سماع تقليدي بمهرجان "بيت الزبير للموسيقى الصوفية" بسلطنة عُمان
عند الحديث عن أهمية السمع في تعلم اللغة وتأثيره في تقويم اللسان يواجهنا السؤال الأكثر شيوعا بين صفوف معلمي اللغة لغير الناطقين بها ومتعلميها، وهو سؤال يؤكد أهمية السمع في تعلم اللغة وتأثيره في تقويم اللسان؛ ومفاده: ما الذي يجعل الاستماع مقدما على الكلام؟
مما وصل إلينا على لسان قدماء العرب أنهم قالوا: "تعلم حسن الاستماع قبل أن تتعلم حسن الكلام، فإنك إلى أن تسمع وتعي أحوج منك إلى أن تتكلم"، إذ كيف يمكن للسان أن ينطق دون أن يكتنز مما يسمع ويقرأ؟ وقد أكد علماء اللسانيات أن عملية النطق لدى الأطفال تعتمد على المحاكاة ابتداء؛ أي محاكاتهم لذويهم ومحيطهم وتقليدهم لكل ما يسمعون بإصدار الأصوات وتناغمها وترتيبها رويدا رويدا لتصبح كلمات مفهومة ثم جملا ذات معنى وقصد.
ومما ألفنا سماعه حين كنا صغارا إذا ما انبرى لسان أحد الأطفال بالحديث دون توقف، وأراد الكبار إسكاته بلطف وتحبب؛ أن يسأل: "أتعلم لماذا خلق الله لنا أذنين اثنتين وفما واحدا؟"، فيتفكر الطفل مليا حتى يفاجئه الجواب بأن سبب ذلك هو أن حاجتنا للسمع ضعف حاجتنا للكلام!
وفي مجال تعلم اللغات وتعليمها يؤكد الباحثون والدارسون أهمية السماع عند اكتساب لغة جديدة، ويؤكدون في الوقت نفسه تفاوت المتعلمين فيما بينهم وفقا لقدراتهم على الاستماع والتقاط الأصوات المختلفة وتقليدها، ووفقا لقدراتهم المتفاوتة على الحفظ، ثم يقولون إن "السبب الرئيس والأساسي في الاختلاف بين متعلمي اللغة الأكثر نجاحا ومن هم دونهم، هو قدرتهم على استخدام الاستماع وسيلة لاكتساب اللغة".
ويساق الأمر نفسه نحو قدرة بعض الأشخاص على التقاط كلمات قصيدة شعرية أو أغنية ما وحفظها عند سماعها من المرة الأولى أو الثانية، مع القدرة على تقليد اللحن بحرفية عالية، في حين ينجح بعض الناس بتذكر الكلمات لكن يخفقون في اكتساب اللحن، أو العكس تماما، ومناط ذلك كله تفاوت البشر فيما بينهم من صفات ومواهب وقدرات، على أن من يمتلك هذه المقدرة على حسن الاستماع ودقة التقليد إلى جانب قوة الذاكرة، فقد حاز نصيب الأسد في مجال تعلم اللغات الجديدة.
كيف تتجلى أهمية الاستماع في تعلم اللغة العربية للناطقين بها أو بغيرها؟
إن الاستماع هو المفتاح الأول والمدخل الرئيس لتعلم أي لغة مهما كانت، وهو العتبة الأولى التي يجب أن يتخطاها المتعلم في رحلته نحو تعلم لغة ما وإتقانها، فالحروف أشكال ورموز ما لم تنطق، وينبغي أن تسمع من أهل اللغة أنفسهم حتى يتحقق النطق الصحيح لها، فالسماع هو تأشيرة الدخول نحو تعلم اللغات، وقد أثبتت الأبحاث والدراسات اللغوية أن التقدم في مهارة الاستماع يؤدي بالضرورة إلى تقدم في مهارات اللغة الأخرى من قراءة ومحادثة وكتابة، لأنها تقوم على أساس التعرف والفهم والقدرة على التفاعل، والنقد، والاستخدام في مساقات الحياة المختلفة.
بين السماع والألفة
من منا لم يسمع قول الشاعر العباسي الضرير بشار بن برد:
يا قومِ أذني لبعض الحي عاشقةٌ والأذنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا
إن السماع طريق معبد ينحدر نحو أعماق النفس البشرية فيلامسها بدفء وجمال في أحيان، ويصدمها بقوة وعنف وقسوة في أحيان أخرى، فكم من كلمة كانت سبيلا للود، وكم من أخرى كانت قلما خطت به حكايات الفرقة والوداع. وكم من صوت أثار في النفس أشجانا وحرك لواعج وأوصالا دون رسم أو صورة، غير أن يكون أثر التلقي والسماع.
بالسماع وحده ينمي متعلم اللغة مهاراته كلها، فهو السبيل إلى فهم المنطوق وإدراكه، واعتياد المكتوب ووعيه، وتوجيه الخطاب واستقبال المألوف منه وغير المألوف، فبالسمع يألف الإنسان الأصوات والتراكيب اللغوية المتنوعة، ويخزنها بوعي ودون وعي منه، فمواقف الحياة تعتمد بالدرجة الأولى على مهارة السمع التي احتلت مكانة مقدمة على غيرها من المهارات عند الاهتمام بتعلم لغة ما.
