دراسة في علم الشعر
فنونه وانواعه واعلامه
هذا البحث في علم الشعر يجب ان يكون من الأهمية بمكان فهو بحث منهجي أكاديمي في عمق فنون الشعر العربي ومن ثم ينبغي علي كل محبي الشعر وكتابه وقارئيه ان يكون لهم حظاً وفيراً من هذه الدراسة ، فقد جُبتُ كثيراً من البحوث هنا وهناك واستعنت بمراجع من أمهات الكتب المتخصصة في علم الشعر ونظمه وارجوا التماس العذر لو كان هذا البحث قد اخذ طابع الإسهاب لكن أردت من خلاله أن احصر كل صغيرة وكبيرة تعني بهذا الضرب العظيم من ضروب العلم
ونبدأ على بركة الله
أولا:/ فنون الشعر العربي سبعة (7)
وهي ( الشعر ـ الموشح ـ الزجل ـ الدوبيت ـ الكان كان ـ القوما ـ المواليا )
وقد قسمها علماء الفن الشعري ثلاثة أقسام :
الأول فنون شعرية معربة : وهي ثلاثة أنواع [ الشعر – الموشح – الدوبيت ] وسميت بالشعر المعرب لأنها تلتزم جميعها بأصول وقواعد اللغة العربية ولا تخرج عن ضوابطها الإعرابية
الثاني فنون شعرية غير معربة : وهي التي لا تلتزم قواعد اللغة من ضبط إعرابي أو صرفي وهي ثلاثة [ الزجل – الكان كان – القوما ]
الثالث فنون شعرية بين المعرب وغير المعرب : وهي [ المواليا ] والمواليا هي حلقة الوصل بين الشعر المعرب وغير المعرب وإن كان النظم فيه بالعامية أليق وأحسن وهو الذي تطور حين جاء مصر وسمي بالموال
(2) الموشح :/
الموشح فن شعري مستحدث، يختلف عن ضروب الشعر الغنائي العربي في امور عدة، وذلك بالتزامه بقواعد معينة في التقنية، وباستعماله اللغة الدارجة أو الأعجمية في خرجته، ثم باتصاله القوي بالغناء. ومن الملفت ان المصادر التي تناولت تاريخ الادب العربي لم يُقدم تعريفا شاملا للموشح، واكتفت بالإشارة اليه إشارة عابرة، حتى ان البعض منها تحاشى تناوله معتذرا عن ذلك لأسباب مختلفة. فابن بسام الشنتريني، لا يذكر عن هذا الفن إلا عبارات متناثرة، أوردها في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، وأشار إلى انه لن يتعرض للموشحات لأن أوزانها خارجة عن غرض الديوان، لا أكثر على غير اعاريض أشعار العرب. أما ابن سناء الملك فيقول: "الموشح كلام منظوم على وزن مخصوص".
موشح أو موشحة أو توشيح، وتجمع على موشحات أو تواشيح من وشح بمعنى زين أو حسن أو رصع.
تعريف الموشح الموشح فن شعري مستحدث يختلف عن ضروب الشعر الغنائي العربي في امور عدة وذلك للاتزامه بقواعد معينة في التقنية وبخروجه غالبا على الاعاريض الخليلية وباستعمال اللغة الدارجة أو العجمية في خرجته. و الموشح كلام منظوم على وزن مخصوص بعض شعراء الموشحات أبو حسن علي الضرير المعروف بالحصري وله قصائد عديدة من بينها (يا ليل الصب) وقد كان من شعراء المعتمد بن عباد ومات في طنجة
الموشحات في العصر الحديث
في أواسط القرن التاسع عشر وصلت الموشحات إلى مجموعة من الفنانين الموهوبين لم يقتصروا على حفظ القديم بل جددوا وأضافوا إليه، فظهرت موشحات جديدة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ومن هؤلاء محمد عثمان ملحن ملا الكاسات الذي ساهمت ألحانه القوية واهتمامه بضبط الأداء مع صوت عبده الحامولى الذي وصف بالمعجزة في انتقال الموشحات من الأوساط الشعبية إلى القصور وأصبح الموشح جزءا أساسيا من الوصلات الغنائية، واستمر هذا التقليد حتى أوائل القرن العشرين حينما ظهرت باقة من الموهوبين أضافت إلى الموشحات مثل سلامة حجازى وداود حسنى وكامل الخلعى، حتى وصل إلى سيد درويش فأبدع عدة موشحات كانت بمثابة قمة جديدة وصل إليها هذا الفن، لكن المفارقة الكبرى تمثلت في أن سيد درويش نفسه كان كخط النهاية فلم تظهر بعده موشحات تذكر
توارى فن الموشح مع مقدم القرن العشرين وحلول المدرسة التعبيرية التي كان رائدها سيد درويش محل المدرسة الزخرفية القديمة وأصبح فنا تراثيا لا يسمعه أحد، لكنه عاد إلى الساحة مرة أخرى بعد عدة عقود
أعيد غناء الموشحات في أواخر الستينات من القرن العشرين كمادة تراثية عن طريق فرق إحياء التراث التي بدأت بفرقتين هما فرقة الموسيقى العربية بقيادة عبد الحليم نويرة في القاهرة وكورال سيد درويش بقيادة محمد عفيفى بالإسكندرية، ثم ظهرت فرق أخرى كثيرة في مصر خاصة في موجة قوية لاستعادة التراث خلقت جمهورا جديدا من محبى الموشحات والفن القديم، وتعددت فرق الموشحات إلى حد وجود فرقة بكل مدينة وظهرت فرق في الجامعات لنفس الغرض، كما غنى الموشحات بعد ذلك مطربون فرادى مثل صباح فخرى وفيروز وظهرت أجزاء من موشحات كمقدمات لأغانى عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وآخرين مثل كامل الأوصاف لحن محمد الموجى وقدك المياس والعيون الكواحل وغيرها
أصبح للموشح كيان جديد له جمهور كبير، واكتسبت الموشحات أيضا قيمة اجتماعية راقية نظرا للتطور الذي أدخل على طرق الأداء في هذه الفرق موسيقيا وغنائيا حيث اتسم الأداء بالدقة المتناهية التي ساهمت في تصنيفه كفن من الذوق الرفيع، وانعكس هذا الاتجاه على الجمهور الذي أبدى انضباطا كبيرا وحسن استماع إلى عروض خصصت للموشحات، بل إن الجمهور قد استجاب لشرط المنظمين دخول حفلات الموشحات بالملابس الرسمية! كما ساهم في عودة الموشحات لاكتساب الجمهور شرقية ألحانها الشديدة التي اشتاق الناس إلى الاستمتاع بفنونها بعد سنوات طويلة من التغريب والتجريب
تكوين الموشح
يضم الموشح عادة ثلاثة أقسام، دورين وخانة كل منها بلحن مختلف والختام بالخانة الأخيرة غالباً ما يكون قمة اللحن من حيث الاتساع والتنويع مثلما في موشح لما بدا يتثنى وموشح ملا الكاسات، وقد لا تختلف الخانة الأخيرة ويظل اللحن نفسه في جميع مقاطعه كما في موشح يا شادى الألحان، وقد تتعدد أجزاء الموشح لتضم أكثر من مقطع لكل منها شكل وترتيب وتتخذ تسميات مثل المذهب، الغصن، البيت، البدن، القفل، الخرجة
كما أن هناك تقسيمات لأنواع الموشحات حسب تعدد إيقاعاتها وأزمنتها
الكــار إيقاعٍ كبيــــر
الكــار الناطق إيقاع متوسط
النقــش 3 - 5 إيقاعات
الزنجير العربى 5 إيقاعات
الزنجير التركى 5 إيقاعات كبيرة محددة 16/4، 20/4، 24/4، 28/4، 32/4
الضربان إيقاعين
المألوف إيقاعٍ واحــد
(2) :/ المواليا
******************
أول من نطق به أهل واسط، وهي مدينة بناها الحجاج بن سوف الثقفي، وجعلها دار الامارة، وأول بيت منه هو:
منازل كنت فيها بعد بعدك درس
خراب لا للعزا تصلح ولا للعرس
فأين عينيك تنظر كيف فيها الفرس
تحكم وألسنة المدّاح فيها خرس.
وذُكر أن هارون الرشيد لما قتل البرامكة ومن بينهم جعفر البرمكين أمر أن يرثى بشعر. فرثته جارية بهذا الوزن وجعلت تقول يا مواليا، وأول من نظمت قولها:
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس أين الذيـن حموها بالقنـا والترس
قالت تراهم رمما تحت الأراضي درس سكوت بعد الفصاحة ألسنتهم خرس
وقد اختلف في سبب تسميته بهذا الاسم، فقيل سمي به لموالات قوافيه بعضها ببعض، وقبل سمي بذلك لأن أول من نطق موالي بني برمك، وكان أحدهم إذا نطق به ونعى مواليه قال: يا موالي. وهذا هو الأصح.
وهو بحر من بحور الشعر البسيط، ولا يلتزم في مراعاة قوانين اللغة العربية من إعراب أواخر الكلمات، ويجوز فيه استعمال الألفاظ الجارية في تخاطب العوام من الناس.
وينقسم المواليا إلى ثلاثة أقسام:
رباعي ويتقوم من أربعة اشطر،
وحق يا بدر تغريبك وتغريبي لا تتبع النفس تغريبك وتغريبي
خل المقادير تجريبك وتجريبي وتنظر الناس تجريبك وتجريبي
أعرج يتقوم من خمسة أشطر،
محاسن اللفظ جوهر مبسمك حلّت وأسهم اللحظ تجرح أينما حلت
وساحرات الجفون عقد الطلا حلت وكانعهدي بها التحريم في الكاسات
لكنها قد غدت من مبسمك حلت
ونعماني يتقوم من سبعة أشطر
أهيف من العرب له ألحاظ محدودين خلا القلب والحشا بالأسر محدودين
روحي فدى ظبي جاب الأسد محدودين الله أكبر على شرب الطلا من فيه
هو سبب كل سقمي وانتحالي فيه يا بدر يكفي الجفا أين الوصل من فيه
واجعل وصالك له أوقات محدودين
ماذا على مَنْ تَعاطى حُبَّهُ ولَـهُ = هلْ باردُ الريق ِ يُطفي النارَ أمْ وَلَـهُ
أمْ لوعةُ القلب ِ إنَّ الحُبَّ أوَّلَـهُ = لواعجٌ ثُمَّ يُفشـي الصبُّ مِقْوَلَـهُ
*************************
يا آلَ بيتِ النبـيِّ المصطفى حسبي = هواكمُ من صروف ِ الدهر ِ والكَرْبِ
أنتمْ ليوثُ الوغى في ساحةِ الحَرْبِ = أنتمْ غيوثُ الندى لا هاطلُ السُحْب
****************************
لـيْ صاحبٌ لَمْ تُغيـّرْهُ النُّوى أبدا= مُذْ فرّقـتْ بينَنا الأيـّامُ فابْتـَعدا
لأنّ معْدنَهُ تبـرٌ وقـدْ نـَفـَـدا = في دار ِ غُرْبتـه ِ لكـنْ يُقـَرَّبـُه ُ
قلبٌ بأشْغُـفِه ِ جَمرُ الغضا اتـّقـدا
**************************
و المواليـــا
------
فن أخر أبعد شيئا من الموشحات وزناً ولغة وسياقاً وكان يقوله من هم غير العرب (الموالى )
ويتميز فن المواليا بالأستخدمات الكثيرة من المحسنات اللفظية والتورية والجناس ومن أشهر من
كتب هذا اللون (صفى الدين الحلى) المولود بالقاهرة سنة 677 هجرية_755 هجرية .
يقول صفى الدين :
يا قلب إن غدروا فاغدر وإن خانوا*** فخن وإن هم قسوا فاقسواوإن لانوا
فلن وإن قـربوا فا قرب وإن بانوا *** فـبن وكن لى معاهــم كيفــما كـانوا
وفى أواخر عصر المماليك ظهر ابن سودون _المولود بالقاهره سنه 810 هجرية_ 868 هجرية .
وأشتهر بأسلوبه الرمزى .
