اللغة ظاهرة إنسانية يتواصل بها البشر (بيكسلز)
احفظ المقالات لقراءتها لاحقا وأنشئ قائمة قراءتك
إن الأسلوب التقليدي المتبع عادة في تعليم العربية لغير الناطقين بها هو الانتقال بالطالب بسلاسل تعليمية خاصة من مستوى إلى مستوى يعلوه، إذ يتعلم طالب المستوى الأول الحروف ويتقنها ويتعرف إلى كم وفير من الكلمات الأساسية في اللغة، ورويدا رويدا ينتقل لمستوى آخر يصبح فيه قادرا على أخذ خطوات واسعة نحو تعلم مهارات اللغة المختلفة وإتقانها، كالاستماع والمحادثة والقراءة، ثم الكتابة والإنشاء.
وغالبا ما يطغى الاهتمام بمهارات لغوية معينة على حساب غيرها، وفقا للهدف الرئيس للمتعلم. وغالبا ما يكون حظ مهارة المحادثة من الاهتمام أضعف وأقل من غيرها، لا سيما عند انصراف عناية المعلمين والمتعلمين نحو الاهتمام بإتقان قواعد اللغة والإحاطة بالجانب الصرفي للغة العربية.
وإن كثيرا من السلاسل التعليمية الخاصة بالعربية والموجهة لغير الناطقين بها، تجعل معظم المهارات في قالب شكلي واحد، مما يجعلها نهاية المطاف تصب في مصلحة مهارة واحدة على حساب غيرها.
وغالبا ما تختلط الأمور بين المحادثة والقراءة، لاسيما حين ينطلق الأسلوب التعليمي من ترجمة المفردات الجديدة وشرح التراكيب الواردة استنادا إلى قراءة الحوار المدروس ثم الإجابة عن أسئلة تؤكد فهم الطالب للحوار، وقد تعرج التدريبات على حث الطالب على استعمال بعض القوالب اللغوية، لكن هذا الاستعمال يغدو أبتر من دون حوار افتعالي كامل.
فالقدرة على التوظيف هي التي تجعل هذه القوالب حاضرة في الذاكرة وقابلة للاستخدام ومفعلة في الحديث، وإيجاد نسيج لغوي لها يجرئ الطالب على توظيفها واستعمالها في أجزاء مناسبة من الحديث، لاسيما أن الصورة الحية للغة هي الصوت، وهذا ما يؤكده تعريف ابن جني للغة حين قال: هي "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" فاللغة ظاهرة إنسانية مخرجها الصوت بالتكلم والمحادثة.
بين الكفاية اللغوية والأداء الكلامي
لابد من التمييز بين الكفاية اللغوية والأداء الكلامي، فهذا التفريق هو حجر الزاوية في نظرية تشومسكي، فالكفاية اللغوية هي المعرفة الضمنية بقواعد اللغة وفهمها وإدراكها، أما الأداء اللغوي فهو استعمال اللغة وتفعيلها وتوظيفها في مواقف الحياة. بمعنى أنه يجب التفريق هنا بين الكفاءة اللغوية المتعلقة بقواعد اللغة وصحتها، والكفاءة التواصلية، وهي قدرة المتعلم على الفهم بعد الاستماع والرد بالمحادثة والتفاعل مع المحاور أو المتحدث المقابل.
وهذا يعني بالضرورة وجود المكافئ أو النظير اللغوي المتمثل بمحاور ومتحدث يعين المتعلم على توظيف ما تعلمه، واستعماله وتفعيله، فتبقى المعلومات والمفردات والتراكيب اللغوية المكتسبة في حالة النشاط والتفعيل، لا في حالة السبات، فهي حالة يحتاج الانطلاق منها إلى مراحل زمنية تجعل قوة البديهة والحافظة تردان من دون الرجوع إلى مصفوفة اللغة النحوية والصرفية، اتكاء على الممارسة والخبرة المتحصلة منها.
قد تبدو المحادثة -بعد الخبرة والاطلاع- أعسر مهارة على الطالب غير الناطق بالعربية، وكذلك مع الطالب العربي الناطق بها حين يتعلم العربية بوصفها درسا مقررا بالمنهاج، وغالبا ما يعود سبب ذلك إلى ثغرة لما تسد بعد في طريقة تدريسها، مما يجعل نتائجها غير مكتملة، والأمر مرتبط أيضا بالطالب ومهاراته الشخصية وثقافته والبيئة التعليمية التي نشأ فيها.
ومن أسباب قصور الطلاب عن امتلاك مهارة المحادثة وإتقانها أنها لا تتطرق غالبا في السلاسل التعليمية المدروسة إلى واقع الحياة وأساليب التواصل اللازمة، بل تجعل ميدانها غالبا مواضيع لا تهم الطالب ولا تفيده في الحياة العملية، أو تكون المواضيع تاريخية بعيدة عن احتياج الطالب للغة الجديدة في الحياة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما المواضيع التي ستفيد الطالب غير الناطق بالعربية أو حتى الناطق بها أثناء تعلمه مهارة المحادثة وممارستها بالعربية؟
أما الجواب فيرتكز على هدف كل طالب على حدة من تعلم العربية، وفي أي مجال يريد استعمالها واستثمار إتقانه لها، فالمتعلم الراغب باستخدام اللغة في مجال السياحة مختلف عن ذاك الذي يريد استعمالها في مجال الترجمة، أو ذاك الذي يتعلمها لأهداف دينية خالصة.
