلها وترميمها تحت اسم مشروع إحياء القلعة. وعن تفاصيل هذا المشروع، قال دارا اليعقوبي، رئيس الهيئة العليا لإحياء قلعة أربيل لـ«الشرق الأوسط»: «مشروع إحياء قلعة أربيل من المشاريع الطويلة الأمد، المشروع بدأ كفكرة في عام 2007، ومن ثم أعدنا أنواع البرامج والخطط والتصاميم الأساسية وبدأنا بالتنفيذ في 2010، مبدئيًا مدة المشروع 25 سنة قابلة للتمديد، وتقدم لنا منظمة اليونيسكو المساعدات الفنية والمشورة في العمل. واستطعنا حتى الآن ترميم وتطوير عدد كبير من الدور، قسم منها يطل على الواجهة الخارجية للقلعة، وقسم من الموجودة بين أزقة الداخلية للقلعة التي ليس بالمقدور مشاهدتها حاليًا، وقسم آخر منها يقع على الشارع الرئيسي داخل القلعة. لهذا لدينا عدد من المباني التي طورت بحيث يمكن إشغالها. كذلك متحف النسيج الكردي هو أيضًا رممناه وأعدنا تشغيله، ويعد من الأنشطة الجيدة، وهناك أيضًا معرض التراث الكردي التابع لوزارة الثقافة الذي يقع على الشارع الرئيسي داخل القلعة، وتوجد دار الأزياء الكردية التي تُدار من قبل اتحاد نساء كردستان. وبنينا داخل القلعة محلات جديدة لم يكتمل إنشاؤها بعد».
وتوزعت أحياء القلعة تاريخيًا على ثلاثة أحياء رئيسية، وهي السراي التي تمثل الجزء الشرقي من القلعة، أطلقت عليه هذه التسمية لأنه يظم المباني الإدارية للحكومة والكثير من دور الأغنياء والوجهاء، وكذلك دور المسؤولين الحكوميين، أما الحي الثاني فكان يسمى التكية، وأطلقت عليه هذه التسمية لأنه يضم الكثير من المباني الخاصة بأداء الطقوس الدينية، ويشمل هذا الحي الجزء الوسطي والشمالي من القلعة، والحي الثالث في القلعة كان يسمى الطوبخانة الذي شمل الجانب الغربي منها، ويسكنه بشكل كبير الحرفيين. يشير اسم الطوبخانة إلى وجود المدفع الذي كان يستخدم في الدفاع عن القلعة ضد المهاجمين، وصُنِعَ هذا المدفع عام 1820م من قبل الأسطى رجب راوندوزي.
وتعد التلة الأثرية للقلعة نتيجة للتراكمات الطبيعية لبقايا الحضارات المتعاقبة على مر التاريخ ولآلاف السنين، ومن أقدم الشواهد على وجود القلعة الذي يعود إلى فترة العبيد وهي الحقبة التاريخية التي بدأ فيها الناس بالاستيطان في المدن، وعلى مر التاريخ كانت التلة المرتفعة معلمًا بارزًا على الطريق الملكي القديم وطريق المسافرين والعابرين لسلسلة جبال زاكروس من جهة الشرق، وكانت أربيل إحدى المدن الرئيسية في الإمبراطورية الآشورية، واشتهرت القلعة بوجود معبد عشتار فيها، وضم المعبد مدرسة دينية ومرصدًا فلكيًا كما آوى الكاهنات اللاتي يتنبأن بالمستقبل.
