وحال بيني وبينها!
لَطَالما كَانَت تَتَراقَص أَمام عَينيَّ كَفراشَةٍ تَحُطُّ بَيْن الزُهُورِ وَتَتباهى بِألوانِها الرَائعةِ. هَذا الجَمال كَان يقْتَنِصُ نَظرات عيّنَيَّ وأَتلهَّفْ لِلإِمساكِ بِه والاِنْقِضاضِ عليه. لكِنَّ دُرُوعَ الحمايةِ التي تَتَشابكْ حَولهُ تَجْعَلَ جَمِيعَ مُحَاوَلاتي تبوءُ بالفشل. لكِنّي مُحَارِبٌ صَبُورٌ ولابُدَّ لهَذِهِ الفَرَاشَةِ أن تُصْبِح فِي لحْظة ضَعْف وَستَسْتجّدي عَطْفي وَمُساعدَتي!
فِي يَومٍ مِن الأَيام وَأَنا أَقِفُ عِنْد عَتَبةِ بيتي التي شَهِدت الكَثيرَ مِن جَولاتي وَصَولاتي وَبِعَدد البُقَعِ السَوداء التي تَصْبُغ جِدار بَيتِي المُتَهالِك وَأَظُنها كانت بعدد الأَرجُل التي مَرَّت فَوَقَعت فِي شِباكي.
أتساءلْ مالِ هَذِه الفَراشَة المُخْتَالة وَالضَعِيفة تَسْتَعْصِي عَلى جَميعِ مُحَاوَلاتِي فَتَجعلُها تَبَوءُ بِالفَشَل الذَريعِ؟!
فَمَرَّة تخرُج مَلْفُوفةً بِحَنانِ الأمِّ وَخَوفها. وَمرَّةً تَنْسُد منَافِد أَنْفاسي فَتُصْبِح لاهِثَةً مُتَقطعةً حِينَما تَخْرج والأَسدُ الهِزَبْرُ يَرْعَدُ مِن أمامها وَكأنَّهُ يُطوِّقُها بِطَوقِ حِرْصٍ وانْتِباه يَسْلُبُني لَذَةَ تَفَحُصِها.
وَمَرةً تَمرُّ وَمعها الأَشبالُ وَهُم يَسيرون بِسيرة الأَبِ الشَفُوقِ المُتَأَهِبِ فَيَرْعَونها وَيَحْرِسُونها حَتى مِن النَّسْمَة العَابِرة إِنْ كَانتْ مُلَوثَةً بِأَنْفاسِ الخَائِنينَ أَمثَالي.
وَلما اشّتد عُودُها وَأَصبحت فِي كَامل حِجَابها الَّذي أَضْفى عَلى جَمالِها جَمالًا وَعَلى كَمالِها كَمالًا تَنْهَدُ دُونه الهِممُ العَالية. فَأصْبحت مُهِمتي أَكْثر صُعُوبةً وأبْعَد مَنالًا.
حَتَّى عَينِي الفَاحِصة المُتَمرسة أَصْبَحتْ تَنْكسرُ مِن إِشعاعِ شَمسِ إِشْراقَتها.
وَزَادني تَجَاهِلُها لأيِ مُحَاولةِ لَفتِ نَظَرٍ مُسْتَميتةٍ مِنْ قِبَليِ إِصْرَارًا عَمِيقًا لَكِنَّ ثَباتَها وَتَمنُعَها جَعلَهُ إِصرارًا مُعِيقًا.
شَغَلتْ فِكْري وَبَالي، لَكِنَّ جَميعً أَسْلِحتي قَدْ تَكَسَّرت! وَجَميع مُحَاوَلاتي نَفِدت.
الآن مَا بَاتَ مَعَها أَحدً يَصُدُنِي عَنْها وَيَمْنعني مِن اِصْطيادها.
لَكنِّي أَصبحتُ الآنَ الجَبْهةَ الضَعيفَة فِي الحَرب. هَلْ تَربِيتُها هِي السَبَب؟ أَمْ رِعايةُ وَالدَيها وَإِخْوانها هَي الَّتي صَدَّتْ عَنْها أَيْدِي المُغَفْلين أَمْثَالي.
وَأَصْبَحتُ حِينَما تَمُرُّ بِالقُرْبِ مِنِّي تُذَكِرُنِي بِتَاريخِي الأَسْوَد. وَبانْحِطَاطِي الَّذي شَمَخَتْ بِأَنْفِها عَنّهُ. وإِذا هِي لَمْلَمت أَطْرَافَ رِدَائِها طَاوِيةً عَنْهُ لَحَظَاتِ العُيُون أَوْ رَمْشَةَ الجُفُون.
وَلَكِنَّ كَرَامَتي كَرَجُل! (نَسِيتْ أَنّي لَسْتْ رَجُلًا) فَمِثْلي خَرَجَ عَنْ مَدْرَسةِ الرِّجَال بَعْدَ أَنْ اِسْتَفْرغ جُهْدَه ليَرْكُس فِي وَحْلِ المَعَاصِي والضَياعِ أَسْفل سَافِلين.
لَنْ أَتْرُكَها تَنْتصر.. فَالفَائِزُ مَنْ يَنْتَصِرُ أَخِيرًا.
تَرَصْدتُ فِي يَوّمٍ مِن الأَيامِ لِفَريستي وَرَسمتُ بِمُنْتَهى الدِّقَةِ خُطَّتي.. جَلَسْتُ عِنْد عَتبَة بَيتي القَذِرة كَقَذارةِ قَلبِي وَبَعد خُلُو البَيتِ إِلا مِنْها قَرَّرت أَنْ أَتَهَجم عَليها فِي عُقْر دَارها.
مَشِيتُ وَخُطْوَاتِي مُتَرنِّحة وَجِلة.. قَابَلنِي جَارِي أَبُو حُسَام وَطَلَب مِنِي أَنْ أُساعده فِي نَقْل أَكْياسِ الأرُزِ إِلى دُكْانِه، لَمْ آبَه لِكَلامِه أَحْسَستُ أَنَّ هُنَاك إِرادةً ترِيدُ أَنْ تُثْني عَزيمَتي عَمَّا صَمْمتُ أَنْ أَقُوم بِه وَلَكنِي هَذِه المَرَّة قَدْ اِسْتَعنتُ بِالشَيْطَان لِكَي أَنَال مُبْتَغاي وَأَهْزِم هَذِهِ الفَتَاة المَتَلبِسةَ بِلِباسِ العِفْةِ المَمْزُوجِ بِحُبِ اللهِ وَطَاعَته. إِمَّا أَنْ تَهبِط لِعَالمي أَو تَصْعَد لِعَالَمِها.. لا خَيار ثَالث.
أَخَذْتُ أَحُثُ الخُطَى.. وَأَنْفَاسي تَتَلاحَق.. وَلمْ أَشْعُر بِنَفسي إِلّا وَأنا أُسْحَق تَحْتَ عَجَلات سَيَّارةِ حَمْراءُ اللّونِ مُسّرِعة يَقُودُها شَابٌّ أَهوج!
وَقَبْل أَنْ أَلْفِظَ آخَر أَنْفَاسي سَمِعتُ صَوْتًا هَادِرًا يَصكُّ مَسَامِعي {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ثُمَ تَلتْه شُهُبٌ مِنْ النَّارِ دَخَلَتْ عَيْنيَّ فَأشْتَعلتْ نِيرانا.