مشكلات وعوائق تقف في وجه مهارة المحادثة
من أكبر المشكلات التي تواجه الطلاب في مهارة المحادثة عدم كفاءة بعض المدرسين في مجال التدريب على المحادثة، فهذه المهارة تتطلب صبرا كبيرا من الأستاذ، وأسلوبا يقرب المسافات بين المعلم والطالب، حتى يغدو التدريب أشبه بعلاقة صداقة تربط بين المتعلمين وأستاذهم.
أضف إلى ما سبق أن مهارة المحادثة تحتاج جهودا مضاعفة خارج الوقت الصفي، فإن لم تتحول اللغة الجديدة المتعلمة إلى أسلوب في التفكير والتعبير بين الطالب ونفسه في نجواه الداخلية، وإن لم يحاول في بعض الأحيان التفكير بها في المواقف التي تعترضه، وممارستها مع محيطه، فستبقى قدرته قاصرة، ولن يتقنها بطلاقة، ومحظوظ ذاك الطالب الذي يستطيع ممارسة اللغة مع أهلها الأصليين.
كما أن بعض الصفوف في المؤسسات التعليمية قد تضم عددا كبيرا من الطلاب فلا يتسع الوقت المخصص للدرس لمشاركة الطلاب جميعا، وقد ينال الطالب جملة أو اثنتين في أحسن الأحوال إن لم يكن مبادرا وراغبا وجريئا ومدركا أنه لن يتعلم ما لم يخطئ ويحاول.
ومن مشكلات تعلم العربية أنها اللغة التي لا يستطيع الراغب بتعلمها أن يذهب إلى بلد من بلادها الأصلية لممارستها، فالعربية الفصيحة ليست للحياة والاستعمال اليومي، وكل بلد ينفرد بلهجة خاصة، بل في البلد الواحد قد تنفرد كل مدينة بلهجة خاصة بها، وهذا ما زعزع أولئك الراغبين بتعلم العربية بغرض التجارة والسياحة وجعلهم يميلون إلى تعلم العامية بدلا من الفصحى، ورأينا ممن لا يغارون على العربية من أهلها من انبرى إلى تأليف كتب لتعليم العامية وأساليب التواصل المحلي بها.
حلول مقترحة
ومن الحلول المقترحة في سياق تطوير مهارة المحادثة بالعربية أن تكون مواضيع دروس المحادثة منصبة على المحيط والاهتمامات التي تضم معظم فئات المتعلمين تحتها، وهي التعبير عن النفس والمحيط والأفكار والمشاعر والآمال، واعتماد تقنية السؤال والجواب في حالات متعددة. ويمكن الاستفادة من تجربة تعليم طفل ما لغة أخرى غير لغته الأصلية، إذ يكتسب مهارة المحادثة من تركيزه على محيطه واحتياجاته التي يريد التعبير عنها.
وفي اختيار الموضوعات لا بد من مراعاة اختلاف الديانات والثقافة والبيئة والمنشأ والاهتمامات والمشارب المتنوعة للطلاب، وأثناء إجراء التدريبات اللغوية لا بد من الانتباه إلى العوامل النفسية واختلاف الشخصيات بين الطلاب وتفاوت قدراتهم وسرعة البديهة لديهم. ولا بد من تحريض كل طالب بحسب شخصيته وطبعه وميوله، لذا ينبغي أن يحيط المعلم بأساليب التحفيز المعتمدة على آليات علم النفس التعليمي.
ولا بد من توفير وسط تعليمي يضم طلابا من أعراق مختلفة، لا لغة تجمعهم، فيضطرون إلى استعمال اللغة التي يتعلمونها فيما بينهم. فمن المعلوم أنه إذا ما اجتمع اثنان ينتميان إلى لغة أصلية واحدة فإنها الحاضر القوي بينهما في التواصل ولن يستبدلا بها غيرها، ولو كان بنية التعلم فإن عزمهما سيخور بسرعة عند أول صعوبة يواجهانها في التعبير، وسيستعينان باللغة الأصلية لتجاوز ذلك، وفي هذا هدم لا يشعران به لكن يدفعان ثمنه من وقتهما الممتد في تعلم اللغة الجديدة.
إن مهارة المحادثة ركيزة أساسية في تقويم اللسان بالعربية، ولتجاوز العقبات والمشكلات التي تواجه الراغبين بتطويرها، لا بد من تضافر الجهود وتكاملها بين المعلم والطالب والمنهاج المناسب والبيئة الحاضنة من الأسرة والصحبة الفاعلة والمشجعة. ويستحق الحرص على تحقيق هذا التكامل أن تنشأ لأجله برامج خاصة تقوم على تقنيات وخطط حديثة، وأن تعقد لأجله الندوات والمؤتمرات الفاعلة غير الاستعراضية، فإن أجيالنا القادمة تستحق عنايتنا، ولغتنا العربية أمانة وهوية.