قــلت لــمن تركنــى بالخبــــا ناحــل
وصلك بكم وأرحمى ذا العاشق الناحل
قالت بمتيـن جمل قـلت لها أنا راحــل
مالــى جمـال ولكن نـخل فى الساحــل
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
إن كنت عـاقـــل وربــك بالتقــى برك
ادفـع أذاك وهـات خيـرك ودع شــرك
وإن تعـدى حسـودك والحســد ضـرك
نـاديـــه يـا أيهــا الأنســان مـا غـــرك
( غير معروف قائل هذه الابيات )
ـ
ـــــــــــــــــــــــــ ـ ـــــــــــــــــــــــــ ــــ
طرقت بـاب الخبـا قالـت من الطـارق
فقـلـت مفتـون لا نــاهب ولا ســـارق
تبسمــت لاح لـى من ثغـرهــا بــارق
رجعت حيـران فى بحر أدمعى غارق
(3) :/ الدوبيت
***************
الدوبيت بيتان متتاليان من الشعر يكونان وحدة شعرية لما فيهما من انسجام إيقاعي أو اتحاد في القافية. وقد تكون منهما فكرة مكتملة. وهو لفظ ربما كان قد انتقل إلى العرب في عصورمتأخرة من الفارسية؛ لأن كلمة ¸دو• بالفارسية تعني اثنين، ثم أضيفت إليها كلمة بيت فأصبحت دوبيت، وهي معروفة عند المتحدثين باللغة العربية في كثير من أنحاء العالم العربي. غير أن الدوبيت لا ينظم باللغة العربية الفصحى إلا نادرًا.
تنظم قصائد الدوبيت في الشعر الإنجليزي على بحر الشعر الإنجليزي المعروف بلفظ الأيامبي، وهو من أكثر البحور الإنجليزية شبهًا وقربًا بالشعر العربي، وتفعيلته على القياس العربي هي فَعْلُن فَعِلُنْ فَعْلُن فَعلُنْ.
والبحر الأيامبي من أكثر البحور استساغة لدى العرب الذين يقرأون الشعر الإنجليزي. وقد ينظم بعض شعراء العرب المحدثين قصائد باللغة الإنجليزية من هذا البحر بكثير من السهولة.
والدوبيت الإنجليزي نوعان هما الدوبيت المقفول، والدوبيت المفتوح. فالدوبيت المقفول هو الذي ينتهي فيه المعنى عند نهاية البيتين، ويُختتم المعنى في القافية الثانية. أما في الدوبيت المفتوح؛ فإن القارئ للقصيدة لا يتوقف عند القافية لأن المعنى لا ينتهي عندها ويستمر في القراءة. وقد ينتهي المعنى في مكان ما من البيت الذي يليه قبل أن يصل إلى القافية. وفي هذا يختلف الدوبيت الإنجليزي المفتوح عن الشعر العربي الذي يقف القارئ فيه عند نهاية كل بيت حين يصل إلى القافية إلا ما ندر كقول الشاعر الحديث عباس محمود العقاد في هذه الأبيات من قصيدته صوت السودان.
صوت من السُّودان أسمعني بمصر فسرّني
تهفو له الأسماع صاغية ولم يستأذنِ
فيه بشاشةُ وامق ومُبشّر ومؤمّنِ
لولا حفاوته الكريمة ما علمتُ بأنني*
فارقتُ من مصرَ الجديدة ذات يوم مسكني
شكرًا له صوتًا تبيَّن من لسان بيِّنِ
وقد ذكر العقاد بأن هذا الوصل الذي في قوله: ¸ما علمتُ بأنني فارقتُ… وإلخ وصل لا يرضاه العروضيون ولا نجري على مذهبهم فيه•. يريد هنا التَّضمين وهو من عيوب القافية في الشعر العربي، وهو كثير الوقوع في شعر القدماء والمحدثين ولا يعد من العيوب القبيحة.
وقد استعمل كل من جون درايدن، وألكسندر بوب، الدوبيت المقفول بطريقة رائعة. ومن بين الشعراء الذين فعلوا ذلك جفري تشوسر، وجورج تشابمان، وجون كيتس. بالإضافة إلى هذا فإنّ لفظ كبلت، يشير أيضًا إلى أي بيتين من الشعر يأتيان وحدهما
ليكوِّنا مقطوعة.
والدوبيت .. ضرب شعري غنائي أشتهر به سكان المناطق الرعوية في السودان، وله أسماء أُخر في العالم العربي مثل الزجل والمواليا، أصله كلمة فارسية مكونة من شطرين أولهما (دو) ويعني اثنين، والمعنى واضح وهو الشعر ثنائي الأبيات، حيث يتكون الدوبيت من قصيدة غنائية طويلة مكونة من مقاطع صغيرة تتألف من بيتين من الشعر بذات القافية مع اشتراط انتهاء الشطر الأول لكل منهما بنفس القافية التي ينتهي بها البيت، وهذا ما يجعل المقطع الواحد من الدوبيت مكون من أربعة أجزاء صغيرة موحدة القافية مثاله ..
الناس العلي الساحر بشقّوا الصيّ
أمسوا الليلة فوق راياً نجيض ما نيّ
ناس أب ترمة جاموس النحاس أب ديّ
عقدوا الشورة ميعادهم جبال كربيّ
وهناك حالات يكون فيها المقطع ثلاثياً أو خماسياً وفي حالات نادرة يكون سداسياً، ويشتهر بهذا النوع سكان بوادي السودان الغربية في كردفان ودارفور، وفي بعض المناطق من أواسط السودان الغربية المتاخمة لكردفان، كما أن أغلب شعر (الحكّامات) بغرب السودان ينتمي لهذا الدوبيت الثلاثي، ومثاله من غرب السودان هذا المقطع الجميل الذي يُمدحُ به العرسان ليلة عرسهم وتغنيه لهم بنات الفريق ..
سقتا النَّم علي الجاغوس
الشجرة الظليلة الما نقرها السوس
في راسها النمر وفي ظلها الجاموس
ورغم أن الدوبيت متجذر في وجدان القصيدة السودانية الدارجة، ويشكل الضرب الأوفر حظاً من الانتشار والتداول لسهولة حفظه وجمال معانيه وارتباطه بحياة البداوة الفطرية التي يحن إليها كثير من الناس الذين شغلتهم حياة المدن والحواضر عن الاستمتاع بجمال تلك الحياة، إلا أن شكل قصيدة الدوبيت كما هي في السودان لا تنتمي حقيقة إلى الدوبيت بمعناه في العالم العربي، حيث الدوبيت هو أحد فنون الشعر المعربّة والخارجة عن أوزان الشعر العربي الخمسة عشر، وللدوبيت خمسة أنواع جميعها لا تطابق الدوبيت الذي نعرفه في السودان وأقربها إلى الدوبيت السوداني هو النوع المسمى : (الرباعي الخالص) وإن كان يختلف عنه اختلافاً طفيفاً، ويتفق معه في كثير من النواحي الأخرى، حيث يتفق معه في وحدة القافية في المقاطع الأربعة، ويختلف معه في وجوب أن يكون هناك جِناسٌ بين قافيتي المقطعين الأولين، وجناسٌ بين القافيتين الأخيرتين، وبذا يختلف عن الدوبيت السوداني الذي لا يشترط سوى وحدة القافية في جميع المقاطع. أما بقية أنواع الدوبيت الأربعة فهي بعيدة كلياً عن فكرة الدوبيت المتعارف عليه في السودان وفي منطقة البُطانة على وجه الخصوص.
ينتمي الدوبيت السوداني إلى بحر من بحور الشعر (المستحدثة)، وهو البحر المسمى بحر (المواليا)، الذي هو فنٌ (مستحدث) قيل أنه أستخدم أول مرة لرثاء الوزراء البرامكة حين نكبتهم على يد الخليفة العباسي، وهذا النوع من الشعر مطابق تماماً لما نسميه نحن في السودان (الدوبيت)، حيث لا يشترط هذا الضرب من الشعر سوى اتفاق القافية الأخيرة من كل جزء من الأجزاء الأربعة أو الثلاثة من مقطع الدوبيت، وربما أتى الخلط بين المواليا والدوبيت – في اعتقادي - لعلاقة المواليا بالفرس البرامكة.
ويعتقد الكتّاب والمؤرخون أن المواليا ضرب من الشعر المستحدث والذي لم يجري على ألسنة العرب في الجاهلية، حيث أن المقياس هو بحور الخليل بن احمد، ولكن ربما أغفل الخليل بن أحمد هذا الضرب من الشعر ولم يرد مطلقاً في بحور شعره الخمسة عشر، أقول أغفله لأن هذا النوع من الشعر ينتمي إلى الشعر الجاهلي وأخص الثلاثي منه بالذكر، وربما أغفله الخليل غير عامد لأن استخدامه لم يكن كثيراً، لذا ومن باب إحقاق الحق ينبغي أن يعترف بالمواليا كأحد بحور الشعر الرسمية المعتمدة. ودليلي على كون المواليا أكثر أصالة من جميع بحور الشعر الأخرى، أن أقدم قصيدة شعر عربي على الإطلاق هي قصيدة العنبر بن تميم والتي كتبت قبل الهجرة النبوية بحوالي مائة وخمسين سنة، وكان قد نظمها لحداء الإبل وهو عائد من منطقة تسمى بهراء في الجزيرة العربية، قال فيها ..
قد رابني من دلوي اضطرابها
والنأي في بهراء واغترابها
إن لم تجيء ملأى يجيء قرابها
ونلاحظ مدى الشبه الشديد بين بناءِ هذه المقطع وبين مقطع قصيدة المواليا وزناً وقافية و(استخداماً)، ورغم أن هذا المقطع لم يعرف إن كان له بقية من قصيدة أم لا، إلا أنه حتى وإن لم يكن مقطعاً معزولاً من ثلاثة مقاطع فقط، فهو على الأقل يحاكي تماماً من ناحية الوزن أوزان المواليا الثلاثية الموجودة في غرب السودان.
ورغم أن المقطع السابق من قصيدة العنبر بن تميم قريب الشبه من البحر السابع من بحور الشعر وهو (بحر الرجز) إلا أن وجود القافية في نهاية كل مقطع ينفي انتماءه لهذا البحر، حيث أن بحر الرجز لا وجود للقافية في نهاية كل شطر من قصائده.
وقد استخدمت المواليا أو كما تسمى في السودان الدوبيت في مختلف المناسبات والأغراض، مدحاً ورثاءً وغزلاً وتشبيباً وفخراً وحماسة، يقول الشاعر العظيم (ود ضحوية) في نقده لظاهرة اجتماعية بدأت في الظهور في وقته، وهي عادة التبطل واللا عمل، وينتقد فيها الولد الشاب الذي لا يسافر (لقطع الطريق) إلى أن ينقضي الشهر ويهل هلال الشهر الجديد ولا يرد البحر يعطن ويبل (شنانه) في مائه، ولكنه رغم خموله وكسله حينما تمر الفتيات أمامه فإنه يراهن كالصقر ويمشي أمامهن مشية الغرور والفخر (القدلة)، ويختمها بوصف هذا الشاب بالخيبة والمذلة ..
ولداً ما سَفَر لمن شهيرُو يهلّ
ما وَرَدَ البَحَر .. عطَّن شنانُو يَبلّ
وكت الشوف .. يشوف متل الصقير يقدل
وا خيبةً علي ولداً يعيش بالذل
وللدوبيت في السودان حظ وافر من القصائد الغزلية الرائعة، وأشهرها تلك القصائد التي كتبها العاشق المتيم قيس البُطانة (المحلق الحمراني) في ابنة عمه وزوجته (تاجوج) الجميلة، يصف عينيها بأنها فص ألماس يزين الذهب المُجمَّر ويشبه شفتيها بالتمر وشعرها بالبستان وخصرها بالضمور وملمس جلدها بملمس القماش الكيدي المخطط، وذلك حينما أصابته اللوثة العقلية نتيجة طلاقه منها ..
فص الماز مركَّب فوق مجمَّر
فص عينيكِ يا أم خشماً متمَّر
فوق بستان .. تِحِت سالك مَضمَّر
جليدك .. طاقة الكيدي المنمَّر
ويقول أحدهم وأظنه أيضاً (ود ضحوية) مادحاً الكرم والبذل، ورغم ان ود ضحوية كان قاطع طريق إلا أن قطاع الطريق في ذلك الوقت كانوا أشبه بروبن هود (لصوصٌ نبلاء)، فهم يقطعون طريق الإبل فقط لاغير، أما النعاج والبقر فإنهم يعفّون عن نهبها، كذلك لا ينهبون أملاك النساء ولا الأطفال، يقول الشاعر أن هذه الإبل إن (حرَّن) أي كن لدى غيره فهن بُكار (والبكرة هي الناقة) ولسن صفائح زيت، أي أن ما سيبذله من تعب هو من أجل شيء له قيمة مادية ومعنوية في ذات الوقت، وإن (بردَن) أي حينما ينتهي حرّ المعركة وتصير هذه الإبل ملكه وتتحول لنقود فإنه ليس بخيلاً بها للغير ..
