بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

هل كانت العباسة أخت الرشيد هي السبب الحقيقي في نكبة البرامكة..! أو كانت هي مع بعض الأسباب السابقة الفصل الأخير في تاريخ تلك الأسرة التي حكمت الخلافة العباسية ردحاً من الزمن في خلافة الرشيد..؟
الجدير بالذكر أن الطبري المؤرخ المشهور هو الذي ذكر قصة العباسة وعلاقتها بجعفر البرمكي على أساس أنها السبب في نكبة البرامكة.. والطبري هو أقدم المصادر التاريخية وأوثقها وأكثرها احتراماً. وجاءت روايات أخرى تؤكد الموضوع وتزيده تفصيلاً .. ومن مجملها تتعرف على القصة من بدايتها إلى نهايتها.
جعفر البرمكي:
كان جعفر بن يحيي خالد البرمكي هو الوزير المشار إليه في خلافة الرشيد ، وكان معه في المسئولية أخوه الفضل ، وكان أبوهما يحيي بن خالد بمثابة الوالد للرشيد ، وهو الذي وقف مع الخيزران ـ أم الرشيد ـ حتى صارت الخلافة للرشيد .. وأنقذ الرشيد من عسف أخيه الخليفة الهادي.
وبتولي الخلافة كان يحيي بن خالد قد أدركته الشيخوخة فترك نفوذه في الدولة لولديه "جعفر و" الفضل" ، وكان جعفر صاحب النفوذ الأكبر بسبب طلاقة وجهه وسماحة أخلاقه وفصاحته ووسامته ، فأحبه الرشيد ونادمه وكان يشرب الخمر معه وترك له الأمر والنهي في الدولة.. وبلغ من حب الرشيد له أنه كان لا يطيق الابتعاد عنه ، وأنه اتخذ ثوباً كان يجلس فيه للمنادمة مع جعفر هو نفسه الثوب الذي يرتديه جعفر ، وكان الرشيد يحتفظ بنفس الحب والإعتزاز لأخته العباسة.. وكان أيضا لا يطيق الابتعاد عنها .. وكانت العباسة بارعة الجمال فائقة الحسن فصيحة شاعرة أي تشبه جعفراً في صفاته ، ورسوم الخلافة وطقوسها تمنع أن يرى الوزير الأميرة الجميلة أخت الرشيد ووجد الرشيد الحل في أن يعقد قران أخته سراً على الوزير جعفر بشرط أن يكتفي جعفر منا بالنظر إليها فقط.
قال الرشيد لجعفر "يا جعفر إنه لا يتم لي سرور إلا بك وبالعباسة ، وانى سأزوجك منها ليحل لكل منكما أن تجتمعا ، ولكن إياكما أن تجتمعا وأنا دونكما.. فتزوجها جعفر على هذا الشرط ، وما كان يقدر على مخالفة سيده الخليفة..
ولكن من عادة الريح تأتي بما لا تشتهي السفن.. كان جعفر يحاذر أن يسترق النظر إلى العباسة خوفاً من الرشيد وهو أعلم بمدى تقلب الرشيد واندفاعه وتطرفه في الحب وفي الانتقام .. وهو يعلم أن الرشيد وإن أحل له مجرد النظر إلى العباسة فهو يريده نظرة احترام وإجلال للأميرة ، وليس نظرة رجل إلى امرأة يحبها ويريدها..
أمّا العباسة فكانت في موقف مختلف ، فكانت تسترق النظر إلى جعفر وتنظر إليه بعين الزوجة المحرومة العاشقة لزوجها ، وترى في شرط أخيها تعسفاً في استعمال السلطة السياسية لا ينبغي أن يجترئ على تحريم ما أحل الله من المعاشرة بين الزوجين..
أرادت العباسة أن تمارس حقها الشرعي مع زوجها ، ولكن المشكلة أن زوجها لا يجرؤ على مجرد التفكير في ذلك خوفاً من بطش سيده الرشيد .. ثم إن جعفر ليس مضطراً لهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر إذا كان لديه عشرات الجواري وكانت أمه تعد له جارية بكراً ليدخل بها كل ليلة جمعة، وكانت العباسة تعرف ذلك أيضاً وتضيفه إلى حساب الصعوبات التي تمنع الوصال مع الحبيب البعيد القريب ، ولكنها بحنكة حواء وجدت لها مخرجاً بعد أن أعيتها الحيل في لفت نظر جعفر إليها..
ذهبت العباسة إلى "عتابة" أم جعفر وفاوضتها في أن تحتال من أجلها وترسلها ـ أي العباسة ـ إلى جعفر ليلة الجمعة المعتادة على أنها إحدى الجواري ، ورفضت أم جعفر وصممت لأنها تعلم خطورة الموضوع على ابنها وأسرتها بأكملها ، وحين يئست العباسة من إقناعها والتوسل إليها لجأت معها للتهديد .. والعادة أن أصحاب السلطان والقوة يفوزون دائماً في المفاوضات .. وغلبت العباسة .
