التغيرات المستقبلية في توزيع الأمطار ستؤثر على حياة أكثر من 3 مليارات شخص على الأقل (شترستوك)
أظهرت دراسة علمية جديدة هي الأولى من نوعها، أن التغيرات المستقبلية في توزيع هطول الأمطار في العالم قد تشمل أكثر من ثلثي اليابسة، مما يؤثر على حياة أكثر من 3 مليارات شخص على الأقل بسبب زيادة تساقط الأمطار أو الجفاف.
وكشفت دراسة قام بها باحثون أستراليون استخدمت نماذج مناخية لمحاكاة أنماط هطول الأمطار المستقبلية، أن منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط ستكون أحد أكثر المناطق التي سيتراجع فيها تساقط الأمطار بحلول نهاية القرن الحالي، فيما ستكون المناطق القريبة من القطبين والمناطق الاستوائية في أفريقيا وآسيا أكثر رطوبة.
دمج بيانات 146 نموذجا مناخيا
تعد النماذج المناخية إحدى الطرق الرئيسية التي تتيح للعلماء تفسير الظواهر المناخية التي وقعت في الماضي، وتحديد ملامح التغيرات المستقبلية للمناخ. وتُستخدم النماذج في حساب هذه التوقعات سيناريوهات الانبعاثات المحتملة للغازات المسببة للاحترار.
غير أن استخدام النماذج المناخية لمحاكاة أنماط هطول الأمطار المستقبلية يعتبر مهمة صعبة للباحثين، لذلك تَنتج توقعات متباينة لهطول الأمطار خاصة على المستوى الإقليمي.
الباحثون درسوا بيانات 146 نموذجا مناخيا لتحديد المناطق التي ستشهد اضطرابا في هطول الأمطار (نيتشر كوميونيكيش)
في الدراسة المنشورة مؤخرا في دورية "نيتشر كوميونيكيشن"، استخدم باحثون من جامعة كوينزلاند الأسترالية، نهجا مبتكرا يعتمد على بيانات 146 نموذجا مناخيا تغطي التوقعات التاريخية والمستقبلية من عام 1980 إلى عام 2100. وتمكنوا من تحديد المناطق التي ستشهد مستقبلا اضطرابا في معدل هطول الأمطار سواء أكان بالزيادة أم النقصان.
لكن هذه الاضطرابات لا تعني أن كمية المياه الإجمالية على كوكب الأرض ستتغير، وفق الدكتور حبيب بن بوبكر أستاذ الجغرافيا وعلم المناخ في جامعة منوبة التونسية الذي أكد في حديث خاص مع "الجزيرة نت" أن مجموع كميات المياه على الكوكب بحالاتها الفيزيائية الثلاث السائلة والمتجمدة والغازية تبلغ 1400 مليون كيلومتر مكعب، وهي كمية ثابتة لا تزيد ولا تنقص، وأن التغيرات لا تتعلق إلا بتوزيعها عبر المناطق واختلاف نسبها بين حالاتها الفيزيائية سواء أكانت سائلة أم متجمدة أم غازية.
النقاط الساخنة العالمية
وأظهرت نتائج الدراسة الجديدة، وفق تقرير نشره الباحث الرئيسي في الدراسة على موقع "ذا كونفرسيشن"، أن العديد من البلدان ستواجه ظروفا أكثر جفافا في المستقبل، وكشفت أن البلدان الخمسة التي ستكون الأكثر تضررا نتيجة تراجع تساقط الأمطار تنتمي لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وهي اليونان وإسبانيا وفلسطين والبرتغال والمغرب، حيث توقعت 85% على الأقل من النماذج انخفاضا كبيرا في هطول الأمطار السنوي بحلول نهاية هذا القرن إذا تواصلت الانبعاثات المرتفعة للغاية حتى نهاية القرن.
وفي المقابل أجمعت أكثر من 90% من النماذج على أن المعدل السنوي لهطول الأمطار في كل من فنلندا وكوريا الشمالية وروسيا وكندا والنرويج، سيتخذ اتجاها تصاعديا حتى نهاية القرن الحالي.
منطقة حوض البحر المتوسط ستشهد تراجعا كبيرا في تساقط الأمطار بحلول نهاية القرن (ناسا)
كما كشفت النتائج أيضا أن 70% من النماذج توقعت زيادة هطول الأمطار في معظم مناطق الصين والهند أكبر دولتين مكتظتين بالسكان وتضمّان معا أكثر من 2.7 مليار نسمة. وتوقع الباحثون أن تشهد بعض الدول الأوروبية بما فيها المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا هطول أمطار أقل في الصيف وأكثر في الشتاء مع بقاء المعدل السنوي دون تغيير يذكر.