ان حرَّن بُكار .. ما هن صفائح زيت
وإن بردن نقود .. ماني البخيل صريت
وللأبيات بقية لا أذكرها.
نجد في شعر (الهمباته) الذي هو نوع من الدوبيت الخاص بقطاع الطريق في العهود الغابرة، جميع معاني الشعر، وأكثر ما كتبوه كان عن رحلاتهم الشاقة لنهب الإبل من بقاع السودان المختلفة، وفي ظني أن هؤلاء الهمباتة كانوا من العوامل التي ساعدت (جزئياً) في توحيد السودان بعض الشيء في زمان كان السودان فيه قارة لا وطن، وقد وحدتهم (ظروف عملهم) قبل أن تتوحد البلاد، فنجدهم إخوة تجمعهم الصداقة و(الخوة) رغم تباين مناطقهم الجغرافية، وفي ذلك يقول قائلهم ..
الخبر البيجي الصدِّيق مقفَّل جُوَّة
حالف ما بقيف دونو ان بقيت في هوَّة
عِنْ طرش الدرق ما بنسى شرط الخوَّة
كبّاس للدهم .. عند البقول : يا مروَّة
وأشعارهم للمتمعن فيها دروس في تاريخ وجغرافيا هذا الوطن، يقول شاعرهم يصف حياته بالتقلب وأنه لا يدوم على حال، فيوماً هو في منتهى السعادة، وفي اليوم الآخر يتحمل المشاق لسوق الإبل من جنرة إلى كاجة وهي مدن في غرب السودان، ثم يعود ليصف محبوبته بأنها ظبية منطقة الباجة في شمال السودان، سياحة في ربوع الوطن لا تتجاوز الثلاثة أسطر ..
يوماً في بَسِطْ .. عند المزنَّد عاجا
ويوم غربتَبِن من جنرة شايل كاجة
بيش نرضيها غير البِلّ جدية الباجة ؟
كما نجد أن للدوبيت استخداماً آخر وهو الرثاء، حيث أن للدوبيت مقدرة عجيبة على إيصال المعاني الإنسانية بسهولة، وأن يجعل المتلقي يعيش حالة الشاعر ذاته، وتحضرني قصيدة للشاعر السوداني ود البنا (الفرجوني) أطال الله عمره في رثاء صديقه المرحوم شيخ قبيلة الشكرية (حسان أبوعاقلة أبوسن)، ورغم طول القصيدة وجمالها إلا أن هذا البيت كان بليغاً جداً، حيث يتساءل الشاعر فيه عن فارس الصف وطاهر الكف (صديقه حسَّان) ما خبره الليلة، لماذا لم يلاقيه بابتسامته التي عهدها عليه، ويدعو البروق أن تبكي عليه وأن تنهمر سيلاً لأن الذي يعدل (الحال المائل) قد رقد في قبره ..
فارس الصف، وطاهر الكف، خبارو الليلة ؟
ما لاقانا بيتبسم لَزومَ الشيلة
أبكَنْ يالبروق .. كُبَّنْ دموعكن سيلة
رقَدَ البِسند الهاكعة وبعدل الميلة
ومن أجمل المرثيات أيضاً ما قاله الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم يرثي صديقه الشفيع أحمد الشيخ بعد إعدامه من قبل النظام المايوي عقب الانقلاب العسكري الذي مُني بالفشل وراح ضحيته الشفيع ورفاقه في الحزب الشيوعي، حيث وصفه بجبل الذهب واضع الساس الذي لم يهتز ولم يتزحزح حين التف حبل المشنقة ودُرِعَ حول عنقه ..
فارس الساحة جيَّاب الحقوق للناس
سنَّاد الضعيف وكت الضيف ينداس
يا جبل الدهب .. إنتَ الوضعتَ الساس
وما اتزحزحتا يوم درعوا الحبل في الراس
وللجبل مكانة مميزة في الوجدان السوداني، فالشخص القوي والثابت الذي لا يهتز يوصف بأنه جبل، وقد انعكس هذا الوصف على كثير من قصائد المدح في الدارجية السودانية عموماً والدوبيت خصوصاً، وقد وصف الزبير ود رحمة بذات الوصف (جبل الدهب)، ولا يعني هذا بأي حال أن هناك انتهاكاً أدبياً لحقوق قائلة الأبيات التالية (بت مسيمس)، التي سبقت صلاحاً بأزمان طويلة، حيث تضمن صيرورة الإبداع بقاء النسل الإبداعي حياً على مر العصور، تقول الحكَّامة بت مسيمس واصفةً الزبير باشا ود رحمة بعدما نفاه الانجليز إلى جبل طارق ..
في السودان قبيل .. ما بشبهوك بالناس
يا جبل الدهب ... الصافي ماكَ نحاس
بارود انتصارك .. في غمرة الكبَّاس
خليت المجوس ألين من القرطاس
وفي ذات السياق، وصف الفرسان الذين لا تهزهم الخطوب بالجبال، ذلك الوصف البديع والمدح الذي أسبغه أحد شعراء الشكرية (ود حَسوب) حينما سأله أحدهم عن أبو علي (وهو جدٌ بعيدٌ لحسان الذي رثاه الفرجوني أعلاه) فقال له رأيته تواً (هسع شُفتو) على ظهر حصانه (يتلتت) وبقع الدم على لحيته، ووصفه بأنه جبل الموسم الذي تقصده القبائل ولولاه لما كان النصر حليفهم على أعدائهم ..
هسع شفتو .. فوق ظهر الحصان بتلتت
ولصفي الدم .. علي دقنو المليحة اتشتت
جبل الموسم الفوقو القبايل ختت
أكان ما حضر .. قوم ناس خميس ما انسكت
هذه الروعة والوصف البليغ؛ لم يطلب أحدٌ من الشاعر أن يمدح أبو علي، كل ما طلب منه أن يجيب بالنفي أو الإيجاب على سؤال جوابه كلمه : نعم رأيته ولا لم أره، ولكنها الشاعرية المتدفقة التي تبحث عن مسارب للنفاذ إلى الوجود. وبين ود حَسوب والفرجوني مسافات زمنية ليست بالقليلة، ولكنهم اجمعوا على فروسية أبو علي، فنجد الفرجوني بعد مئات السنين يمدح أبو علي، الممدوح قبله، ويصفه بمن صد الهمج، وذلك في نفس مرثيته التي اقتبسنا منها ما سبق، يقول وهو يرثي حسَّان ..
يبكنك سيوف أجدادك القُطّاع
ويبكيك أب علي الصدَّا الهمج ما طاع
جِنسك مُو مُلَملَم .. بُرقة مُو لُطَّاع
نور في نور كواكبك .. كُلهن سطَّاع
وللنساء باعٌ طويل في شعر الرثاء وأغلبه لأبناء وآباء وأزواج ماتوا أو قتلوا في ساحات الشرف؛ قالت بنونة، ترثي أخاها الذي أصابه الجدري فأقعده عن القتال وأماته ميتةً لا تليق بالأبطال، لا أتمنى لك الميتة التي يذر فيها الرماد عليك (فميت الجدري لا يغسل ولكنه يذرى بالرماد عن بعدٍ خوف العدوى) أريدك يوم لقاء العدو أن يكون دمك وشاحاً تتوشحه، وأن يكون الموتى تحت يديك مسلوبين خاضعين لك وغبار المعركة (العجاج) يكتح وجوههم، ثم تأتي لذكرى سيفه فتحن إلى سيف أخيها الذي كان يجز به الرقاب ..
ما دايرا لك المِيتة أم رماداً شحّ
دايراك يوم لُقاء .. بدميك تتوشّح
الميت مسولب .. والعجاج يَكتحّ
أحيَّا علي .. سيفو البسوّي التحّ
ثم تواصل وصفها له في قصيدة طويلة غاية في الروعة، يغنيها الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي بصوته العذبِ المنساب الذي لا يشيخ يصاحبه لحنٌ عدنيّ جميل، في شريطٍ ضمَّ باقةً من زهور الأغنيات هذه أحداها.
والدوبيت يستخدم أحياناً لوصف رحلة ما أو منطقة من المناطق أو ظاهرة طبيعية، ومن أكثر الشعراء الذين وصفوا الطبيعة في شعرهم شاعر البُطانة الشهير (الحاردلو)، وهو من الشعراء الذين وصفوا فأجادوا الوصف، والكلام عن الحاردلو ذو شجون ولا ينتهي أبداً، ولكن نكتفي بهذه الصورة التي نقلها لنا عن رحلة عودته من أحدى مناطق السودان إلى أهله في منطقة البُطانة، حيث يقول أن هناك خبراً أكيداً وصله وهو أن البُطانة قد رشها مطر الخريف، وأن السحاب ينزف فوقها حتى مطلع الفجر لا يتوقف، وأن حشرة (أم صريصر) قد هاجت فُحولها استعداداً لموسم التكاثر وبدأت في غنائها الشبيه بالنواح، ويصف ناقته (بت ام سايق) بأنها أسرعت حين أحست بهذا الفرح الجميل في أرض البُطانة، فلم تتناول عشاءها إلا بالقرب من فريقهم في البُطانة ..
الخبر الأكيد .. قالوا البُطانة اترشَّت
ساريةً تبقبق للصباح ما انفشَّت
هاج فحل أم صريصر والمنايح بشَّت
وبت أم سايق علي طرف الفريق اتعشت
والدوبيت لا يقتصر على أبناء البادية، فهذه بنونة سليلة الملوك، ولا تنتمي للبادية بأي صورة من الصور، وإن كانت قبيلة الجعليين التي تنتمي إليها بنونة تراوح بين البداوة والحضارة وذلك لموقعها الجغرافي ما بين بادية البُطانة بمراعيها الخصبة النادرة في الجنوب، وبين حوض النيل العظيم في الشمال، الذي تقطن أغلب القبيلة على ضفتيه. ولكن الدوبيت في السودان لا يرتبط مطلقاً ببادية أو بحاضرة، بل هو فن نابع من القلوب. وللشايقية في أقصى شمال السودان حيث تنعدم المراعي تماماً وتختفي معها حياة البداوة، إلا في أضيق الحدود، ولا تشابه بحال من الأحوال حياة الرعي والبداوة المؤسسة في سهل البُطانة ومراعي الغرب الرحيبة، ورغم ذلك كان للدوبيت نصيب، وإن كان قليلاً، منه ما غنته مهيرة بنت عبود لفرسان الشايقية تستحثهم على النهوض ومقاومة الأتراك قبل غزوهم لديار الشايقية، ورغم ان القافية في أبيات مهيرة غير موحدة، إلا أن ما قالته هو دوبيت بشكلٍ أو بآخر ..
غنيت بالعديلة .. لي عيال شايق
البَرَشو الضعيفة ويلحقوا الضايق
الليلة استعدوا .. وركبوا خيل الكرّ
وقدامهم عقيدهم بالأغر دفَّر
جنياتنا الأسود .. الليلة تتنتر
ويالباشا الغشيم .. قول لي جدادك : كرّ
ولم أكن أريد الاستشهاد ببيت شعر للرائع حميّد لأنه ليس ملكاً للشايقية وحدهم، ولكن بيت شعره التالي يُرغمُ المستشهدَ على الإتيان به، يصف حميّد أصحاب المظاهر الكاذبة الفارغين المفرغين، الذين يتباهون بحديثهم المنمق وملابسهم الجميلة، في حين أن رؤوسهم خاوية، فقال ووصف فأجاد الوصف، وبهذا الوصف البليغ أختتم ويكون الحديث قد انتهى ..
الناس في العروض .. لا تقيسها بي تبيانا
لا يغرك لباسهم والعروض عريانة
ديل حراس رِزِق .. مِتلَ التكنِّي أمانة
زي إبل الرحيل .. شايلة السُقى وعطشانة
(4) :/الزجل
الزجل
****************
الزجل هو فن من فنون الأدب الشعبي وشكل تقليدي من أشكال الشعر العربي باللغة المحكية. وهو ارتجالي، وعادة يكون في شكل مناظرة بين عدد من الزجالين (شعراء ارتجال الزجل) مصحوبا بإيقاع لحني بمساعدة بعض الآلات الموسيقية. ينتشر الزجل بشكل كبير في لبنان وشمال فلسطين وشمال الأردن وغرب سورية والجزائر.