وطبقاً للخطة المرسومة بينهما ظلت أم جعفر منذ يوم السبت تعد ابنها بالجارية الموعودة التي ستقدمها له ليلة الجمعة القادمة ، وتسرف في وصف جمالها وحسنها وظرفها إلى أن جعلت ابنها يتشوق للقائها ، ولا ريب أن العباسة في مجلسها معه ومع أخيها الرشيد كانت ترى تغييراً في جعفر وتأثراً بالمفاجأة الجديدة التي تعدها له أمه ليلة الجمعة.
وفي الليلة الموعودة كانت العباسة في مخدع جعفر تنتظره وقد أعدت نفسها كأي عروس انتظرت عريسها على أحر من الجمر.. ودخل عليها جعفر فظنها الجارية الموعودة ولم يدر بخلده إطلاقاً أنها الأميرة التي كان يسهر معها ومع أخيها منذ ساعة .. لأنه ما كان يجرؤ على استراق النظر إليها في مجلس الرشيد أو في بيته..
وبعد اللقاء السعيد قالت له العباسة : كيف رأيت خديعة بنات الملوك ؟ فقال لها ساخراً : وأي بنت ملك أنت ؟ قالت أنا سيدتك العباسة .. وعندها طارت ذكريات اللذة وهب جعفر واقفاً وهرع إلى أمه صارخاً يقول : يا أماه بعتني رخيصاً..
وكانت العباسة تتوقع رد الفعل .. فما زالت به هي وأم جعفر حتى رضي بالأمر الواقع: واعتاد أن ينال من زوجته العباسة كلما لاحت له الفرصة في قصر الرشيد .. واستراح إلى لذة المخاطرة وسرقة المتعة..
وسرقهما الوقت إلى أن اكتشفت العباسة أنها حامل وكانت المعضلة الكبرى ، وكان الحل المؤقت أن تعتزل العباسة إلى أن تضع مولودها ، ـ ثم أرسلت المولود وكان ذكراً ـ إلى مكة ووكلت به غلاماً اسمه "رياش" وحاضنة يقال لها "بـُرَّة" وظن العشيقان الزوجان أن المشكلة قد حلت ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ..
كان يحيي البرمكي ـ والد جعفر هو المسئول عن قصر الحريم الخاص بالرشيد ، وهو الذي يغلق أبوابه ويحتفظ بالمفاتيح ، وكانت تلك مهمته بعد أن ترك السياسة والنفوذ لولديه جعفر والفضل ..
واشتد يحيي البرمكي في التضييق على حريم الرشيد من الحرائر والجواري ، فاكتسب منهن أعداء ، ولم يكن يعلم بما حدث بين جعفر والعباسة كما لم يكن يعلم أن الجواري والحرائر في قصر الحريم يعلمن بالموضوع ، ولذلك اشتكت زبيدة زوج الرشيد وابنة عمه من تشدد يحيي البرمكي فقال له الرشيد: يا أبت ما لزبيدة تشكوك ؟ وكان يخاطبه دائما بقوله : يا أبت .. فقال : يا أمير المؤمنين : هل أنا متهم في حرمك ؟ فقال :لا قال : إذن لا تقبل قولها فيَّ..
وزاد يحيي في غلظته على زبيدة وتشدده عليها فكلمت زوجها الرشيد مرة أخرى تشكو منه ، فقال لها الرشيد : يحيي البرمكي عندي غير متهم في حرمي .. فقالت له : فلم لا يحفظ ابنه مما ارتكبه؟
قال: وما هو ؟ فأخبرتها بموضوع العباسة .. فقال : وهل ذلك دليل ؟
قالت : وهل بعد مولودها دليل؟ وأخبرته بموضوع الولد بمكة فقال : وهل علم بذلك أحد سواك؟ قالت لم يبق بالقصر جارية إلا وعرفت به .. سكت الرشيد ، وتظاهر بالرخوج إلى الحج فخرج ومعه جعفر ، وارتابت العباسة فأرسلت إلى الخادم والمرضعة بالرحيل عن مكة إلى اليمن .. وفي مكة علم الرشيد بصحة الموضوع إذ حقق بنفسه ، وأرسل فاعتقل الحاضنة والخادم ورأى الحلي مع المولود من الحلي الذي تتزين به العباسة : وأراد الرشيد قتل الصبي الصغير .. ثم استفظع ذلك.
وقتل جعفر وحبس أباه يحيي وأخاه الفضل وسائر البرامكة واستصفى أموالهم وصادرها سنة 187هــ.
وماتت العباسة في نفس العام على ما يقال