إن أهم ما يفعله السماع هو إنشاء علاقة نفسية بين اللغة والنفس، هذه الألفة والعلاقة الإيجابية تمثل أهم دافع من دوافع الإنسان إلى اكتساب المهارات اللغوية وإتقان اللغة، وبغير السمع وتكراره واعتماده منهجا للتعلم؛ لا تحدث هذه الألفة، فهي لا تحدث بالبصر ولا بالعقل وحدهما، بل إن المنفذ الرئيس للغة إلى النفس هو السمع، وبذلك استحق أن يكون أبا الملكات.
هل للسمع ذاكرة؟
وأي ذاكرة! بل إن عموم الباحثين حين يتحدثون عن الذاكرة السمعية التي تسمى أيضا الذاكرة الصدوية أو ذاكرة الصدى، يقصدون بها ذاكرة حسية تسجل المعلومات السمعية بمحض سماعها، ثم تخزن في الذاكرة الحسية السمعية وتعالج وتفهم، وتقوم هذه الذاكرة بعد ذلك باستردادها واستحضارها عند الحاجة إليها، ويقال إن الذاكرة السمعية أقوى وأحفظ في التخزين من الذاكرة البصرية بأضعاف.
يعتمد المهتمون بتعلم اللغات على ذاكرة السمع أكثر من اعتمادهم على آلية الحفظ التقليدية، وحشو الدماغ بالمفردات والتراكيب اللغوية الجديدة. فكيف يتحقق ذلك؟
يتحقق بالتعرض للغة بالسماع والاستماع، كأن يستمع المتعلم إلى نشرات الأخبار أو الأغاني باللغة التي يريد تعلمها وإن كان لا يعي كثيرا مما يسمع، لكنه على المدى الطويل، ومع تدعيم السماع بالقراءة والمحادثة ودروس اللغة وفهم قواعدها، سيجد من نفسه قدرة على استيعاب المسموع وفهمه وإن لم يستطع ترجمته بدقة إلى لغته الأم، وإن لم يستطع استخدام ما يسمعه ويعيه في مواقف أخرى، فذاكرة السماع تعتمد على التكرار، فعند سماع لفظ جديد للمرة الأولى قد يبقى أثره الصوتي فحسب، وفي المرة الثانية تتوضح معالمه لفظا محقق الأحرف، وفي المرة الثالثة قد يشي السياق بمعناه، وفي المرة الرابعة يثبت المعنى في الذهن مع تحقيق اللفظ، وبعد ذلك يتقدم اللفظ خطوات ثابتة نحو مصاف الكلمات القابلة للاستعمال والتوظيف لدى المتعلم في مواقف حياتية متنوعة.
والأمر ليس واحدا ولا متشابها لدى جميع المتعلمين كما ذكرنا، فهو خاضع للقدرات الفردية المختلفة، غير أن السماع يتميز من غيره من المهارات بتعلقه بعامل السرعة، ففي كثير من مواقف الحياة يحتاج المرء إلى اللحاق بسرعة المتحدث سماعا، فإذا تباطأ أو تخلف عنه لن يجد إلى إعادة الحديث وتكرار السماع سبيلا! ومحل ذلك عند حضور درس أو محاضرة ما، وعند مشاهدة الأخبار بلغة أجنبية على إحدى القنوات التلفزيونية، أو متابعة فيلم أو برنامج ما.
هل تفيد مخالطة الناس والتفاعل معهم في تنمية مهارة السماع؟
ذهب ابن خلدون إلى أن مخالطة العرب للعجم أدت إلى تراجع ملكة السماع لديهم، لكن إذا ما نظرنا إلى تفاعل العرب فيما بينهم؛ فكيف يكون تأثير ذلك في لغتهم؟
في الإجابة عن هذا السؤال نعرج على قول ابن جني الذي رأى أيضا أن السماع مهم لتنمية ملكة الفرد اللغوية، فهو يكتسبها أساسا من محيطه ومجتمعه، وقد قال عن اتصال العرب ببعضهم وأثر ذلك في لغاتهم: "إنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة، فبعضهم يلاحظ صاحبه ويراعي أمر لغته، كما يراعي ذلك من مهم أمره". وبذلك تتنامى ذخيرة المرء اللغوية ما دام على اتصال بغيره من الناس.
ومن لم يسمع بحكاية سيبويه إمام النحاة وشيخهم!
الزائر الذي لا يمل كما سماه شيخه الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألم يكن سماع اللحن منه وتخطئته في مجلس العلم على الملأ سببا في دفعه نحو امتلاك زمام العربية وعلومها؟ حتى صار له من العربية ما لم يقسم لأهلها منها، ولم يكتف بتقويم اعوجاج لسانه بالسماع من العرب الأقحاح والأخذ عنهم فحسب، بل صار عميد المدرسة البصرية، وصار ذكره مرتبطا بالعربية على كل لسان، وغدا كتابه المرجع الأول لقواعد اللغة العربية، حتى قال فيه الجاحظ معجبا بتأليفه وتصنيفه ومنهجه: "لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله، وجميع كتب الناس عيال عليه".
ومن جميل ما يمكن أن أختم به الحديث ما جاء على لسان الجاحظ عن جمال الاستماع إلى اللغة العربية وأثر ذلك في تقويم اللسان وتصحيحه؛ فقد قال: "إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماء البلغاء".