وتعني كلمة زجل بالعربية "الصوت". والزجل في اللغة هو التصويت والتطريب، وهو اسم أطلقه الأندلسيون على شعرهم العامي الذي شاع واشتهر في القرن الثاني عشر الميلادي، خاصة على يد ابن قزمان وجماعته، وانتشر بعد ذلك في لهجات الأقطار العربية الأخرى في المشرق. في بدايات القرن العشرين، أطلق اللبنانيون وصف "الزجل" على شعرهم العامي، إذ كان يعرف قبل ذلك في سوريا ولبنان، بـ "القول" أو"المعنّى". كما كان يسمى الشاعر "بالقوّال". وكان يعرف في فلسطين، بـ "الحدا" أو "الحدادي" وعرف الشاعر بال"حادي"، وخاصة في الجليل والكرمل.
يقول صفي الدين الحلي أن مخترعي الزجل هم اهل المغرب العربي ثم انتقل إلى العراق وباقي الدول العربية . ويعتبر الأندلسيون السبّاقون في مجال الشعر المحكي، إلا أنّ الشعب الذي عاش في جبال لبنان، مما عنده ثروة طبيعية ضخمة وفنون متعددة أضاف العديد من ألوان الشِّعر الشعبي . و"لئن كان الشعر الشعبي نتيجة طبيعيّة لظهور اللّغة العاميّة، فإنّه من الثابت أنّ تطورّه في لبنان كان بتأثير الألحان السريانية الكنسية".
أنواع الزجل
النوع الشكل مثال
عتابا البحر المتناهي 9 مقاطع كل شطر، أو السريع وهو الشائع 10 مقاطع في كل شطر، والبسيط 11 مقطعا في كل شطر لا تظني عن ربوعك بعدنـا على درب الهوى مشينا بعدنا
تعالي انظري انشـغلي بعدنا تريني براس قايمة الحبـاب
ميجانا الوزن اليعقوبي الذي تتألف دعامتيه من 24 حركة صوتية 12 في كل شطر يا ميجانا يا ميجانا يا ميجانا اعطينا عيونك تا نسـل سيوفنا
قد الحلو ما يوم قدامي خطر الا ما حبو مر عَ بالي وخطر
وشو هم حبو يكون مرصود بخطر ما دام كل الحب تعتير وهنــا
قلبي انا كيف شكل فيني احملو وكل ما حلو قبالز مرق بشعلو
وحتى اذا بنوم الهنا بيبصر حلو بيشعل حريق الحب بنوم الهنا
أبو الزلف الوزن المزدوج الذي يتألف من 13 مقطع صوتي – 7 حركات في الشطر الأول و6 حركات في الشطر الثاني، هيهات يا بو الزلف عيني يا موليا
قلبي أماني معـك لا تنكرو عليـا
يا حلو حاجي بقا تسرق غفا مني
تمرّد علي الشـقا في غيبتك عنـي
كنا بليل النقـا عا ليالينا نغني
ما عدت بعد اللقا شــفتك بعينيـــا
الشـروقي من البحر الوفائي، صدوره من قافية واعجازه من قافية أخرى ويتألف كل شطر من 13 حركة يلِّي هديتك قلب حـب ووفـا مليان وغنيت فيكـي بِكر شـعر والهـامي
ياما وياما نظمت بمحاسنك قصدان وما كان وادي الوفا يردد صدى هيامي
الروزانا البيت مبني على 13 مقطع صوتي، فالشطر الأول من 7 مقاطع والشطر الثاني من 6 مقاطع (حركات). أما الدور فيتألف من أربعة أبيات، قافية صدورها واحدة وكذلك قافية اعجازها ما عدا عجز البيت الأخير إذ يعود إلى القافية العامة للمطلع ويبنى على 7 حركات في الشطر الأول و6 حركات في الشطر الثاني عَ الروزانا عَ الروزانا كل الحلا فيها
شو عملـت الروزانا حتّـى نجافيها
الندب وطريقة الندب جعل القافية فيه على طريقة المعنى وبأتي من البحر المتفاوت الذي تتألف كل من دعامتيه من 8 حركات دموعكم لا تحجبوها من المحاجر اسكبوها
واتركو الزهرة اللطيفة الباكيي تودع أبـوها
زغرودة كناية عن بيتين تكون القافية في الصدر والإعجاز واحدة. وتبدأ على الغالب بلفظة "أويها" وتنتهي بـ"لي لي لي لي لي". وأوزانها من البحر البسيط الذي تتألف كل من دعامتيه من 11 حركة ومجموع حركات البيت 22 اويها مبروك يابني انشال الهم من بالك اويها اليوم عرسك كنار الأرز غنّالك
اويها حقك تشوف بعروسك عالمدى حالك اويها بالحسن اخت البدر يا ألف نيّالك
لي لي لي لي لي
أنواع أخرى
وهناك العديد من أنواع الزجل الأخرى وبخاصة الزجل الغنائي اللبناني ومنها: سكابا، عاليادي اليادي، عالالاولالا، عالماني، ليَّا وليَّا، ويا غزيِّل والمعنّى.
أشهر الزجالينمن لبنان: زين شعيب الملقب أبو علي، جوزيف الهاشم الملقب بزغلول الدامور، موسى زغيب، خليل روكز طليع حمدان، خليل شحرور، السيد محمد مصطفى ، إدوار حرب، جريس البستاني،أسعد سعيد.
من سوريا: حسون الأخضر وعصام يوسف و فراس زودة
من الأردن: نايف أبو عبيد، الدوقراني، حسن عبد الفتاح ناجي، رزق الله المنّاع، روضة أبو الشعر، سليمان عويس، عادل مصطفى الروسان، سليم خليل النمري، عيسى عباسي، موسى نزال الأزرعي، يعقوب نصر عازر
لغويا
استخدمت مفردة (زجل) في اللغة العربية قبل أن يصطلح على استخدامها لفن الزجل الشعري، وسنستفيد من تتبع بعض المواضع التي وردت فيها قبل نشوء فن الزجل الشعري، لندرك السبب في اختيار مفردة (زجل) اسما لهذا الفن الشعري.
1- الدلالة الأولى: الرمي، عرف ابن المنظور مفردة (الزجل) بتسكين الجيم بقوله: "الرمي بالشيء تأخذه بيدك فترمي به"، ومنه زجل الشيء يزجله وزجل به زجلا وزجلت به، ومن الأقوال الدلالة على استخدام مفردة (زجل) بهذا المعنى الحديث: "أخذ الحربة لأبي بن خلف فزجله بها فقتله" أي رماه بها، وحديث الصحابي عبد الله بن سلام: "فأخذ بيدي فزجل بي" أي رماني ودفع بي، وقال الشاعر: بتنا وباتت رياح الغور تزجله... حتى استتتب تواليه بأنجاد الغور: تهامة، وأنجاد: جمع نجد، وتزجله: أي تدفعه ويقال: "لعن الله أما زجلت به"، "وزجلت الناقة بما في بطنها زجلا" أي رمت به.
2- الدلالة الثانية: (الزجل) بفتح الجيم، الصوت الصادر من الجمادات، وعرفتها الموسوعة العربية العالمية بـ"درجة معينة من درجات شدة الصوت، وهي الدرجة الجهيرة ذات الجلبة والأصداء"، ومن ما ورد في ذلك من الأقوال، قولهم: "سحاب زجل": إذا كان فيه الرعد، و"غيث زجل": لرعده صوت، و"نبت زجل": صوتت فيه الريح، ونجد شعرا للأعشى منه قوله: تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل، أي ريح مصوته، وقول أبو الرضا المعري
عبرت بربع من سياث فراعني به زجل الأحجار تحت المعاول
أي الصوت الصادر من جراء ضرب الأحجار بالمعاول.
3- الدلالة الثالثة: اللعب والجلبة ورفع الصوت، وخص به التطريب، كما جاء في معجم لسان العرب لابن المنظور، أو رفع الصوت المرنم كما جاء في الموسوعة العربية العالمية، فكان يطلق على صوت الحمام، ثم الصوت البشري المطرب. ومما ورد فيه من الأقوال، حديث الرسول محمد: "نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد"، وأنشد سيبويه: له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير، وربما قصد به الغناء، فقيل: وهو يغنيها غناء زاجلا، "وقد يؤكد هذا الارتباط الدلالي بين كلمة زجل ومعنى الصوت العالي المنغم أن كلمة زجالة مازالت تطلق، في بعض الواحات المصرية، على جماعة من الشباب الذين يجتمعون في مكان بعيد ليؤدوا الرقص والغناء الصاخب بمصاحبة آلاتهم الموسيقية"
اصطلاحيا
يحاول صفي الدين الحلي في كتابه (العاطل الحالي والمُرخَص الغالي) إيجاد تعليل للربط بين الاستعمال اللغوي والاستعمال الاصطلاحي، فيقول: "وإنما لا يلتذ به ويفهم مقاطع أوزانه ولزوم قوافيه حتى يغنى به ويصوت فيزول اللبس بذلك".
وهكذا غدت كلمة زجل في الدوائر الأدبية والغنائية مصطلحا يدل على شكل من أشكال النظم العربي، وأداته اللغوية هي إحدى اللهجات العربية الدارجة، وأوزانه مشتقة أساسا من أوزان العروض العربي، وإن تعرضت لتعديلات وتنويعات تتواءم بها منظوماته مع الأداء الصوتي للهجات، ويتيح هذا الشكل من النظم تباين الأوزان وتنويع القوافي وتعدد الأجزاء التي تتكون منها المنظومة الزجلية، غير أنه يلزم باتباع نسق واحد ينتظم فيه كل من الوزن والقافية وعدد الشطرات التي تتكون منها الأجزاء، في إطار المنظومة الزجلية الواحدة .
ونجد تعريفا أكثر تحديدا لأحمد مجاهد يعرف فيه الزجل بـ"شعر عامي لا يتقيد بقواعد اللغة، وخاصة الإعراب وصيغ المفردات، وقد نظم على أوزان البحور القديمة، وأوزان أخرى مشتقة منها" .
ويظهر أن تعريفات الزجل لا تختلف عن تعريفات الشعر، والجدل الدائر حولها، إلا باستخدامها اللهجات العامية، وترك الفصحى، وهو ما عبر عنه صفي الدين الحلي بقوله -متحدثا عن موضوع كتابه (العاطل الحالي) وهو الفنون العامية- : "هذه الفنون إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، حلال الإعراب فيها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صناعاتها إذا أودعت من النحو صناعة، فهي السهل الممتنع، والأدنى المرتفع"
نشأة الزجل
هناك قصة مشهورة حول نشأة الزجل يتداولها كثير ممن أرخ لهذا الفن، مضمون القصة أن أبو بكر بن قزمان (ت555هـ) عشق غلاما مليحا يدرس في الكتاب، فعاقبه الشيخ، لينشد ابن قزمان:
الملاح ولاد أمارة والوحاش ولاد نصاره
وابن قزمان جا يغفر ما قبل له الشيخ غفارة
فقال له الشيخ :"هجوتنا يابن قزمان بكلام مزجول" أي كلام مقطع.
ربما تدلنا هذه القصة على الدور الكبير الذي لعبه ابن قزمان في تدوين الزجل، وتخليده، حتى إن تقي الدين الحموي (ت737هـ) مؤلف كتاب (بلوغ الأمل في فن الزجل)، يقول:"ولهذا -عدم تمكنه من منافسة أدباء الفصحى- عدل قبلة المغرب، وهو الإمام أبو بكر ابن قزمان تغمده الله برحمته، واخترع فنا سماه الزجل، لم يسبق إليه، وجعل إعرابه لحنه، فامتدت إليه الأيادي، وعقدت الخناصر عليه"، ولكننا لا نستطيع القبول بهذا لعدد من أسباب، منها أن فكرة تأسيس فن شفهي، يقوم به شخص واحد، أصبحت فكرة غير مقبولة، فقد أظهرت الدراسات الحديثة، أن أمثال هذه القصص، هي تعابير أسطورية، يستخدمها الأولون بكثرة ويصدقونها، ولا يمكن أن تؤخذ على محمل الحقيقة الكاملة، وإذا عدنا للقصة السابقة، نجد أن ابن قزمان ذاته في مقدمة ديوانه يتحدث عن زجالين سابقين، كما يتحدث عن الزجل وإضافاته عليه، مما يدل على وجود الزجل قبل ابن قزمان، ومما قاله في هذا السياق: "ولما اتسع في طريق الزجل باعي، وانقادت لغريبه طباعي، وصارت الأيمة فيه حولي واتباعي، وحصلت منه على مقدار لم يحصله زجال، وقويت فيه قوة نقلتها الرجال عن الرجال، عندما أثبت أصوله، وبينت منه فصوله، وصعبت على الأغلق الطبع وصوله، وصفيته عن العقد التي تشينه، وسهلته حتى لان ملمسه، ورق خشينه، وعديته من الإعراب، وعريته من التخالين والاصطلاحات، تجريد السيف من القراب، وجعلته قريبا بعيدا، وبليدا غريبا، وصعبا هينا، وغامضا بينا،..." وعلى هذا المنوال يستمر ابن قزمان في وصف تطويره لفن الزجل، وبغض النظر عما يعتقد أنه مبالغات صدرت من ابن قزمان، في وصفه السابق، والتي قد يفهم منها البعض أنه رائد الزجل، إلا أننا لا نجد فيها إلا فخره ببلاغة أزجاله، ربما باستثناء قوله "أثبت أصوله، وبينت منه فصوله"، بل إن تقي الدين الحموي مؤلف كتاب (بلوغ الأمل في فن الزجل) يورد زجلا لابن قزمان، أعرب فيه بعض الألفاظ رغم قوله "وعديته من الإعراب"، وهو قوله:
شرب الخمر المحتسب وزنا قاضي المسلمين أت هو السبب
سيدي ليه جعلت ذا محتسب
ومحكم في أمر أهل الأدب
وهو زاني زنيم كثير الزنا
حيث فتح (الياء) في الاسم المنقوص (قاضي)، وفتح (النون) في (المسلمين)، وهذه من علائم الإعراب، وبدون تحريكها يخطئ الوزن، وغيرها كثير مما أعرب فيه ابن قزمان، وهذا ما يقلل مصداقيته في مدحه لزجله في خطبة ديوانه.
