جِيرة الطيبين!
"حملتُ الجندل والحديد وكلّ حملٍ ثقيل، فلم أحمل شيئًا أثقل من جار السوء"! هذا ما قال لقمان عليه السلام عن الجار وإذا أراد القراء الكرام أن يتتبعوا ما جاء عن الجار سوف يجدونه كثيرًا جدًّا!
جِيرة الطيبين في الماضي والحاضر نراها بأم أعيننا فإذا جاورت سعيدًا جاءتك السعادة وإذا جاورتَ نحيسًا أصابتك النحاسة! جار طيب في رحلة قصيرة، في الطائرة أو الحافلة، يسعدك بأحاديثه ويمضي الوقت سريعًا وإذا كان الجار غثيثًا يضيق صدرك في نصف ساعة! كيف إذًا بجارِ البيت الذي تدوم جيرته أجيالًا؟
حياتنا كلها جار في جار! جار في المدرسة، في البيت، في الدكان، في العمل، حتى القبر فيه جار! لذلك يحرص الكثير على نقطة النهاية بأن تكون جيرته طيبة بعد الموت! أيام زمان كانت الوصية: جاور السعيد تسعد!
الحمد لله، لا يزال للجارِ في مجتمعنا قيمة عالية - وإن قلت - بفعل عوامل "التمدن". أما في بلدانٍ كثيرة فالجَار يعرف جاره في الحدود الدنيا، تحية صدفة في الطريق أو في مركن السيارات! مع أن الدراسات الغربية تصل إلى الخلاصات ذاتها؛ الجيرة الطيبة تجلب السعادة والعكس صحيح!
عادات قديمة مثل تهادي الطعام وجلسات النساء كبار السنّ كانت تملأ أوقات الجيران، ولا يزال بعض الجيران فيهم رائحة من عبق الماضي الجميل! أيام زمان كنّ النساء يستعرن الأكل وأدوات الطهي من الجيران. الحمد لله تحسنت الأحوال واستغنى الناسُ وبقيت الجيرة الطيبة.
من أجمل ما جاء في حقوق الجار ما قاله الإمام علي بن الحسين عليه السلام في رسالة الحقوق: "وَأَمّا حَقّ الْجَارِ فَحِفْظُهُ غَائِباً وَكَرَامَتُهُ شَاهِداً وَنُصْرَتُهُ وَمَعُونَتُهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعاً لَا تَتَبّعْ لَهُ عَوْرَةً وَلَا تَبْحَثْ لَهُ عَنْ سَوْءَةٍ لِتَعْرِفَهَا فَإِنْ عَرَفْتَهَا مِنْهُ عَنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْكَ وَلَا تَكَلّفٍ كُنْتَ لِمَا عَلِمْتَ حِصْناً حَصِيناً وَسِتْراً سَتِيراً لَوْ بَحَثَتِ الْأَلسِنةُ عَنْهُ ضَمِيراً لَمْ تَتّصِلْ إِلَيْهِ لِانْطِوَائِهِ عَلَيْهِ لَا تَسْتَمِعْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ لَا تُسْلِمْهُ عِنْدَ شَدِيدَةٍ وَلَا تَحْسُدْهُ عِنْدَ نِعْمَةٍ تُقِيلُ عَثْرَتَهُ وَتَغْفِرُ زَلّتَهُ وَلَا تَدّخِرْ حِلْمَكَ عَنْهُ إِذَا جَهِلَ عَلَيْكَ وَلَا تَخْرُجْ أَنْ تَكُونَ سِلْماً لَهُ تَرُدّ عَنْهُ لِسَانَ الشّتِيمَةِ وَتُبْطِلُ فِيهِ كَيْدَ حَامِلِ النّصِيحَةِ وَتُعَاشِرُهُ مُعَاشَرَةً كَرِيمَةً وَلَا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إِلّا بِاللّهِ".
خلاصة الكلام: في كلّ زمان جيران أطيب من الطيب وبهم تطيب الدنيا، لهم علينا ولنا عليهم حقوق وأبسط الحقوق التحية والسلام وحفظ الود. فإذا كان عندك واحد من الجيران الطيبين فلا تفرّط فيه ولا تحفظ عنه سوى الذكريات السعيدة.
كيف تفرّط في جارٍ أغلى من الدار؟! كان جار للإمام الصادق عليه السلام بالمدينة، فالمّت به حاجة، فعرض داره للبيع، فسامها بضعف قيمتها، فقيل له في ذلك، فقال: نصف الثمن للدار والنصف الآخر لجوار الإمام الصادق عليه السلام؛ لأنه ليس له نظير في الأرض في معروفه وإحسانه. لما بلغ ذلك الإمام عليه السلام أوصله بما يحتاجه ورفع ضرورته.