وفي عام 521 قبل الميلاد، وحد داريوس الأول الملك الأخميني إمبراطوريته إداريًا وعين حاكمًا محليًا لأربيل، أما داريوس الثالث فاختار أربيل قاعدة له في عام 331 قبل الميلاد، قبل هزيمته أمام ألكسندر الأكبر في معركة كوكميلا (أربيل). وبعد المعركة وجد ألكسندر كنز داريوس وملابسه الملكية المهجورة متروكة في القلعة، وعقب وفاة ألكسندر المبكرة تولى شقيقه الحكم ليصبح حاكم أربيل عام 321 قبل الميلاد. وكانت القلعة عاصمة لإمارة حدياب بعد أن مُنحت الحكم الذاتي من قبل الفرثيين خلال القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، وأصبحت فيما بعد مركزًا لليهود، وبعد ذلك مقرًا لرئيس الأساقفة المسيحيين، وغالبًا ما كانت إمارة حدياب ساحة للمعارك التي دارت بين الروم والبيزنطينيين، وكذلك المعارك بين إمبراطورية الفرثيين والساسانيين. فقدت أربيل وقلعتها أهميتها بشكل مؤقت في العهد الأموي، حيث طور الأمويون مدينة الموصل واتخذوها عاصمة الإقليم، لكنها سرعان ما استعادت أهميتها بعد أن احتل زين الدين زنكي القلعة عام 1126.
وبعد عام 1190 بعدما أصبح السلطان مظفر الدين كوكبري حاكمًا، أصبحت أربيل مركزًا ثقافيًا وتعليميًا مزدهرًا في المنطقة، وبعد وقت قصير من وفاة كوكبري، هاجم المغول في عام 1232م المدينة المحيطة بقلعة أربيل ودمروها بشكل كبير، ورغم فشلهم في الاستيلاء على القلعة فإنهم تمكنوا من ذلك بعد المفاوضات التي أعقبت حصار القلعة عام 1258 - 1259.
أما بالنسبة للتنقيبات في القلعة، فقد كشف اليعقوبي بالقول: «منذ 70 عامًا، ونحن نقول عنها قلعة أثرية، لكن لم تجرِ فيها تنقيبات. وفي عام 2012 اتخذنا قرار المباشرة بإجراء الحفريات في القلعة وعملنا لمدة 3 سنوات واستطعنا العثور على السور الحصين القديم. ويعود إلى مراحل الإسلام الأولى ونهايات العصر الآشوري الذي استنتجناه من تحليل أشكال الطابوق وتحليل طبقات المونة وطراز البناء، وعملنا تحليلاتنا التي تعتمد على الكربون في جامعات إنجليزية وثَبُت أن عمره 200 عام تقريبًا ويعتبر هذا أول اكتشاف والسور يمتد إلى العمق الباطني للقلعة واحتمال أن يعود إلى فترات أبعد».
أدراج القلعة في قائمة التراث العالمي لليونيسكو يعد من أهم الإنجازات. هذه القائمة مهمة جدًا ولها خصوصية معينة، قد تكون هناك الملايين من المواقع الأثرية والتراثية الجميلة والمقبولة في العالم، لكن المهم كم منها مدرجة في قائمة التراث العالمي لليونيسكو، أكثر من ألف منها فقط مدرجة وقلعة أربيل واحدة منها.. في العراق ثلاثة مواقع أثرية مدرجة ضمن القائمة وقلعة أربيل تعتبر الرابعة، لكن ككردستان هذه أول مرة تدرج لنا موقع أثري في قائمة يونيسكو للتراث العالمي.
أثناء تجولنا في القلعة صادفنا سائحًا لبنانيًا كان هو الآخر في جولة سياحية بين أزقة القلعة ومعالمها، السائح شوقي زعنة، قال: «هذه المرة الأولى التي أزور فيها قلعة أربيل، شاهدت أشياء جديدة وجميلة، الإنسان هنا يستنشق التاريخ والحضارات القديمة والمتعددة. وبالنسبة للقلعة فهي جميلة جدًا، وأتمنى أن تُزار من جميع أنحاء العالم ويُشاهد فيها تاريخ إقليم كردستان التي تضم آثارًا، وبالأخص آثار قلعة أربيل المعروفة والشهيرة، نشعر بإحساس جميل وغريب عندما نشاهد كيف كان التاريخ وكيف كان يعيش الإنسان في هذه البلاد».