وتطرق ابن قزمان في مقدمة ديوانه إلى الزجالين السابقين، وقال فيهم: "ولقد كنت أرى الناس يلهجون بالمتقدمين، ويعظمون أولئك المتقدمون، يجعلونهم في السماك الأعزل، ويرون لهم المرتبة العليا والمقدار الأجزل، وهم لا يعرفون الطريق، ويذرون القبلة ويمشون في التغريب والتشريق، يأتون بمعاني باردة، وأغراض شاردة" وقد ذكر ابن قزمان أحد هؤلاء السابقين بالاسم وهو ابن راشد، وقيل إن اسمه مخلف بن راشد، والغريب أن تقي الدين الحموي أعاد طرح السؤال حول نشأة الزجل بعد خمسين صفحة من الإجابة للمرة الأولى، وفي ذات الكتاب، حينما حسم الجواب بأن مخترع الزجل ابن قزمان، والآن يقول في (بلوغ الأمل) صفحة101: "واختلفوا فيمن اخترع الزجل،...، وقيل: بل مخلف بن راشد، وكان هو إمام الزجل قبل ابن قزمان، وكان ينظم الزجل بالقوي من الكلام، فلما ظهر ابن قزمان ونظم السهل الرقيق مال الناس إليه، وصار هو الإمام بعده، وكتب إليه ينكت عليه في استعمال يابس الكلام القوي:
زجلك يابن راشد قوي متين
وإن كان هو بالقوة فالحمالين
يريد: إذا كان النظم بالقوة فالحمالون أولى به من أهل الأدب"، وهكذا نجد ابن قزمان يذكر زجالين سبقوه، عظمهم الناس، فهم مشاهير وأعلام، إلا أن رأي ابن قزمان مخالف لهم لأسباب نقدية بحته، فرأي ابن قزمان لا يقدم حقائق ومعلومات، بل هو يمثل وجهة نظره النقدية لا أكثر، بينما الحقائق والمعلومات التي يقدمها هي أن الزجالين السابقين عليه، مشاهير وعرفوا بتقديم فن بليغ ورفيع.
وربما يكون مرجع ارتباط فن الزجل بشخصية ابن قزمان، يعود إلى تدوين ابن قزمان لديوانه، ومن غير المعتاد التدوين باللهجة العامية، فلا يدون إلا باللفظ الصحيح المعرب، حتى إن أحد شيوخ مصر، واسمه برهان الدين المعمار، كان يحب نظم الشعر، ونكت الأدب، إلا أنه ليس من فرسان العربية، فأنشأ شعرا ملحونا، "فاستحلوا على زايد النيل زايده، ونقل عن الشيخ جمال الدين ابن نباتة المصري أنه قال: قطعنا المعمار بمقاطيعه"،مع الأخذ في الاعتبار أن ابن قزمان كتب مقدمة ديوانه العامي باللغة العربية الفصحى، فنحن إذن أمام شاعر من طراز خاص، فقد جمع قصائده بنفسه، أو جمعت في حياته على أقل تقدير، كما أنه كتب مقدمة لديوانه، وهذا نادر في تاريخ الشعر العربي، وديوان ابن قزمان هو ديوان الزجل الوحيد الذي وصل إلينا كاملا، فلا يوجد ديوان زجل لزجال غيره، وما وصلنا من أزجال الزجالين الآخرين مرويات تناثرت في المؤلفات التي كتبت عن الزجل، وهي قليلة، وربما ورد بعضها في مؤلفات أدبية أو تاريخية، كالأزجال التي وردت في (مقدمة ابن خلدون) والأزجال التي وردت في كتاب لسان الدين بن الخطيب المعنون بـ(الإحاطة في أخبار غرناطة).
وهكذا فإن الآثار الزجلية الأندلسية، شحيحة للغاية، قياسا على ما يجدر بفن ما أن يخلفه، وغالب الأزجال الموجودة حاليا هي أزجال ابن قزمان، فنجد زجالا واحد يعدل بأزجاله المدونة جميع أزجال الزجالين الآخرين من الناحية الكمية، يلاحظ هذا عند النظر لديوان ابن قزمان الضخم، ونظرا لهذه الحالة الشاذة، فإن النقاد والدارسين المتأخرين لفن الزجل، والمعتمدين على الكتب والمذكرات المدونة، لم يكن أمامهم سوى ربط فن الزجل بابن قزمان، واستصعاب أي دراسة لفن الزجل بمعزل عنه.
وقد نقل المقري في كتاب (نفح الطيب) عن أهل الأندلس قولهم: "ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء ومدغليس بمنزلة أبي تمام" ولا شك أن المتنبي بعيد عن نشأة الشعر، وإنما قد يشار إلى أنه أوصل الشعر إلى ذروته، وهذا أيضا ما دلت عليه الإشارات نحو ابن قزمان، منها قول ابن خلدون: "وأول من أبدع هذه الطريقة الزجلية أبو بكر ابن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه"، وقد يكون ابن خلدون قصد بقوله "أبدع" أي جاء بالزجل البديع، وليس أنه أنشأ أو خلق، لأنه في الجملة التالية مباشرة قال:"وإن كانت قيلت قبله بالأندلس"، إلا أن كثيرا من المؤرخين السابقين أو المعاصرين يصفون ابن قزمان بأنه مخترع الزجل، كقولهم: "الذي اتفق عليه الجمهور أن أول من تناشد به ابن قزمان"، وقد يكون سبب اقتران ابن قزمان بنشأة الزجل عندهم، هو كما سلف، قلة المدونات الزجلية الأخرى، فيلجئون بالتالي إلى تكرار الأفكار والمقولات، لعدم وجود مواد يمكن لأجلها استكثار الباحثين، واستخراج الجديد منها. ولا نستطيع تحديد وقت نشأة فن الزجل بدقة، إلا أن القرنين الثالث والرابع الهجريين، من أقرب الاحتمالات لنشأته، ويسند اختيار هذا التوقيت عادة إلى حدث وقع فيه، وهو: سيطرة المرابطين على الأندلس فبروز اللهجة الأندلسية.
دخل المرابطون الأندلس عام479هـ، بعد انتصارهم في معركة الزلاقة، التي شنوها لنجدة ملوك الطوائف من الهجمات المسيحية، والمرابطون من شعوب البربر الإفريقية، التي لم تستعرب، ورغم أنهم من المسلمين المتحمسين، إلا أن حكمهم للأندلس ربما غير شيئا من وضعه اللغوي، فعلى مستوى السلطة كان العرب حكام الأندلس منذ سيطرة المسلمين عليه، وما جاء بعده من انبعاث علمي وثقافي وأدبي، كان باللغة العربية، نظرا لرعاية الحكام العرب أو حتى المستعربين، وعلى المستوى الشعبي كان هناك عدد من اللغات المتباينة، هذا الاختلاف في الألسن مع وجود التواصل، سيتطور طبيعيا إلى لغة أو لهجة جديدة مختلفة، تكون قد اختمرت بعد ثلاثة قرون تقريبا، ووصفها ابن خلدون بالحضرية والمستعجمة، لتأتي دولة المرابطين، فتسقط الحكم العربي، تاركة متنفسا لظهور آداب وفنون هذه اللهجة العامية، التي كانت عند العامة، ومنها الزجل، ولكنها مجهولة عندنا بسبب نمط التأريخ الذي يركز على النخب، فقد ورد مثلا، نص في كتاب معنون بـ(جميع نواميس الكنيسة والقانون المقدس) منسوخ سنة 437هـ-1046م جاء فيه: "لا يجوز للقلارقيين أن يحضروا الملاهي والزجل في العرائس والمشارب بل يجب عليهم الانقلاب قبل دخول تلك الأطراب والأزقان والتنحي عنهم" هذا النص المدون قبل دخول المرابطين الأندلس بأكثر من أربعين عاما، وقبل وفاة ابن قزمان بأكثر من مئة عام، يبين ليس فقط وجود الزجل بل فرض قوانين وتعاليم متعلقة به.
وحين سقط ملوك الطوائف، بعد معركة الزلاقة بأربع سنين، ومنهم المعتمد بن عباد، وحكم الأندلس المرابطون حكما مباشرا، انتشر الزجل حتى اكتسح الشعر الفصيح[، طمعا بجوائز المرابطين الذين لا يفهمون الشعر العربي الفصيح، وتذكر هنا قصة طريفة تدل على هذا المعنى، وهي أن يوسف بن تاشفين لما انصرف إلى حاضرة ملكه بإفريقيا، بعد أن صد المسيحيين، عن ملوك الطوائف بمعركة الزلاقة، كتب له المعتمد رسالة تضمنت بيتين من نونية ابن زيدون، هما:
بنتم وبنا فما ابتلـت جوانحنا شوقــــا إليكم ولا جفت مآقينا
حالت لفقدكــــم أيامنا فغدت سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
فلما قرأ البيتان على ابن تاشفين قال للقارئ: يطلب منا جواري سودا وبيضا، فأجابه القارئ: لا يا مولانا، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا لأن ليالي السرور بيضا، فعاد نهاره ببعده ليلا لأن أيام الحزن أياما سودا، فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده.
وقد عاد ابن تاشفين إلى الأندلس فخلع المعتمد عن ملكه، وقتل أولاده، ثم نفاه وسجنه هو وعائلته بأغمات في القصة المشهورة، ثم حكم الأندلس حكما مباشرا، مما أضعف الآداب الفصيحة المعتمدة كثيرا على النخب الحاكمة، فجنح بعض الشعراء إلى إنشاء الزجل السهل الفهم، حتى يضمنوا لفنهم سوقا رائجة، إلى أن جاءت مرحلة ابن قزمان وبدأ تدوين الزجل، والتدوين عنه، في القرون الخامس والسادس والسابع والثامن، كما أصبح بعض الوزراء ينظمون الزجل ويؤرخون للزجالة، كالوزير لسان الدين بن الخطيب، فمن أزجاله قوله:
امزج الأكواس واملالي تجدد ماخلق المال إلا أن يبدد
وقوله:
البعد عنك يا بني أعظم مصايبي وحين حصل لي قربك سببت قاربي.
ودام بقاء الزجل حتى آخر أيام الوجود العربي في الأندلس
علاقة الموشح والشعر الملحون بالزجل
طالع أيضا :الموشح
الموشح والشعر الملحون (القصيدة الزجلية) والزجل، جميعها فنون أندلسية مترابطة.
فالموشح هو كلام منظوم في بنية مختلفة عن الشعر العمودي الموحد الوزن والقافية، وهو في مبناه هذا مشابه للزجل، كما أنه مشابه له في غلبة استخدامه للغناء، وارتباطه بالآلات الموسيقية.
وأما الشعر الملحون ويسمى أيضا القصيد الزجلي، فهو شعر موحد الوزن والقافية، إلا أنه بلغة مختلفة، لغة عامية، غير معربة.
ويبدو أن الشعر الزجلي أو الشعر الملحون أقرب إلى الزجل من الموشح، حتى إن بعض المراجع لا تفرق بينهما، مثل صفي الدين الحلي الذي عد قصائد مدغليس الثلاث عشرة التي وجدها في ديوانه أزجالا، ولم ينتبه لتسمية الأندلسيين لهذا اللون "شعرا ملحونا"، وأن الزجل لديهم ذو دلالة مخالفة، أما ابن سعيد الأندلسي فيورد لأحدهم زجلا ثم يورد للزجال نفسه نموذجا يميزه باسم الشعر الملحون والفرق بينهما في ابتعاد الزجل عن شكل القصيدة، لا بقاؤه قصيدة سقطت منها الروابط الإعرابية، فإن كانت آية الزجل إسقاط الإعراب، فليس كل ما جرد من الإعراب سمي زجلا[.
