العقيلة زينب (ع) ورمزية العطاء
هذه المرأة العظيمة مدرسة ومنهج يحتذى به في جميع جوانب حياتنا، لقد تجلى منها العمل المثابر والإصرار والصمود في وجه الصعاب والتحديات، وما نحتاجه اليوم لصنع شخصيات قوية لأبنائنا هو الاتصاف بضبط النفس والهدوء والحكمة في مواجهة المشاكل والظروف الصعبة، وهذا ما نجده جليا في سيرة العقيلة عليها السّلام في مختلف مراحل حياتها، فلم تخرجها قسوة الأيام إلى شرنقة اليأس والنظرة التشاؤمية والانزواء محاطة بالكآبة - حاشاها -، ولم يصدر منها موقف تهوري غير محسوب النتائج بل حاطتها هالة من النضج والرشد في كل كلمة تنطقها أو تصرف تقدم عليه، فما أحوجنا إلى قراءة متأنية نتدبر فيها تلك المواقف لاستلهام الدروس والعبر ونزين بها سلوكياتنا بعيدا عن اتخاذ القرارات والإقدام على خطوات ونحن واقعون تحت تأثير الاستفزاز أو الانفعال الشديد أو لحظات الإحباط، فخفة العقل - كما يقال - والتي تحرك البعض في حواراته وتصرفاته لا ينتج عنها إلا الخسائر وإحراق الأوراق والتميز بالتوتر في العلاقات، واكتساب الصفات الحميدة الصانعة لحياة تجابه الصعوبات بحكمة ورشد فكري وتوازن سلوكي، نهج نتعلمه من سيرة العقيلة عليها السّلام فيجنبنا الاضطراب في واقعنا وعلاقاتنا ويبعد عنا شبح التصرفات الهوجاء والخطوات المتفلتة، فالحوراء عليها السّلام عاشت الانضباط بأعلى درجاته مما يجعل من عواصف الزمن وموجات الحياة العالية تتكسر بين يدي القوة الفكرية والطاقة النفسية لها.
لقد عاشت الحوراء عليها السّلام في بيت زوجها عبد الله بن جعفر ”رض“ والذي كان يمتاز بطهارة النفس والعفة، وكان أيضا صاحب ثروة مالية استطاع أن يديرها وفق النظرة القرآنية في العطاء والإنفاق في سبيل الله تعالى والادخار ليوم القيامة، فالدنيا وفق المنظور الإسلامي مرحلة تزول بالنسبة للإنسان برحيله عنها ليدخل في أول مراحل ومنازل اليوم الآخر والحساب على ما قدم من عمل، ولذا كان المال بين يديه نهرا من العطاء ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين وبلسمة آلامهم وتخفيف وطأة الفقر عنهم، والعقيلة زينب عليها السّلام عاشت حياة المشاركة مع زوجها في صنع المعروف وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة للمحتاجين، فقد كان منزلها مهوى الفقراء وملاذا لهم من نوب الزمان المالية، فتقابلهم عليها السّلام بالترحاب والكلمة الرقيقة المساعدة لهم في التمسك بخيط الأمل بالله تعالى، تسعفهم ليتعالوا على منغصات حياتهم وتبعد عنهم شبح الشعور بالنقص والحرمان والنظرة التشاؤمية والمخاوف مما ينتظرهم في المستقبل المجهول.
نتعلم من الحوراء عليها السّلام أول درس في التخلص من أغلال الأنانية والانكفاء على حاجاتنا ومصالحنا دون مراعاة الآخرين من حولنا ومعاناتهم المختلفة، فالمشاركة الوجدانية ومشاطرة الآخرين همومهم وآلامهم من معالم الشخصية المتألقة والراقية، تصنع السعادة وترسم الابتسامة على وجوه المحتاجين والبائسين، وتعيد لهم توازنهم واقتدارهم مهما كان حجم المعاناة والمشاكل المؤرقة لحياتهم، فتدعو عليها السّلام للاستظلال المجتمعي بعمل الخير ومساعدة المحتاجين وقضاء الحوائج، فإن من نعم الله تعالى على الإنسان أن يكون بابا من أبواب الخير يلجأ إليه من تعالت همومه وقسى عليه الزمن ليحرمه من أبسط مقومات الحياة المادية الكريمة.
إن مسألة الفقر والاحتياج المادي لها عواملها الكثيرة، ولا نتحدث عن المساعدة التامة والشاملة التي تقضي على الفقر تماما فهذا ليس بمقدورنا، إذ جعله الله تعالى بابا من أبواب الاختبار والابتلاء للناس فيمتاز منهم صاحب القلب الكبير واليد البيضاء والذي يهرع لنجدة المحتاجين بحسب قدرته وإمكانياته، عمن تضخمت عندهم الأنا وتبلدت مشاعرهم الوجدانية فيغضون الطرف ويغلقون مسامعهم عن أنات الفقراء ومعاناتهم، ونربي أبناءنا على الإنفاق والبذل واستشعار آلام الفقراء من خلال تقديم تلك النماذج التي طلقت الدنيا وتخلصت من أغلال حب المال وأسره، فخاضت غمار الاختبار الإلهي بقوة واقتدار من خلال تخصيص شيء مما يمتلكون لتقديم المساعدة للفقراء والمسح على رؤوسهم بالأيادي الحانية كما كانت عليه العقيلة زينب عليها السّلام