وبحسب المؤلف الرئيسي للدراسة فإن توقعات هطول الأمطار ظلت غير واضحة في مناطق أخرى من العالم، وتشمل هذه المناطق أوروبا الوسطى وجنوب غرب آسيا وأجزاء من الساحل الغربي لأفريقيا وأميركا الجنوبية وكذلك معظم أستراليا.
وفي المجمل، فإن المناطق التي تواجه تغيرات في هطول الأمطار بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، ستغطي ثلث اليابسة، مما سيؤثر على 38% من سكان العالم بحسب السيناريوهات المعتدلة التي تتوقع خفض الانبعاثات بحلول نهاية القرن إلى نحو نصف مستويات عام 2050. غير أن هذه النسبة ستصل إلى 66% من سكان العالم إذا ما استمرت انبعاثات الغازات الملوثة دون انخفاض.
حوض المتوسط.. منطقة هشة عرضة لانخفاض تساقط الأمطار
في نتائج الدراسة برزت منطقة الحوض المتوسط كنقطة ساخنة توقعت أغلب النماذج المناخية أن تكون أكثر جفافا مع نهاية القرن بسبب التغيرات المناخية. وإلى جانب الدول المتوسطية الخمس التي احتلت أعلى ترتيب البلدان الأكثر تضررا في المستقبل نتيجة تراجع تساقط الأمطار، شمل هذا الترتيب أيضا دولا متوسطية أخرى مثل تونس وسوريا وتركيا وإيطاليا.
وعن الأسباب الكامنة وراء هشاشة هذه المنطقة تجاه التغيرات المناخية، يقول الدكتور حبيب بن بوبكر: إن خصوصية المنطقة المتوسطية التي تضم معظم الدول العربية، تتمثل في كونها ليست نطاقا مناخيا مستقلا بحد ذاته، بل هي منطقة انتقالية بين نطاقين رئيسيين هما النطاق المداري والنطاق المعتدل، لذلك تسمى منطقة شبه مدارية، وهذا يعني أن تأثيرات النطاقين المذكورين تتعاقب في الهيمنة عليها، فأحيانا تطغى تأثيرات التأثيرات المدارية الصحراوية التي تحمل التيارات الساخنة والجافة، وأحيانا أخرى تهيمن تأثيرات النطاق المعتدل التي تحمل التيارات الهوائية الشمالية.
وهذه الظروف وإن كانت تُكسب المناخ المتوسطي صفة التنوع في الفصول، فإنها تجعل المنطقة أكثر هشاشة إزاء التغيرات المناخية.
ويضيف الباحث التونسي أنه عندما نتحدث عن الدورة المائية والتغيرات التي يمكن أن تحدث لها، فإنه لا يمكن فصل ذلك عن معطيات الحرارة، فارتفاع متوسط درجة الحرارة نتيجة الاحتباس الحراري يؤدي آليا إلى اختلال في توازن الدورة المائية عبر التسريع في عملية التبخر.
ومن ناحية أخرى أصبحت التيارات الجنوبية الحارة تهيمن بشكل متزايد على منطقة حوض البحر المتوسط وخاصة على ضفته الجنوبية وتمثل حاجزا يمنع التقلبات القادمة من المنطقة الشمالية المعتدلة والحاملة للأمطار.
وأكد بن بوبكر أن مخاطر التغيرات المناخية في المنطقة العربية والمتوسطية وبقية مناطق العالم لا تكمن فقط في اتجاه متوسط الحرارة نحو الارتفاع، بل كذلك في تزايد حالات التطرف الحراري والمناخي بصفة عامة التي تتمثل في موجات القيض وموجات البرد الشديد -خاصة خلال الشتاء- نتيجة تصادم الكتل الهوائية الحارة والكتل الهوائية المعتدلة.
ونتيجة لذلك تشهد كمية تساقط الأمطار اتجاهين متطرفين خطيرين؛ هما تزايد حالات التطرف في هطول الأمطار تتمثل في فترات جفاف طويلة تعقبها أمطار غزيرة جدا مع بروز ظواهر مناخية غير معهودة مثل ظاهرة الأعاصير "التورنادو".
ولاحظ الباحث أن هذه التغيرات سيكون لها تأثيرات على الأمن المائي والغذائي والاجتماعي لسكان حوض المتوسط وكذلك على حق الأجيال القادمة في بيئة سليمة.