إلا أن في رأي صفي الدين الحلي ما يستعين به بعض النقاد في تأييد القول بأسبقية الشعر الزجلي على الزجل، واشتقاق الزجل منه وليس من الموشح، مستشهدين بقول الحلي: "وهذه القصائد لما كثرت واختلفت، عدلوا عن الوزن العربي الواحد إلى تفريع الأوزان المتنوعة، وتضعيف لزومات القوافي، ليكون ذلك فنا لهم بمفردهم، وذلك لأنهم لما لحنوا تلك القصائد بألحان طيبة السماع، رائقة في الأسماع، متناسبة في الأنغام والإيقاع، اضطر جدول كل منهم إلى شط ينتهي إليه، ومقطع يقف الدور عليه، وكانت همتهم الشريفة، وطباعهم اللطيفة، ناهضة بالجمع بين أصول الطرب، وصحة أوزان العرب، ولم يكن لهم اطلاع على ما اخترعته الأعاجم من تلفيق الترانات والأوزان والأوانكشتات، المتمم به نقص الأدوار والسربندات"، والذين يستدلون بنص الحلي يرون أن طبيعة الأشياء هي التي تقرر أن الانتقال يكون عادة من السهولة إلى الصعوبة، تدرجا، ومن البساطة إلى التعقيد، من بساطة في التركيب متمثلة بوحدة الوزن والقافية في القصيدة الزجلية، إلى ما اتصف به الزجل من تعقيد تمثل بتعدد الأوزان واختلاف القوافي في الأقفال والأدوار، مع اشتراك الفنيين في الأغراض وفي اللغة وأساليب التعبير، وبتأكيد قاطع، يقول مقداد رحيم: "ومهما يكن من أمر، فإن الشعر الزجلي أسبق من الزجل في النشأة".
والقول بهذا الرأي يبنى عليه أسبقية الزجل على الموشح، فإذا كان اختراع الزجل مر بهذه المراحل، فإن الموشح بالتأكيد لم يبدأ من جديد بنفس الحكاية، فيكون مشتقا من الشعر العمودي، ليصل إلى نفس هيكل الزجل تماما، فهذه ستكون صدفة صعبة، بل الأقرب أن الموشح سيكون فقط تعريبا للزجل، وهذا ما لا يتفق مع رأي فريق آخر من المؤرخين، كابن خلدون، الذي يرى الموشح سابقا للزجل، وندرك هذا في قوله: "ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وترصيع أجزاءه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيه إعرابا، واستحدثوا فنا سموه بالزجل، والتزموا اللفظ فيه على مناحيهم، لهذا العهد، فجاءوا فيه بالفرائد، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة".
ويدعم قول ابن خلدون ما صرح به ابن قزمان بنظم زجلة له على عروض موشح معروف واستعار الخرجة منه، ومنه قوله:
ريت وحد النهار خرج بالكميت وفي قلب من اجل مما دريت
قلت فيه ذا الزجل كما قد رويت عرض التوشيح الذي سميت
عقد الله راية النصر لأمير العلا أبو زكري
وهي خرجة مأخوذة من موشح لابن باجة "عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكر".
وإذا كان المعتاد في الموشحة أن تكون خرجتها عامية أو أعجمية، فإن المعتاد في الزجلة أن تكون خرجتها معربة، وهو ما كان يفعله ابن سناء الملك حيث يفرق بين الزجل والموشح بقرينة لطيفة، وهو أنه جعل في آخر غالب موشحاته خرجة مزجلة تكون من نظم أئمة الزجالة، وغالب أئمة الوشاحة فعلوا ذلك ليظهر الفرق، وذلك لأن الفنيين يتداخلان أحيانا بسبب عيب يسمى التزنيم، وهو في الزجل الإعراب، وفي الموشح اللحن.
"وعند الجميع أن التزنيم في الموشح أقبح منه في الزجل، لأن من أعرب في الملحون فقد رد الشيء إلى أصله، ومن لحن في المعرب فقد زل وخالف".
أعلام الزجالة الأندلسيون
تعد المصادر الأندلسية عددا من الزجالة، فابن سعيد الأندلسي تحدث عن سبعة عشر زجالا في كتابه (المغرب في حلي المغرب)،وعن ثمانية زجالين في كتابه (المقتطف من أزاهر الطرف)، وعن ثلاثة زجالين في كتابه (اختصار القدح المحلى في التاريخ المحنى)، ولم يفته التحدث عن ابن قزمان، في كتابه (رايات المبرزين وغايات المميزين)، وهؤلاء الزجالة يمثلون القرنيين السادس والسابع الهجريين. ولسان الدين ابن الخطيب نص على ذكر ستة زجالين من القرون السادس والسابع والثامن، توفي آخرهم سنة 761هـ، وذلك في كتابه (الإحاطة في أخبار غرناطة).
وسوف نكتب في هذا الفصل نبذا عن أبرز الزجالة في الأندلس، نبدأها بإمام الزجالة، أبو بكر ابن قزمان.
ابن قزمان (ت550)
مقال تفصيلي :ابن قزمان
"اسم ابن قزمان غير عربي وجرسه أسباني بحت، ويخبرنا أصحاب التراجم أن بني قزمان يرتفع نسبهم من غير شك إلى مولد عرف باسم ابن قزمان الزهري، وكان مقام بني قزمان في قرطبة منذ القرن الرابع على الأقل.
وأصحاب التراجم مقلون جدا في أخبار ابن قزمان، فلا مناص من جمع حياته من آثاره، ولو أن الذي نجمعه قليل.
اسمه أبو بكر محمد بن عيسى بن عبد الملك ويلقبه بعضهم بلقب الأصغر، تمييزا له عن سمي له هو عمه أبو بكر محمد بن عبد الملك الأكبر، وكان العم شاعرا كلاسيكيا على شيء من الشهرة ووزر لبني الأفطس ببطليوس، ومات في عام 508هـ.
والغريب أنه وقع خلط بين العم وابن أخيه وقع في هذا الخلط ابن الأبار وابن الخطيب والهولندي دوزي والتشيكي نيكل، ولقد نبهت إلى هذا الخلط في مقالة عنوانها (شيء من جديد ابن قزمان) نشرتها في القاهرة ولندن ومدريد في وقت واحد، وأثبت فيها أن ما يوصف به ابن قزمان من التعمير جاء من إضافة عمره إلى عمر عمه، ومن جعل مولده في أوائل القرن الخامس بدل آخره وتحديدا عام 480هـ.
ولد ابن قزمان بعد معركة الزلاقة (479هـ)، ببضع سنين، وهي المعركة التي بدأ بها تدخل المرابطين في الحياة السياسية الأندلسية.
وقضى ابن قزمان حياته في قرطبة، ولكنه ارتحل لزيارة مدن الأندلس الكبرى، واتصل في غرناطة بشاعرة مشهورة هي نزهون، وكان في قرطبة وفي كل المدن التي زارها مقربا من حماة الأدب الأندلسي، فمدحهم بمدائح، ومات في قرطبة عام 550هـ، بعد أن جاوز الستين، وترك على ألأقل ولدا واحدا اسمه أحمد، وأقام أحمد هذا بمالقة، ومات بها أول القرن السادس الهجري، وتدلنا بعض أشعار ابن قزمان على صفاته الجسمية: كان أشقر الشعر، أزرق العينين، يتكلم الرومانية كما يتكلم العربية، وعلى حظ من الثقافة القديمة، لأنه حاول في شبابه قرض الشعر على الطريقة القديمة، وقد نقل لنا ابن سعيد أمثلة من هذه المحاولات.
وكان ابن قزمان أول عمره يقرض بلغة معربة، ثم رأى أنه لم يبلغ في ذلك مبلغ كبار الشعراء في زمانه، كـابن خفاجة، فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد منهم فأصبح إمام الزجل المنظوم بكلام عامة الأندلس وكان عزمه على صرف جهده وصنعته الشعرية إلى اللغة العامية عزما حكيما، وشاهد ذلك ما لقي من توفيق وما كان من ذيوع فنه إلى ما وراء الأندلس وبلوغ صيته إلى بغداد نفسها.
وقد بقيت آثار ابن قزمان العامية محفوظة كاملة تقريبا إلى الآن في مخطوط وحيد نسخ بصفد بفلسطين منتصف القرن السادس ومحفوظ في متحف ليننغراد الآسيوي، ونشر عدة مرات نشرا غير جيد، ولكن المستشرق الفرنسي ج.س.كولان نشره أخيرا بشكل محكم".
مدغليس
وهذا الاسم مركب من كلمتين، وأصله مضغ الليس، والليس جمع ليسه وهي ليقة الدواة، وذلك لأنه كان صغيرا بالمكتب يمضغ ليقته، والمصريون يبدلون الضاد دالا فانطلق عليه هذا الاسم وعرف به وكنيته في ديوانه أبو عبد الله ابن الحاج، وعرف بمدغليس.
ومدغليس من أهل القرن السادس، وهو الخليفة الأوحد لابن قزمان في زمانه وقد وقعت له العجائب في هذه الطريقة، ونقل العلامة المقري في نفح الطيب عن أهل الأندلس قولهم: ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء، ومدغليس بمنزلة أبو تمام، بالنظر إلى الانطباع والصناعة، فابن قزمان ملتفت إلى المعنى، ومدغليس ملتفت إلى اللفظ، وكان أديبا معربا في كلامه مثل ابن قزمان، ولكنه رأى نفسه في الزجل أنجب فاقتصر عليه.
ومن قوله في زجله المشهور:
ورزاذ دق يـــنـــــزل وشعاع الشمس يضـــــرب
فترى الواحـد يفـضـض وتـرى الآخـــــــــر يذهـب
والنبات يشرب ويسـكـر والغصون ترقص وتطرب
وبـريد تـجـي إلـينــــــا ثم تــــــــستـحـي وتـهـرب.
إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي(ت649)
مقال تفصيلي :ابن سهل الأندلسي
وقد عَدَّه المقري في نفح الطيب من شعراء اليهودية وقيل إنه مات على الإسلام، وبعضهم ينفي ذلك كأبي الحسن علي بن سمعة الأندلسي فإنه قال: ’’شيئان لا يصحان: إسلام إبراهيم بن سهل، وتوبة الزمخشري من الاعتزال’’ وله أزجال ذكرها ابن حجة الحموي في بلوغ الأمل لكنَّهُ نبغ في فن الموشحات وبه اشتهر وفيه مهر
أبو الحسن الشستري(610-668)
مقال تفصيلي :أبو الحسن الششتري
وكان باقعةً في الزجل والشعر والتصوف، وصفه لسان الدين ابن الخطيب في الإحاطة بقوله:’"عروس الفقراء، وأمير المتجردين، وبركة الأندلس، لابس الخرقة، أبو الحسن. من أهل شستر، قرية من عمل وادي آش معروفة، وزقاق الشستري معروف بها. وكان مجوداً للقرآن، قايماً عليه، عارفاً بمعانيه، من أهل العلم والعمل".
وقد خَلُص بعض الباحثين إلى أن الشستري هذا كان أوَّلَ من استعمل الزَّجل في المعاني الصوفية، كما كان محي الدين بن عربي أوَّلَ من استعمل الموشح في ذلك.
وقد أكثر الشستري التَّطواف في البلاد الأندلسية، ورحل إلى المغرب واجتال أقاليمها، حتى ألقى عصى التَّجوال في دمياط من بلاد المشرق ودفن بها. وقد أولعَ المشارقة لهذا العهد بمقاطيع من أزجاله وتغنوا بها في مجالسهم، حتى إن رائعته الشهيرة (شويخ من أرض مكناس) اشتهرت في أقطار المشرق وتنفَّقت بين المشارقة أكثر من حواضر المغرب.
