آخر رحلة!
القراء الكرام: لا بد أنكم سافرتم في داخل الوطن أو خارجه. ليلة السفر يطير النوم من العين في انتظار الرحلة! هل لي أن أحدثكم مع الدعاء بطول الأعمار للجميع عن أهمّ رحلة في الحياة؟
إليك عزيزي القارئ والقارئة بعض خصوصيّات هذه الرحلة التي لا تحتاج إلى حجزٍ مسبق ولا اتصال. يُسجل فيها كل حيّ منذ أن تدب الحياةُ في النطفة: المسافرون: كلّ الناس، تأكيد الحجز: ساعة الولادة، موعد الإقلاع: غير معروف، المطار: أقرب مقبرة، وسيلة المواصلات: أكتاف الرجال، حقيبة السفر: الأعمال، الوزن: غير محدود، حسب اختيار المسافر، جواز السفر: سجل الأعمال، الملابس: قطعتان من أرخَص قماش، مدة السفر: لا عودة، إلغاء الحجز: غير ممكن، التأخر: غير ممكن، ساعة الوصول: بعد أول حفنة من التراب، نوع المسكن: حفرة من نار أو حجرة أرقى من 10 نجوم.
نحن - أبناء آدم - نخطط بدقة لتفاصيل كلّ رحلة؛ تذاكر السفر، وزن الحقائب، صلاحية جواز السفر، الميزانية، حجز الفندق، الأكل والشرب، التبضع، الأماكن الهامة، وهلم جرة من متطلبات سفر الدنيا غير أننا نادرًا ما نخطط للسفرة الأخيرة والأهمّ في حياتنا وكأننا سوف نعيش إلى ما لا نهاية!
أوصى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ابنه الإمام الحسن وصيةً رائعة عند انصرافه من صفين، قال فيها مواعظ قيمة ومفيدة، منها: "يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْه - وتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْه - حَتَّى يَأْتِيَكَ وقَدْ أَخَذْتَ مِنْه حِذْرَكَ - وشَدَدْتَ لَه أَزْرَكَ - ولَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ - وإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا - وتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّه عَنْهَا - ونَعَتْ هِيَ لَكَ عَنْ نَفْسِهَا وتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا - فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ وسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ - يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ويَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا - ويَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا - نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وأُخْرَى مُهْمَلَةٌ - قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا ورَكِبَتْ مَجْهُولَهَا - سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ - لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا ولَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا - سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى - وأَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى - فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا - واتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ ولَعِبُوا بِهَا - ونَسُوا مَا وَرَاءَهَا".
يجد القراء الكرام الوصية كاملة في مصادرها وهي بمثابة دليل إرشادات للرحلة الأخيرة، أوصى بها في لحظة حاسمة من عمره عليه السلام بعد أن بلغ ستين سنة! غاية المرام: إذا مررتَ غدًا بالمقبرة القريبة، فاعلم أنّ فيها من كان مفعمًا بالحياة مثلنا لم تخطر في باله الرحلة حتى نودي به: يا مسافر حانَ وقتُ الرحيل! مسافرون دُفنت معهم آمالٌ وآمال ومطامع في الحياة وضحكات. ادخل المقبرة بهون وتذكر:
صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ ** فأين القبور من عهدِ عادِ
خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الأرض ** إلا من هذه الأجسادِ
وقبيحٌ بنا وإِنْ قَدُم العهدُ ** هوانُ الآباءِ والأجدادِ
سِرْ إن اسطعتَ في الهواءِ رُوَيدًا ** لا اختيالاً على رُفات العبادِ