وهذه قطعةٌ منها كما وردت في إيقاظ الهمم لابن عجيبة وقدم لها بقوله:
’’الشستري كان وزيراً وعالماً وأبوه كان أميراً فلما أراد الدخول في طريق القوم قال له شيخه لا تنال منها شيئاً حتى تبيع متاعك وتلبس قشابة وتأخذ بنديراً وتدخل السوق ففعل جميع ذلك فقال له ما تقول في السوق فقال قل بدأت بذكر الحبيب فدخل السوق يضرب بنديره ويقول: بدأت بذكر الحبيب فبقي ثلاثة أيام وخرقت له الحجب فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق ومن كلامه رضي الله عنه
شويخ من أرض مكناس في وسط الأسواق يغني
آش علي من الـنـاس وآش على الناس منـي
ثم قال:
اش حـد مـن حــد أفهموا ذي الأشـاره
وأنظروا كبر سـنـي والعصا والـغـراره
هكذا عشـت بـفـاس وكـد هـان هـونـي
آش علي من الـنـاس وآش على الناس مني
وما أحسـن كـلامـه إذا يخطر في الأسواق
وترى أهل الحوانـت تلتفت لو بالأعـنـاق
بالغرارة في عنـقـو بعكيكـز وبـغـراف
شيخ يبني على سـاس كأنشاء اللـه يبـنـي
اش علي من الـنـاس واش على الناس مني
أبو عبد الله اللوشي
وكان من المجيدين لهذه الطريقة وله فيها قصيدة طويلة الذيل يمدح فيها السلطان ابن الأحمر ذكرها ابن خلدون في المقدمة منها:
تحت العكاكن منها خصر رقـيق من رقتو يخفي إذا تـطـلـبـو
أرق هو من ديني فيمـا تـقـــــول جديد عتبك حـق مـا أكـذبـو
أي دين بقا لي معاك وأي عـقـل من يتبعك من ذا وذا تسـلـبـو
تحمل أرداف ثقال كـالـرقـــــيب حين ينظر العاشق وحين يرقبـو
قلت:والعكاكن مأخوذة من عُكَن الثوب أو الدرع وهو ما تثنى منها على اللابس إذا كانت واسعة. والمعنى أن هذه العُكن المتثنية من الثوب تخفي تحتها خصراً رقيقاً لطيفاً
الحسن بن أبي النصر الدباغ
أغرم بالزجل إنشاءا وجمعا، فقال كثيرا من قصائد الزجل وبخاصة في الهجاء، كما جمع مختارات للزجالين في مجموعتين، أطلق على المجموعة الأولى عنوان (مختار ما للزجالين المطبوعين) وجعل عنوان الثانية (ملح الزجالين)
هيكل الزجل
المنظومة الزجلية تشابه الموشحة من حيث الشكل والبناء، ولكن قيوده وتكوينه أخف قليلا من تلك التي تخضع لها الموشحة، فهو ينظم في "هيئات متجددة تتعدد فيها الوحدات، وتتفرع الأوزان وتتنوع القوافي.
وأبسط قوالب النظم في هذه الهيئات المتجددة ما يعتمد على وحدات رباعية، كما يتبين من النموذج التالي المنقول عن زجل لصفي الدين الحلي(ت750):
ذا الوجود قد فاتك وأنت في العدم ما كفيت من جهلك زلت القدم
قد زرعت ذي العتبة فاحصد الندم أو تريدني الساعة ما بقيت أريد
ثم تتدرج قوالب النظم من حيث كثرة عدد أقسام المنظومة، وعدد أشطار وحداتها، ومن حيث التنوع في التقسيم الموسيقي لعناصرها، بحيث يصل تركيب قالب المنظومة" إلى ما يماثل قالب الموشحة.
ويتكون الزجل من مطلع وأدوار وأقفال وخرجة، فيبدأ بالمطلع ثم دور بوزن وقافية خاصين، فقفل على وزن وقافية المطلع، وتتكرر الأدوار والأقفال بهذا الترتيب، والقفل الأخير يسمى الخرجة.
وسوف نورد مثالا لزجل نموذجي، مع الشرح عليه، وتبيين أجزاءه، وهو زجل لتقي الدين الحموي، أثبته في كتابه لتعليم الزجل، والمعنون بـ(بلوغ الأمل في فن الزجل)، ص93 وقال فيه: وقد عن لي أن أثبت هنا زجلاً من أزجالي الخالية من العيوب ليتضح للطالب سلوك هذه الطرق الغريبة، فمن ذلك ما نظمته، وأزهار الشبيبة يانعة، ومواردها عذبة، وهو هذا الزجل:
حين رققت نظـم الـغـزل تأنس غزالـي الـشـرود
وقال صف عيوني الوقـاح وقول سود بها قلت سـودهذا الجزء يسمى المطلع، وكل جملة من جمله تسمى غصنا، ويكون أربعة أغصان، وقافيته ووزنه موحدان.
من أبصر حبيبـي حـسـن لا يكون في عـذلـو يزيد
فيوم عيد رسم بـالـبـعـاد وامتثـلـت لـو مـا يريد
ولو كـان قـريب الـديار ما كنت أمشي لو من بعـيدهذا الجزء يسمى الدور، وله قافيته الخاصة الموحدة، ويتكون من ثلاث قسيمات، تكون أحيانا قسيمات بسيطة (كما هي هنا)، وتكون قسيمات مركبة، فيكون الدور فيها مكونا من ستة أسماط.
فيا دمعـي اجـري وقـف سايل ما جرا في العهـود
وقل للحبـيب الـطـبـيب يا طبيب لا تخلـف وعـودهذا الجزء يسمى القفل، ولكل دور قفلا، وكل جملة من جمله تسمى غصنا، ويكون أربعة أغصان (كما هو هنا)، ويكون غصنان، ووزنه وقافيته يجب أن تكون على وزن وقافية المطلع.
حن نيران هواه أشعـلـت ومنشي البشر مـن تـراب
ما خلا في جسمـي رمـق وراح جا التعب والعـذاب
وجاه دمعي سـايل نـهـر رآني عذولـي مـصـابالدور الثاني.
قال تـريد أقـودو إلــيك بانشراح في غيظ الحسـود
قلت أي بالنبـي يا عـذول اطف ما بقلـبـي وقـودالقفل الثاني.
ذا القاسي بلـين قـامـتـو رق لي ونحوي عـطـف
وحلف ذا الغصين بالـوفـا ومحلا ليالـي الـحـلـف
وقال لي نظـام سـالـفـو حلى الجعدي هداك سلـفالدور الثالث.
وماس تحت تـزريد عـذار يفوق حسن وشي البـرود
تذكـرت بـأن الـنـقـــــــــا وخضر عـيش أيام زرودالقفل الثالث.
تغـزلـت فـيه اطـربـوا ومال من رقيق الـغـزل
وقال خلي وصف الخـدود فأني كـثـير الـخـجـل
استطردت في وصـفـهـا سارت مثل سير المـثـلالدور الرابع.
حددني بـسـيف نـاظـرو حين أقام علـيه الـحـدود
وقال كيف رأيت حالـتـك قلت نا قـتـيل الـخـدودالقفل الرابع.
قادنـي وقـطـر دمــوع عيني لما جـد الـرحـيل
وهيج لـعـقـلـي وقـال وقم يا ضالع الهجر سـيل
قلت قوم يا قلبي الـحـزين قاطع قلي حملـي ثـقـيلالدور الخامس.
ومبرك ما كـنـا جـمـيع قبل أن كان لخيري جحـود
وقال حين حسابي جـمـل يا جمالي آش ذا القـعـودالقفل الخامس.
من بارق عذيب الـثـغـر حين عذبت طعم الـمـياه
طعم الراح بقي في انحراف ولطف المزاج عنـو تـاه
وجوري الخدود لـو يكـون نصيبـي كـفـانـي نـداهالدور السادس والأخير.
تعود يا حبيبـي وطـبـيب لا تعدم مـحـبـك وجـود
فمن وجنتـيك والـثـغـر قصدو يا حـبـيبـي ورودالقفل الأخير ويسمى بـ(الخرجة).
موضوعات الزجل
رغم أن الزجل ابتدأ كفن للعامة في الأندلس، إلا أن موضوعاته تعددت حتى شملت جميع موضوعات الشعر العربي التقليدي، حتى الجليل منها، كمديح الملوك والحكام، والرثاء، ووصف القصور والضياع، ثم الزهد والزجل الصوفي في وقت لاحق.
وقد كان الزجل في بدايته مقصورا على الغزل واللهو والمجونوالأحماض، ثم كان للزجالين في كل عهد معين وبيئة معينة، مجالات يرتبطون بها، ومن ثم كان مركز اهتمامهم ينتقل من موضوعات بعينها، -تلقى قبولا في هذا المجال أو ذاك- إلى موضوعات أخرى، تختلف باختلاف العهود والبيئات الثقافية التي ينتمون إليها.
ومن ذلك ما نقرأه في أزجال زجالي الأندلس من انشغال بالعشق والشراب ووصف الرياض ومجالس الصحاب، نتيجة للالتفاف زجالي ذلك العصر حول دوائر الخاصة، والتحاقهم بمجالسهم التي كان مدارها الغناء والتنافس في إظهار المهارة والتأنق والتظرف.
ثم صار فن الزجل وعاء لـالشعر الديني والتصوف، وبلغ ذروته على يد الشيخ المتصوف الأكبر محيي الدين بن عربي الأندلسي، ومن بعد الشيخ أبو الحسن الشوستري، الذي استطاع نقل الزجل إلى مكانة رفيعة في الوسط الأدبي منذ القرن السابع الهجري، وأدخله في حلقات الذكر، وغناء الصوفية.
كما كان الهجاء أيضا من موضوعات الزجل، ويحتوي ديوان ابن قزمان على الهجاء، إلا أن الدباغ يعتبر رائد الهجاء في الزجل.
وقد مزج الزجل في الزجلة الواحدة بين موضوعين أو أكثر، فالـغزل يمتزج بالخمريات، والمدح يأتي معه الغزل أو وصف الطبيعة ومجالس الشراب، ووصف الطبيعة تصحبه مجالس الطرب والغناء، وأما الأزجال التي اختصت بغرض واحد فقليلة، ويعد الزجل الصوفي من الأزجال ذات الغرض الواحد.
وسنعرض نموذجين لأزجال من الخمريات ووصف الأماكن:
الخمريات
طالع أيضا :خمريات
قال أبو بكر بن صارم الأشبيلي:
حقاً نحب العقار فالدير طول النهار نرتهن خلع أنا لس قدا عن فلان
نشرب بشقف القدح كف ما كن
للدير مر وتراني عيان
قد التويت فالغبار وماع كانون بنار فالدكان
ومذهبي فالشراب القديم
وسكرا من هُ المنى والنعيم
ولس لي صاحب ولا لي نديم
فقدت أعيان كبار واخلطن مع ذا العيار الزمن
لا تستمع من يقول كان وكان
وانظر حقيق الخبر والعيان
بحال خيالي رجع ذا الزمان
فأحلى ما يوريك ديار غيبها واخرج جوار اليمن
وصف الأماكن
وخرج ابن قزمان إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فمـه على صفائح من الحجر متدرجة فقال:
وعريش قد قام على دكــان بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبــــان من غلظ ساق
وفتح فمه بحال إنســـــان بيه الفراق
لغة الزجل
مقال تفصيلي :لهجة أندلسية
كانت الأندلس بلادا متعددة الثقافات، ونتيجة لهذا التعدد تكونت لغات أندلسية كريولية، مختلطة من اللغات الرومانية والبربرية والعربية، والتي بدورها تتفرع إلى لهجات عديدة، ومستويات متفاوتة، فكانت العاميات المتكونة "بعيدة بعدا شديدا عن اللغة العربية الفصحى".
نشأت من هذه العاميات فنون شعبية فلكلورية، منها الفنون اللغوية، مثل الغناء للأطفال، والغناء للأعراس، وظاهرة التروبادو أي الشاعر الجوال أو الشاعر المنشد الذي يلقي أناشيده العامية في القصور، وأفنية الكنائس، والأسواق، والساحات الشوارع، وغيرها من الفلكلور.
و أحد الآراء يذهب إلى أن الزجل كان من هذه الفنون الشعبية في مرحلته الأولى، وأنه ابتدع ليرضي النهم الفني للعامة من سكان الأندلس.
ويبدو أن الزجل بعد مرحلة الأغنية الشعبية دخل في مرحلة من التفصح بعض الشيء، وأخذ نظامه يتشبهون بالموشحين، حتى كاد يمحى الفرق بين الزجل والموشح، ولولا ذلك ما انتشرت أزجال الأندلسيين في العراق وبلاد الشام، واستعذبها المشارقة ونسجوا على منوالها، حتى قال ابن سعيد: "ورأيت أزجاله - ابن قزمان – مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب"، بل وإننا اليوم، وباستخدام لغتنا العربية المعيارية، نجد أننا نفهم الكثير من الزجل الأندلسي، وهذا ما أدركه الأولون عندما أسموا الزجل فنا غير معرب، ويقصدون بهذا الاسم: أشكال النظم العربية التي ظهرت في العصر الأدبي الوسيط، والتي لم يلتزم ناظموها باللغة الفصحى المعيارية، وخاصة بالنسبة لقواعد الإعراب، واعتماد ذلك التصنيف على هذا الفارق اللغوي يدل على إدراك نافذ، فالواقع أن هذه الأشكال غير المعربة ظلت على صلة وثيقة بالأشكال المعربة، وتتبنى تقاليدها الفنية، رغم فارق مستوى الأداء اللغوي، بل إن لغة الزجل، وإن كانت غير معربة، كانت تقترب من الفصحى بقدر كبير، فلغة المنظومات الزجلية كانت لهجة دارجة خاصة بالزجالين، بوصفهم أفرادا يلتحقون بالدوائر الأدبية السائدة، وتتحد أطرهم المرجعية في داخل نوع الثقافة العربية التي تقرها هذه الدوائر.
وقد ظل هذا الفارق في مستوى الأداء اللغوي أحد مقومات تمايز الزجل عن الموشح، كما كان في الوقت نفسه أحد مقوّمات تمايز الزجل عن أشكال الشعر الشعبي (الفولكلوري) وعن حركة شعر العامية واختلافه معها، فقد "كتب بلغة ليست عامية بحتة بل هي مهذبة وإن كانت غير معربة".
ويبدوا أن خشية الزجالة من غلبة التعريب على الزجل، وجعله فنا خاضعا لـقواعد اللغة العربية المعيارية، جعلهم يشددون على اشتراط اللحن في الزجل، حتى قال ابن قزمان: "الإعراب في الزجل لحن"، فالزَّجل لون من الكلام لا يحتمل الإعراب عند الزجالة فهو ملحون أبدا، ولا يجيزون فيه أن يختلط اللحن والإعراب فتكون بعض ألفاظ البيت معربة وبعضها ملحونة، وقد قرر هذه القاعدة واضع هذا الفن أبو بكر بن قزمان في مقدمة ديوانه لما قال:
وجردت فني من الإعـراب كما يجرد السيف من القراب
فمن دخل علي من هذا الباب فقد أخـطـأ ومـا أصـاب
ومن أعرب في الزجل فقد أساء وسموا ذلك منه تزنيما، وعدوه عيبا فاحشا.
وقال صفي الدين الحلي: "وهذه الفنون إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، حلال الإعراب فيها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صناعتها إذا أودعت من النحو صناعة، فهى السهل الممتنع، والأدنى المرتفع"، وقال أيضا: " فإذا أحكم عليهم – الزجالة - فيها لفظة معربة غالطوا فيها بالإدماج في اللفظ والحيلة في الخط كالتنوين فإنهم يجعلون كل منون منصوباً أبدا، فيكتبون اللفظة بمفردها مجردة من التنوين، وبعدها ألفا ونونا، كأن يكتبوا (رجلا) على هذه الصورة (رجلن)"[.
ويجب أن نشير أيضا إلى أن الزجالة لم يولوا اهتماما لأعجمية أهل الأندلس، فلا نجد من اللهجة الرومانسية إلا بعض الألفاظ، متناثرة في أزجال ابن قزمان، وما جاء على لسان العجم والأعجميات في أزجال الحوار، ولم نجد خرجة أعجمية في الزجل كما هو الشأن في بعض الموشحات، لكون لغة الزجل غير معربة، فيلجأ الزجال إلى الفصيح بدلا من الألفاظ الأعجمية، أو إلى التحايل، كأن يمهد للخرجة بألفاظ تدل على أن الزجل قد أوشك على النهاية.
لقد استخدم ابن قزمان في أزجاله بعض المقطوعات بالأعجمية، ومن المؤكد أنه ورث هذه الطريقة عن الوشاحين الذين كانوا يستعملون الأعجمية في خرجات موشحاتهم، فمن ذلك قوله في الخرجة من زجل له:
نمضي إن شاء الله من سرور لسرور والسعاد بشاشتْ إذ مطور
وعدوك يذاق فشوال طــــتلـور لعن الله من لا يقول نعم
لقد استخدم ابن قزمان في هذه المقطوعة لفظة "إذ ماطور" (d'amator)، وهي عجمية بمعنى "للعاشق"، كما استخدم أيضا – وهو يتوعد الفقيه بعد شهر رمضان – لفظة "طلور" (dolor)، وهي أعجمية بمعنى الألم.
أما المستشرقون فقد أولوا اهتماما بالغا بالأزجال الأندلسية، وبالأخص ديوان ابن قزمان، وزعموا أن أزجاله تمثل ذروة الشعر العربي وواقع المجتمع الإسلامي، إذ ركزوا بحوثهم على الألفاظ الأعجمية التي استخدمها ابن قزمان في أزجاله، وقد زعموا أن الزجال الأندلسي نظم بعض الخرجات الزجلية باللغة الأعجمية.
لكن خرجات الزجل لم تكتب بالرومانسية كما يذهب هؤلاء المستشرقون، وإنما وجدت بعض الألفاظ في ثنايا أزجال ابن قزمان لا علاقة لها بالوزن أو الموسيقى أو القافية، وهي ألفاظ تعوّد الأندلسيون على استخدامها في حديثهم اليومي مع النصارى، ولم نجد ألفاظا أعجمية عند الزجالة الذين تقدموا ابن قزمان أو عاصروه أو خلفوه، فيما وصل إلينا من أزجالهم.
نماذج من الزجل. يقول ابن قزمان في وصـف الطبيعة:
الربيــع ينشـــــر عــلام مثـل ســــــلطانًا مـؤيـد
والثمـار تـنـثـــر حليــــه بثيــاب بحـــل زبرجــد
والريــاض تلبــس غلالا من نبـات فحــل زمــرد
والبهــار مـع البـنـفسـج يا جمال أبيض في أزرق
ويقول في الغزل:
هجرن حبيبي هجر وأنا ليس لي بعد صبر
ليس حبيبي إلا ودود قطع لي قميص من صدود
وخاط بنقض العهود وحبب إليّ السهر
كان الكستبان من شجون والإبر من سهام الجفون
وكان المقص المتون والخيط القضا والقدر
ومن أزجال الشستري الصوفية قوله:
راس محلــــــوق ونمـــــش مولــــه
نطلب في السوق أو في دار مرفـــه
حـــافي نرشـــق تقــول اعـطِّ اللّه
خبـــزًا مطبـــوع ممن هـو مطبـــوع
مطـبوع مطبــوع إي والله مطبــوع
(4) :/الكان كان
الكان كان
****************
يقال أن من اخترعه هم البغداديون، فكان قائله يحكي ما كان، ونظموا فيه المواعظ والحكم. وله نظم واحد وقافية واحدة، ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الثاني ولا تكون قافيته مردوفة.
مثال:
شاهدت في الليل طيري وقف حتى نصل شرك ما كان صيد يحصل يفرح الصياد
طيري الذي كان الفي لو ردت مثله ما حصل وهو علي معوّد وانـا عليه معتاد
قد كان شرطي وخلقي لبرج غيري ما عرف كأننا في الصحبة جينا على ميعاد
من قبل ما ابصبص له يجي ويدخل مصوري وأنا أرصده في مطاره خائف عليه ينصاد
الكان وكان له وزن واحد وقافية واحدة، ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني، ولا تكون قافيته إلا مردوفة قبل حرف الروي بأحد حروف العلة.
(2)
ومخترعوه البغداديون، ثم تداوله الناس في البلاد. وسمي بذلك لأن أول ما اخترعوه لم ينظموا فيه غير الحكايات والخرافات والمنصوبات فكان قائله يحكي ما كان وكان، إلى أن كثر واتسع طريق النظم فيه، فنظموا فيه المواعظ والرقايق والزهديات والمواعظ فيه أكثر منها ابن الجوزي نور الله ضريحه وحلت بهذا الألباب.
(3)
ولكن البغاددة لم يقصدوا غير تسيير الأمثال وكثرة المماجنة والخلاعة، فمن ذلك قول القائل منه:
لنا بغمز الحواجب ... كلام تفسيرو منو
وأم الأخرس تعرف ... بلغوة الخرسان
لا شي بلاشي تأخذ ... إن لم تقدم تقدمه
فازرع إذا ردت تحصد ... غدا يجي نيسان
إن كنت تعشق وتفزع ... من لا يجي ليلة غدا
ما في شروط المحبة ... عاشق يكون فزعان
لقمة من القدر تكفي ... لمن يشم الرايحة
ونصف لقمة تتخم ... لمن يكو شبعان
قبل كفوف أضدادك ... حتى يلوح لك قطعها
فإن ظفرت فقطع ... عروقها بأمان
كم يصبر التاج حتى ... يعلو على راس الملك
من حر ضرب المطارق ... والكور والسندان
وما ملك مصر يوسف ... حتى سجن وسقي غصص
من أخوتو وزليخا ... والقيد والسجان
لا تفرحي يا جديدة ... ما حب حدّ ما حبني
من فرد كلمة رماني ... كن الوفا ما كان
كل الذخاير تنفع ... حتى الذنوب السالفة
إذا ذكرها العاصي ... يستغفر الرحمان
والشخص يرمي كلمة ... من كان قريب يحرد لها
فكل من قال طاسة ... تخاصمو القرعان
ما نفرض إلا تحرد ... أحرد من أربع مية سنة
وأنت آش لك معنى ... إن لم تكن حردان
ومن لطايف البغاددة أيضًا في هذا الفن قول بعضهم وهو:
أنا عرفتو حظي ... إلى من أحسنتوا يسيء
لو كنت أعشق ظلي ... ما كنت قط أراه
فلو مشيتو مع ابني ... قالوا صبي قد ولفه
ولو حملتو مصحف ... قالوا كتاب الباه
أنا عليك إذا فزع ... وإلا على آش قلبي أنا
لا تلتقي في شبابك ... بعض الذي تلقاه
من حال ما أبصرك تنفر ... وتعفص أنفك بالحرد
كأنك بن الخليفة ... أو بن شاه هنشاه
قلت: ويعجبني قول القائل:
وحش وحق المصحف ... تكون سلطان الهوى
وما يكن لك قدرة ... تصبر على الهجران
ويعجبني أيضًا قول القائل:
الحار عندك بارد ... والنهر عندك منقطع
والعين صا ما فيها ... واش يعمل القوام
(5) :/القوما
القوما
*****************
يقال أن أول من اخترعه البغداديون في الدولة العباسية برسم السحور في رمضان، وسمي بهذا الاسم من قول المغنيين بعضهم لبعض "قوما لنسحر قوما" – القوما والكان كان لا يعرفهما إلا أهل العراق.
القوما له وزنان، الأول مركب من أربعة أقفال، ثلاثة متوازية في الوزن والقافية، والرابع أطول منها وزنا وهو مهمل بغير قافية. والثاني من ثلاثة أقفال مختلفة الوزن متفقة القافية، يكون القفل الأول أقصر من الثاني والثاني أقصر من الثالث. كل بيت من القوما قائم بنفسه، وأما تأثيره فلعدم إعرابه.. مثال:
حال الهوى مخبور يريد جلد صبــور
يصـون سـره والا يبقى من أهل القبور
من كان هواه مسـتور يحظى برفع السـتور
ومن هتـك سرّ حبو يمحـى من الدستور
كم حول تلك الخدور من عاشق مغدور
مثل الواليب تجري دموعهـا وتـدور
الدوبيت
هو من بحور الشعر المهملة، ولفظه دو بيت مركبة من كلمتين الأولى فارسية بمعنى "اثنين" والثانية بمعناها العربي "بيت"، ولا ينظم إلا بيتان في أي معنى يريد الناظم، ولا يجوز فيه اللحن مطلقا. ويشترط أن يكون الصدر من البيت الثاني مخالفا للأشطر الباقية في القافية، وتكون الثلاثة الأخرى على قافية واحدة. ويستحسن في نظم الدوبيت التزام الجناس. مثال:
القلب اليك مال شوقا وصبا والصب جوى يبيت يشكو وصبا
بالله عليك لا تطل هجر شج قد هيج وجـده شــمال وصبا
وهناك نوع آخر يقال له دوبيت المردوف: مثال
أغصان هواك بقلبي غربت من غير كلام
أشكو غدا أذا النجوم انكدرت في يوم زحتم
والصحف اذا تطايرت وانتشرت والناس نيام
نفس سألت بأي ذنب قتلك والقتل حرام
هذا واسال الله ان يعم نفعه على الجميع
سامحوني للاطاله
وشكراً لكل من صبر على قرءاته
اخوكم خلف محمد
مصراوي مصراوي مصراوي مصراوي مصراوي